تقارير وتحليلاتوجوه

خاص|| سكينة جانسيز: حياتي كلها صراع! (الحلقة الثامنة)

 

الرجل الذي جاب البحار؟

بدأتُ الدراسة الإعدادية في “حي الجبل”. إذ ثمة قسمٌ مخصَّص للمرحلة الإعدادية داخل مبنى “ثانوية تونجلي”. زادَت الأعمدة التي تتناول الأحداث والمستجدات في الجرائد، وتضاعفت التقارير عنها في المذياع. راجَ هذه المرة ذِكرُ جماعة “دنيز كزميش”. لكن اسمَ “دنيز كزميش” بالتحديد هو الأكثر رواجاً ولفتاً للأنظار. كنتُ أعتقد بدايةً أنهم يتحدثون عن “رجلٍ جاب البحار” ، ولم أفهم أسباب كثرة الحديث عنه إلى هذه الدرجة. لكنه اكتسبَ مع الوقت مزيةً طغَت على باقي الأحداث.
عجَّت الشوارع الرئيسية والأزقة المزدحمة باللافتات والملصقات، التي تحتوي صور الملاحَقين مذيَّلةً بموجز عن سجلاتهم. بَدأَ كل مَن تفحّصوها بفضولٍ يتهامسون: “كم إنهم شجعان!”. حقاً، كانت نظراتهم ووقفاتهم جريئة. فكل واحد من هؤلاء الأشخاص المختلفين في مزاياهم، كان عيناه تتميز ببريق الأمل وبنظرة التحدي. تأثَّر الجميع بهم، أكان عن وعي أم من دونه. لم يعرف أحدٌ الكثيرَ عمّا فعلوه. لكن الصفة المشتركة المُطلَقة عليهم هي أنهم “إرهابيون” أو “شيوعيون فارّون”. وقد شُهِّرَ بهم على أنهم قتَلةٌ ونهّابون ومجرمون، ووُعِد كل مَن يعثر عليهم أو يُخبِر عن أماكنهم بجائزة كبيرة! تُرى، أيّ وجدان يرضى الإخبار عنهم؟ هل هناك مَن مات ضميره لدرجة التجرد من إنسانيته؟
تمعنتُ بفضولٍ اللافتات المعلّقة على عامود الكهرباء في الطريق السفلي، الذي طالما أَعبرُه قبل وصولي المدرسة. تفحصتُ وجه كل شخص من الحشد المجتمِع هناك بعد قراءةِ جملة “سيُكافأ المُخبِرون”، علّني أدرك من ملامحهم إن كان المُخبرُ المحتمَل موجودٌ بينهم أم لا. برزَت تجاعيدُ وُجوهِ بعضهم ألماً، بينما نمَّت نظرات آخرين عن المحبة. وتهامسَ آخرون: “كم إنهم شبان شجعان!”. قررتُ ضمنياً أن آتي حتماً برفقةِ بعض رفيقاتي، لتمزيق ما نطالُه من هذه الملصقات في استراحة الدروس، حتى إذا لم نَطَلْها جميعاً. قيل أن هناك ملصقات مماثلة في مدخل مبنى المشفى المجاور. من المؤكد أن مبنى المشفى سيَكون أسهل لنا، لأن الذهاب إلى ممرها السفلي مسموح دوماً، على عكس طوابقها العليا التي يُسمَح الذهاب إليها في أوقات محدودة.
وفعلاً، نفذتُ مع رفيقاتي ما قررتُه، ومزّقنا ما تمكّنّا من تمزيقه أثناء استراحة المدرسة. لقد أُلصِقَت الملصقات بغِراءٍ قوي في أماكن تَفُوق قاماتنا. لكن الملصقات التي على مدخل المشفى كانت أسهل تمزيقاً. إلا إنه لم ينتهِ كل شيء. إذ اعتقدنا أنه لن يلصق أحدٌ تلك الملصقات ثانيةً هناك، وأنه بالتالي لن يُعثَر على الملاحَقين. لقد كان تفكيراً طفولياً بحق.
لكن، لا!
فكأنهم ينثرون بذلك بذور التمرد في طفولتنا. إذ أثّرت الأحداث في عالَمنا الفكري والعاطفي، وقلَبَته رأساً على عقب، وعلَّمَتنا أشياء مختلفة. ففي أولى أيام الدراسة الإعدادية، رأيتُ نفسي وسطَ احتجاج عارم. كان المطر يتساقط خفيفاً ذاك اليوم. وكان المحتشدون في حديقة المدرسة الثانوية يذهبون يُمنةً ويُسرةً في حماس وعنفوان. أما “الإخوة” الذين يوحّدون المجموعات المتفرقة، والذين يَعرفهم الجميع ويحبونهم، فيجتمعون بين الفينة والأخرى خارج المجموعات، ويتكلمون همساً ثم يتفرقون بين المجموعات. فجأةً انتشرت العربدة، وبدأت الألسن تتداولُ اعتقال الشرطة لكل من “علي يشيل” و”حسن” و”متين” وغيرهم. وكلهم من طلاب السنة الأخيرة من المرحلة الثانوية. تحدَّثَ “شيناسي أسكي تشيراك” صارخاً حانقاً، وهو نائب مدير المدرسة، ولكنه يتكفل إدارة المدرسة مباشرةً بسبب غياب المدير. ولمّا وصلَت عناصر الشرطة إلى الحديقة، ودخلوا بيننا، كان الأستاذ “شيناسي” ما يزال يصرخ، ليَضيعَ كلامه وسط الضجيج. وذات حين، صرخ قائلاً للشرطة:
“أين علي وحسن؟ أريد طلابي. بأي عقلٍ يأخذون طلابي إلى المخفر؟ أياً كان الآمِر في ذلك، فهؤلاء طلاب! ولم يرتكبوا أي جُرم أبدااااااا!”.
تعاظَمَ الازدحام موجةً وراء أخرى. الجميع يترصد بفضول. ما من أحد يسأل عمّا يجري! وما من أحد قادر على الرد على هكذا سؤال. أصبحت النقمةُ جواباً مشتركاً بين الجميع. وما زال أستاذنا “شيناسي” يتحدى ويتوعد بكل جرأة قائلاً: “خذوني أنا أيضاً إذاً!”.
أثار هذا التحدي غضب عناصر الشرطة، ولكنه بالمقابل حطم شجاعتهم. فالطلاب خارج المدرسة وقد قاطعوا الدروس. بل والمدير أيضاً في عصيان. لذا، لَم تملك عناصر الشرطة أية حيلة سوى انتظار الأوامر، وتربُّص الفرصة السانحة، وتخمين ما سيجري وكيفية انفجار الجمع المحتشد. لقد انعكس ذعرُهم على سلوكهم. في حين أن بعضاً منهم اكتفى بالتفرج من بعيد، وكأنهم غير آبهين بشيء.
وفور وصول الأوامر، نجحت عناصرُ الشرطةِ في اعتقالِ الأستاذ “شيناسي” أيضاً، بعد عدة محاولات للإمساك به من الطرفين، وسطَ رفضٍ صارمٍ منه ودفعِهم إياهم بقوة. ثم استأنفَ الأستاذ كلامه صارخاً أثناء توجهه نحو سيارة الشرطة. وفورَ تحرُّك السيارة، تدفّقَ، بل ركضَ حشدنا نحو بوابة الحديقة. قلّدتُ ما يفعله الآخرون. قال “صبري جنكيز” في البداية بضعة كلمات أمام البوابة، ودعا المحتشدين إلى الوقوف دقيقة صمت. ارتفعت قبضات الأيادي اليُسرى في الهواء. ثم عبَرنا جميعاً الشارعَ نحو الأسفل. بقَينا مجتمعين حتى مكان معين، لنتفرق بين الأحياء على شكل مجموعات عند تقاطع الطرقات. ثم أدركتُ أن هذا كان إجراءاً احترازياً، كي لا تتمكن الشرطةُ منا.
إن “خالدة بورقاي” التركية الأصل هي زوجة كمال بورقاي، وهي معلمتنا في درس الآداب. كانت دروسها مميَّزة. إذ غالباً ما تقرأ علينا مختلف الأشعار. وذات يوم، قرأت علينا شعراً، ثم أوضحَت أنه لزوجها كمال بورقاي، الذي كان معتَقَلاً حينها. في اليوم التالي من مقاطعة المدرسة، قيل لنا أنه نُفِيَ العديد من معلِّمينا وبعض طلاب الثانوية. نُفِيَ أخي الأكبر أيضاً إلى “ثانوية طوران أماكسيز في ملاطية”، والتي تُعرَف أنها “بؤرة الفاشيين”. كما نُفِيَت معلّمتنا “خالدة بورقاي” إلى “ثانوية ألازغ”، التي يسيطر عليها الفاشيون. لكنها لم تذهب. كما نُفِيَت معلمة أخرى كانت فارعة القامة. كل المعلّمين المنفيين كانوا “يساريين تقدميين”. وقد عُدَّ المعلمون والطلاب المنفيون على أنهم “زعماء العصابة”. قدّمَ بعض المعلمون استقالاتهم رداً على ذلك، واختلط الحابل بالنابل.
كان “يوسف كنعان دنيز” معلّم درس الآداب في السنة الثانية من المرحلة الإعدادية. وقد سرَدَ لنا ذات يوم أموراً مثيرةً. إذ رسَم على السبورة مثلثاً ضلعاه طويلان. ثم خطَّ خطاً أفقياً آخر على القِسم العلوي من المثلث، ليبدو كمثلث صغير مختلف. وقال أن المثلث الصغير العُلوي يمثل طبقة الحكام والاستغلاليين، وأن القسم الفسيح السفلي يمثل طبقة الكادحين والعمال والشعب. وحاول شرح القمع والاستغلال لنا بلغة بسيطة جداً، وأوضح أنه على المسحوقين أن ينظّموا قوتهم، وأن يناضلوا ضد الساحقين دون بد، وأن “اتحاد الشباب الثوري في تركيا”(٢) سيَكون القوة الطليعية في هذا النضال، وأننا سنتخلص من الاستغلال بالنضال تحت رايته.
ضاعَفَ هذا الشرح من محبتنا للأستاذ “يوسف كنعان دنيز”، الذي يُعَدّ أكثر المعلمين “يساريةً”. إذ عرَّفَ لنا علاقة الساحق والمسحوق، بل وخطَّ على السبورة محاوِلاً شرحَها وتبسيطها. وفور بدء الاستراحة، شرعنا جميعاً ننادي باسمِ “اتحاد الشباب الثوري!”، دون أن يعلم أغلبنا إن كان هذا اسمُ تنظيمٍ أم شخصٍ أم شيء آخر. حذّرَنا المعلم في الدرس التالي: “لا يمكنكم المناداة بهذا الاسم عشوائياً في كل مكان. ومن الخطر ذكرُ ما نشرحه لكم في أي مكان آخر”. وعَلَّمَنا السريةَ قائلاً: “ثمة أمور لا تُقال في كل زمان أو كل مكان!”.
استمرّ الزمان أيضاً في تعليمنا.
أَشعلَت حادثةُ “قزل دره”(٣) النزعةَ “اليسارية الطفولية” في فؤادي. إذ تصدَّرَت الجرائدَ صورةٌ للقرية وللمنزل المدمَّر بعد الاشتباك، وصورة لـ”أرطغرل كوركتشي” الذي عُثِرَ عليه في مخزن التبن، وصوَر المقتولين. كانت الصور كبيرة وملونة. تأوّهَ كثيرون على منظر “ماهر تشايان” بعيونه الواسعة الجميلة. لقد قُتِلَ عشرة أشخاص. آه يا قزل دره! كيف تحملتِ ذلك؟ كنتُ أتمعن الجريدةَ مُبحِرةً في التفكير: كانت عيناي تحثّاني على البحث. فهذه الحادثة هي أكثر دمويةً من حادثة “بير سلطان عبدال”. إذ طمحَ هؤلاء الشبان بدايةً إلى الانفتاح على البحر الأسود، للبدء بحرب الكريلا من الأرياف. لكنّ نبأ إعدام “دنيز كزميش” ورفاقه شاعَ في تلك الفترة. لذا، قاموا بأَسرِ بعض الموظفين في قاعدة الناتو، بهدف الحيلولة دون إعدام دنيز ورفاقه. لكن الأحداث لم تَجرِ كما اعتقدوا.
أُعدِمَ دنيز ورفاقه في 6 أيار. لا أبداً، لم أَعُدْ أعتقد أنه مجرد “رجل جاب البحار”. بل كان مناضلاً ثورياً، بل وشيوعياً خطيراً على الدولة. لذا، لم يصدروا حكم الإعدام عليه عبثاً. حاولتُ تَصوُّر منظر منصة الإعدام، لأني لم أَكُن قد رأيتُها قط.
راجَ الحديث عن الإعدام بين الجميع، وعجَّت الجرائد بالأخبار المصورة حوله. اشترى الجيرانُ الجرائد، لاسيما العم “علي أتامان”. كنت أتأسف في هكذا حالات قائلةً: “ليت ثمة مَن يشتري الجريدة في منزلنا أيضاً”. حاولتُ شراء صحيفة “غون آيدن” أو أي جريدة تكتب عن ذاك اليوم وفيها صور كثيرة. لكن أمي عارضت ذلك، لأنها حتى في تلك الفترة رأت أن اقتناء الجريدة أمر خطير. فحسب اعتقادها، فإنها لا ترغب أن نتعلم الأمور الخطيرة. ولكن، لماذا أهتم أنا بهكذا أمور على الرغم من أني فتاة؟!. لكنّ إصرار أمي على الحظر، ومواقفها الممانِعة لتعلُّم حتى أبسط الأحداث، دفعني أكثر نحو التعلم. لم تدرك أمي أنها بذلك كانت تُحسِن إليّ وتدفعني لتعلُّمِ وفهمِ أمور جديدة.
تُعَدُّ عائلة العم “علي أتامان” كبيرة. فابنتهم “فتحية” تدرس في “مدرسة الفنون للبنات”. و”بريخان” هي صديقتي في المدرسة الإعدادية. أما الآخرون فهم صغار. والأم “أمينة” هي المتحكمة بالمنزل والمدبّرة لشؤونه. لم يكُن هناك قمع على الفتيات. بل يثابر الجميع على مطالعة الجرائد أو الاستماع سويةً إلى المذياع. لطالما حسدتُهم وحسدتُ أمهم: “ليت أمي أيضاً كانت كذلك”. لذا، كانت علاقتي معهم حميمة.
دنيز، ويوسف، وحسين!
باتت الأسماء الثلاثة على لسان الجميع يذكرونهم لأيام. فلم يتناول أحدٌ الطعام أثناء إعدامهم، أو بقيت الصحون شبه ممتلئة. لم تَبقَ للطعام أية نكهة، أسفاً عليهم، أو خوفاً على أقاربهم أو على الشباب الآخرين في المدن الأخرى. أذكر أن فتحية وإخوتها أيضاً بَكوا عليهم بحرارة، وأننا قصَصنا صورهم من الجرائد، وخبّأناها. بل وهناك مَن علّقَ صورهم في منزله أيضاً. وقد خصّت بعض الجرائد صفحة كاملة لصورهم وأخبارهم. هكذا، دخل دنيز ورفاقه كل منزل و”لَم يَجوبوا البحار فقط”. ردد كثيرون الشعارات التي أطلقها هؤلاء الشبان وهم متّجهين نحو منصة الإعدام، وقرأوا أجزاءً من رسائلهم التي انعكسَت بالتوالي على الجرائد، وناقشوا حولها. كتَبنا أسماءهم على دفاترنا، ودوّنّا الأشعار بحيث يبدأ كل بيتٍ بأحد حروف أسمائهم. لقد انهمكنا بضبطِ الشعر حتى يحتوي جميعَ حروف أسمائهم. بل واصطنعنا شكلَه أيضاً بعقلنا الطفولي، لكن الأشعار كلها كانت عامرة بالعواطف الحميمة تجاههم وبالحقائق بهم. كانت أشعاراً جوهرية، وشفافة، ونقية، وتدل على الاستياء من الدولة التركية.
——-
١- معنى اسم دنيز كزميش: “دنيز = البحر” و”كزميش = الجوال”. بالتالي معناه حرفياً: مَن يجوب البحار. ودنيز كزميش ثوري ومناضل يساري، أعدمَته القوات التركية مع رفيقَيه في النضال: حسين إينان ويوسف أصلان في 6 أيار 1972.

٢- وهو تنظيم اشتراكي يساري أسسه طلاب جامعيون في أواخر عام 1965 تحت اسم “اتحاد نوادي الفكر”، ليغير برنامجه واسمه في مؤتمر طارئ عقده أواخر عام 1969 إلى “اتحاد الشباب الثوري في تركيا”.

٣- وتعرَف أيضاً بـ”مجزرة قزل دره”. وقد حصلت في 27 آذار 1972. إذ، وبهدف عرقلة إعدام دنيز كزميش ويوسف أصلان وحسين إينان إثر اعتقالهم بعد انقلاب 12 آذار العسكري في تركيا، قام رفاقهم بريادة ماهر تشايان باختطاف ثلاثة موظفين أجانب في قاعدة الناتو العسكرية ببلدة أونيا، وبنقلهم إلى منزل مختار إحدى القرى في تلك المنطقة. وإثر إخبار أحد أهالي القرية عنهم، حصلت اشتباكات دامية بينهم وبين قوات الأمن التركية، لَم يَنجُ منها سوى أحد شبان المجموعة، ألا وهو أرطغرل كوركتشي.

ترجمة: بشرى علي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى