ثقافة وفنون

التشكيلية ميرفت عيسى Mervat Essa .. استنطاق الرمز تواصل الذاكرة مع الوطن

 

استطاع الفن في الفترة المعاصرة أن يُدمج قيمه وجمالياته وابتكاراته الأسلوبية وتجلياته الفنية مع كل التوافقات الواقعية والنفسية والاجتماعية باختلافاتها ومواقفها وتطوراته ودرجات الوعي التي تربط المنجز بالفكرة والفهم بالمتلقي، خاصة لو كان للفنان دوره التوفيقي في خلق موقف وجماليات وحضور يؤكده التعاطي الأول مع الأرض والذاكرة والوطن كقضية حياة وموت بتناقضات رمزية.

وهي الفكرة التي ترتكز عليه التشكيلية والفنانة النحاتة الفلسطينية ميرفت عيسى لتوصل صوتها وصورتها وأرضها وذاكرتها ومفاهيمها المعاصرة في التنفيذ الفني والجمالي وهي تنبش في الحجر وتبحث في التراب والطين وتمارس التجريب لتلتقط الإحساس وتستوعب انفلات الصور في الذاكرة المشحونة بالعلامات والرموز لتعيد صياغتها بصريا وتحاكيها بمفاهيم وقيم فنية.

تجاوزت تجربة الفنانة والنحاتة ميرفت عيسى النحت نحو ابتكارات تندمج مع الحجر في جدلية تحاول بها أن تُخرجه من صمته بمجازاتها لتُحوله من عنصر جامد بلا حركة متروك في فراغ التكوين إلى تشكيل مصقول له حركته المتفاعلة مع المساحة والفضاء والمفهوم حتى لو كان بلا فعل أو أن حركته مستحيلة في مخيّلة المتلقي إلا أنها استطاعت أن تعبث بالمعنى المألوف وتراوغ المستحيل بالممكن في التجريب التكويني.

 

فهي تبعث في خاماتها الصلبة والطيعة حركة المعنى والذاكرة باستفزاز طاقة التخيّل من خلال ما تصقل من ملامح ومجسمات تعطيها وظيفتها ومعناها في التصور الواقعي وفق جماليات وابتكارات تستقي رموزها من تاريخ فلسطين وحضارتها بشكل مألوف ومتآلف مع المفهوم الذي تريده، فمنحوتاتها تعكس صورتها الفلسطينية بتدقيق أنثى تبحث عن التفرد وسط وطن يعاني من عوائق الحدود وتشابك الجغرافيا لتعكس أيضا انتماءها وحكايتها ونكبة عاشتها في الذاكرة والسرد والمعايشة التي رغم حضورها المزدوج في أرض أخرى إلا أنها لم تنفصل عنه بل حافظت ضمنيا على انتمائها الأول كما حاولت به أن تنتصر لتكون حقيقية.

تبدو المظاهر المستوحاة من عمق الصور العالقة في الذاكرة في تجربة ميرفت عيسى واضحة العواطف قويّة التشكل النحتي فهي تبالغ في حواسها الذهنية التي تحاور عناصرها وتماثلاتها وقوالبها المتناغمة مع جدلياتها الفكرية في سرد القصص من عمق الأرض والتاريخ.

تروّض خاماتها لتكون جاهزة لمشاركتها الدور فهي مع منحوتاتها تتشبه بملامحها، وطنها في تجاذبات الحق والسلب التناقض بين الوجود والعدم الواقع والخيال وتداعياته المتصادمة والحدود التي تشوّه المعنى من خلال التفاصيل التي تشبه الأرض في تقنياتها النحتية، حيث تتحدى قساوة الخامة بأنوثتها التي تتعمّق بالتفاعل الحسي والذهني.

فالحجارة وكما تعبر ميرفت لا يمكن لها إلا أن تكون طيّعة للمفاهيم التي تعاند جمودها الأخرس حتى تواجه عنف الواقع برقّة التفاعل واندفاع الحواس وصخب الاستنطاق والمواجهة والصمود والمحاورات العنيدة خاصة وأنها تعتبر النحت على الصخر تحدّ بالغ للمشاهد المُعتمة والحدود الضيقة التي تفجّرها وتهب طاقتها الفرح، لأن كل ما تفعله يحرّك المنحوتة ليستوعب الفكرة منها حتى تجتاح الخامة الصلبة في توظيفها الرقيق المندمج مع مشاعر الحنين والتذكر ومزاج البحث وبالتالي فهي لا تكتف بالنحت ولا تقلّد أحدا بل تتآلف مع محاوراتها الذاتية لتترك خاماتها حرّة وهي تمارس معها مغامراتها الجمالية بكل تفاصيلها التي تستحقها وتتجاوب معها من أجل أن يكتمل انتماؤها لذاتها لأرضها ولفنها.

إن ميرفت عيسى من خلال أعمالها وتجريبها المستمر مع الخامات الطين أو السيراميك والحجر، تحاول تطويع التكوينات النحتية لتفرض ذاتها على التداخلات النفسية والتصادمات الوجودية والحسية وهي توجّه نظرها إلى الحالات والذوات بين الأنا المتعايشة والذوات الغائبة والذوات الحاضرة في تقاسم مختلف المشاعر والمفاهيم والاسترجاع والتذكر في التوافقات التي تحوّل الأزمنة والأمكنة في المجاز التشكيلي إلى طبقات وثنايا وزوايا ترتّب مسارات المنحوتة ومحاوراتها مع الفراغ.

تبدو العملية النحتية التي تقدّمها ميرفت عيسى معاصرة في قيمها المعتمدة على المفهوم والدلالة البصرية التي تجمع العناصر المختلفة فهي إضافة إلى النحت النافر والغائر وتركيز الأبعاد تدمج الحركة والصورة وتستعير من الذاكرة ما يشبه انتماءها من صور وأقمشة وخيوط وزجاج وحجارة وتراب لتكوّن حكاياتها البصرية مستجيبة لواقعية السرد، حتى تحمل الحكاية أُلفة التبادل بين خيالها والتقاط المفهوم من المتلقي ليكون هذا التبادل بمثابة استرجاع للتاريخ والأرض ومصارعة لفكرة الوجود المشوّه بالوجود المستمر وبتجميع الذاكرة.

إن كل ما تُقدمه ميرفت عيسى في التصورات النحتية التي تبدو في توافقاتها غير مألوفة في التصور النحتي إنما تعكس أسلوبها ورؤاها البصرية وحضورها المبالغ في الاندماج مع الأرض واستباقها لذاكرتها ومستقبل وجودها، أما التركيز على الخامة ودمجها وتوظيف عناصر أخرى وتطويع الكتل والأحجام وزخرفة الأشكال إنما هو عبث داخلي تجريبي له منافذه الجمالية التي تحاكي الوجود الحقيقي في الواقع  بقيمه الراسخة وحكمته في تفعيل الأداء الذهني عند التلقي وطرح الأسئلة وتوثيق الأجوبة مع الحواس الذهنية التي لا تتراكم بقدر ما تبحث وتنتشر وتثير أكثر رؤى التجريب.

 

*الاعمال المرفقة

متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية

Farhat Art Museum Collections

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى