آراء

معاريف: هكذا يتحول “الشرق الأوسط الجديد” إلى مكان للفوضى وتنافس بين القوى العظمى

“الشرق الأوسط الجديد الذي أراده شمعون بيرس الراحل لفظ أنفاسه منذ زمن بعيد، وحل محله الشرق الأوسط الجديد – القديم من الفوضى والاضطراب والمنافسة بين القوى العظمى. إسرائيل جزيرة منعزلة من الاستقرار في ذلك القدر الجغرافي – السياسي (وهذه أيضاً قد تهتز إذا ما واصلت الفوضى على نمط ميدان باريس). كما أن تعريف “الشرق الأوسط” آخذ بالسقوط بينما يحل محله اصطلاح “شرق البحر المتوسط” في هذه اللحظة.

في الماضي كان قسم كبير من وزارات الخارجية في العالم نوعاً من المثالية المطلقة التي تقول إن النزاع الإسرائيلي – الفلسطيني هو السبب الأوحد والوحيد لانعدام الاستقرار في الشرق الأوسط ولكل مشاكل أمريكا والغرب عموماً في المنطقة. فالمستشار السياسي للرئيس كارتر، زبيغنييف بججنسكي، مثلاً، لم يترك فرصة ليقول إن “الطريق إلى بغداد (أو إلى أي مكان آخر في المجال) تمر عبر القدس” مع تلميح واضح بأن القدس، أي إسرائيل، هي المذنبة في كل المشاكل. وعندما شرحت في محاضرة، كنت ألقيتها بالجامعة العسكرية في واشنطن قبل نحو 30 سنة، بأن ليس لإسرائيل أي صلة لعشرات الحروب في منطقتنا منذ الحرب العالمية الثانية، قد أكون أقنعت جمهور المستمعين، ولكن مشكوك في أن أكون حركت “خبراء” الشرق الأوسط المهنيين عن شعارهم.

 

وذلك على الأقل إلى أن صفعتهم أحداث مثل الثورة الإسلامية في إيران، وحرب الخليج الأولى، وإرهاب القاعدة و”داعش”، والحرب الأهلية في سوريا “الربيع العربي” وما شابه. فضلاً عن ذلك، كما كتب رجل العلوم السياسية الفرنسي جيل كابل في كتابه “الابتعاد عن الفوضى”: “بعد حرب يوم الغفران في 1973 كان الإرهاب الإسلامي، والخصومة المتطرفة بين طهران والرياض، وغزو الاتحاد السوفياتي في أفغانستان، والجهادية الدولية في أعقابه- فهذه وليس النزاع الإسرائيلي العربي هي التي عرفت ما حصل منذئذ في الشرق الأوسط”. لقد كان كابل متفائلاً بالنسبة للتطورات التي تحدث في العالم العربي البراغماتي. وبالفعل، أخذ تقارب المصالح بين إسرائيل وبعض هذه البلدان على خلفية التهديد المشترك من إيران يؤكد هذا التقدير، ولكن لا يوجد أي شيء ثابت في شرق البحر المتوسط، ويمكن للأمور أن تتغير بين ليلة وضحاها، إيجابا أو سلباً.

ولئن كانت الولايات المتحدة في الماضي القوة العظمى الأجنبية المؤثرة الأساسية في المنطقة، فقد تآكلت مكانتها في عهد أوباما وترامب، بينما تعاظمت مكانة روسيا بالتوازي، وفي الوقت نفسه أصبحت المنطقة ساحة لانتشار هيمنة اللاعبين المحليين، إيران وتركيا. تتواصل الميول العدوانية والإرهابية لإيران عملياً منذ الثورة الإسلامية في 1979، ولكنها ارتفعت درجة بعد الاتفاق النووي بينها وبين الولايات المتحدة وروسيا والصين والاتحاد الأوروبي، وبعد قرار الرئيس أوباما الهجر التدريجي للشرق الأوسط (النية التي واصلها الرئيس ترامب أيضاً) ولاحقاً لتدخلها، إلى جانب روسيا، في الحرب الأهلية السورية في صالح الرئيس الأسد. صحيح أن الميول العدوانية لطهران اصطدمت بأعمال مضادة بأنواع مختلفة من جانب إسرائيل، بما في ذلك نصب حواجز في وجه أعمالها في سوريا، لكن هذه ليست نهاية المعركة، فما بالك أن تسمح سياسة تصالحية من جانب إدارة ديمقراطية في الولايات المتحدة فتلغي معظم الخطوات التي اتخذتها إدارة ترامب ضد طهران، بالعودة إلى عادتها القديمة.

كما أن لقصة تركيا خلفية هيمنة تنغرس في الماضي العثماني وفي الأيديولوجيا الإسلامية السُنية التي يتبعها الرئيس أردوغان. وإذا أدت الخطوات الإيرانية في نهاية المطاف إلى اشتعال مباشر، ليس بالتحكم من بعيد أو من خلال مبعوثين مثل حزب الله والميليشيات الشيعية المختلفة التي تأتمر بإمرتها، فإن المبادرات التركية التي تستهدف تثبيت مكانتها السياسية والاقتصادية قد تصبح بؤرة اشتعال في المنطقة كلها وتمس بأوروبا أيضاً. ينبع السعي التركي للهيمنة من أسباب جغرافية – سياسية وسياسية داخلية، ترتبط بالمواجهة مع أقليتها الكردية وإخوانها في سوريا (وفي العراق) والمصالح المرتبطة بمقدرات الغاز الطبيعي والنفط في شرق البحر المتوسط بهدف التخريب على مخططات اليونان وقبرص وإسرائيل ومصر في هذا السياق. أما ليبيا، بعد مقتل معمر القذافي، فأصبحت سلسلة حروب الكل ضد الكل، حيث ارتبط إلى جانب الجهات المحلية والمرتزقة المختلفين “نوع من الأمم المتحدة الصغرى” من الدول الأجنبية: من جهة تركيا التي هي عضو في الناتو، ومن جهة أخرى مصر وروسيا واتحاد الإمارات وفرنسا التي هي أيضاً عضو في الناتو. بالفعل، شرق أوسط جديد؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى