ثقافة وفنون

الحرف العربي من الخط إلى التشكيل .. تجارب تعكس مقامات لونية تنفلت من الزمن نحو تشكّل معاصر

يتميز الخط العربي بالتنوع الفني والجمالي الذي جعله عنصرا مهما في البناء التشكيلي والفني له علاماته التعبيرية وطاقته، فالحرف العربي يكتب متصلا في الكلمة وهو ما يمنحه ذاتا تشكيلية عنصرا وفكرة، انطلاقا من التراكيب إلى التواصل جمالي في التناسق الرشيق والتناغم الايقاعي للمجاز في اللغة، فالخط يتكون من الحركة التي تقوم بها اليد والتي تهب للمعنى شاعريته الفنية والغنى الجمالي الشيق في الرؤية البصرية لأشكال الحرف، كما لا ينفصل الحرف والخط في اللوحة المنجزة عن الفضاء الذي يتشكل معه زخرفه وهو ما حوّل الخط العربي إلى فن أصيل وثابت وفي نفس الوقت له حضوره الحديث ومرونته في التشكل وفق الفكرة والدلالات الفنية فقد تماهى الخط مع المدارس الفنية الغربية ومن بينها التجريد الذي يعتبر غير غريب عنه لما له من علامات رمزية وتأثر إيحائي التشكل، فكثيرا ما اعتمد كعلامة تجريدية للتعبير عن الحالات النفسية والعاطفية والوجودية ذات التداخل الرمزي الحضاري.

من أعمال الفنان فائق عويس

إن الخط العربي هو فن تشكيلي له عناصر ومقومات خاصة فاللوحة المنجزة على العنصر الخطي تجمع قيم التشكيل والمعنى والجمال واللون وفي عرض لمجموعة من اللوحات التشكيلية القائمة على الحرف والخط العربي قدّم متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية مجموعة من التجارب لتشكيليين وخطاطين قدموا الحرف العربي في رموز وتجليات مختلفة مثل تجربة التشكيلي الخطاط حسن المسعود من العراق إبراهيم أبو طوق من الأردن، عدنان المصري ووجيه نحلة من لبنان، التشكيلي عدنان يحي فلسطين-الأردن، الفنان خالد ترقلي أبو الهول من سورية، الفنان فائق عويس فلسطين، في هذه التجارب المعروضة نتبين رؤى فنية ارتقت بالحرف والخط العربي في أصالة أصرت على الإبقاء على ميزته من خلال أسلوب كل فنان في ابتكار هندسته الجمالية والبصرية الحديثة، ومن خلال هذه الأعمال نتبين الملامح الجمالية في كل أسلوب كل فنان والتجديد المتأصل في رؤاه.

عن تجربته وعن الخط وجماليته التشكيلية يقول الفنان والخطاط العراقي حسن المسعود “الحروف عندي ليست مجرد كتابة إنما هي عمل فني بحد ذاتها والحرف نفسه طاقة ولا بد أن يعكس شيئين الأول هو القوة والدقة والثاني هو الاسترخاء والرفاهة فيجب أن يعكس الحرف مسيرته هو نفسه الدفع مرة والسحب مرة أخرى السرعة أو البطء الثقل أو الخفة الاستقرار أو الانفجار”.

الخطاط حسن المسعود

يمتاز حسن المسعود بأسلوبه الذي يتأثر بطاقة المعنى في كل الكلمات فيفجّرها على الورق، ويتحوّل بانفعالاته نحو الحروف التي يشكّلها صورا تترآى في مخيلته وتصوراته والتي تمتزج مع مزاج وعواطفه وموقفه ونظرته للواقع والطبيعة وكل ما يحرّك العالم من حوله في صدامات وتفاعلات لا تنفصل عن وجوده هو كذات فيشكل خطوطه وفق انفعالاته إذ يرقّصها بألوان البقاء وضوء الحياة و يهندسها بشجن الإنسانية ويتحول بها إلى انغلاق صامت ومثقل بألوان معتمة وهذا لا ينفي منفذ النور والأمل الذي يحاول أن يشي به ويخرجه، لذلك تتمازج الألوان وتتراقص وتنحني في حركات وإيماءات مثقلة بالأفكار ساطعة بالأنوار المتضاربة في تناقض حسي بين العتمة والابهار الضوئي، فتجذب الألوان المشاهد لتسافر به داخل مساحة الحرف وتؤثر في نفسيته كما هي حركة الحرف الحيوية المنبعثة من اشتقاقات الألوان الحارة والباردة ليرحل عبر الكلمة بين الشرق والغرب بين الأنا والآخر وليتنفس داخل صور المعنى مجاز متعته البصرية، فيبني تشكيلاته الخطية وفق تفاعل وعلو يسمو بها كتماثيل عالية منطلقة بحرية في عناق مع طبيعة الحياة ضمن عملية ديناميكية يستلهمها من بيئته ومن حنينه وتراكم أحاسيسه وذاكرته الكثيفة وموهبته التي تمنح الحرف قوة في الأداء الذي يتناغم مع الموسيقى، فهو يعتمد الخط كوسيلة تعبيرية مع الفنون الأخرى بهدف دفع الخط العربي إلى عوالم جديدة دون أن يقتلعه من بيئته العربية الشرقية.

أما وجيه نحلة فقد خاض تجربة حروفية ارتكزت على الحرف العربي كذات منفصلة لها كيانها ما  عكس مهارة مختلفة في ترويض الحرف وإقحامه في مقامات لونية تشكيلية ناضجة ومعتقة المزاج فقد كان يمارس من خلالها رقصات صوفية روحانية يتجاسدها ويتفاعل معها  بعبقرية أسلوبية تكتب الحلم لونا له  شكل وحرف بمزيج الشاعرية والانفعال مع الحركات فيحوّل الفعل التشكيلي إلى لغة حيوية متحركة داخل مسطح اللوحة بتفاعل جدي مع الأشكال واللون والقماش ويحملها إلى فضاءاته المتخيلة وحلمه المشتهى فتصير لوحات نابضة ومتفجرة داخل مغامرة فنية تمرّدت على القواعد الصارمة للخط العربي، مقدما توليفة بصرية تتفاصل مع الإيقاع بموسيقى استحضرها من الماضي والواقع بذاكرته وشجونه.

الفنان عدنان المصري

لوحات عدنان المصري تجسد بعثرة الحروف التي تترك للخط فرصة لملة الذكرى وخلق المعنى الأبعد باستفزاز العقل والحواس ما يكسب المنجز موقفا وحضورا يرتقي بالرؤى، بخلق إثارة يرتكز عليها ليطوع المفاهيم الكلاسيكية للخط العربي مع التكوين الفني الأكاديمي ودراساته في العلوم الإنسانية والتحديث الجمالي الفني تلك المعارف التي حولت الحرف العربي إلى عنصر تشكيلي زاخر بالرموز والدلالات فبالتالي خرج به من التعبيرات الزخرفية إلى المعنى المكتمل في البناء التشكيلي، داخل لوحة فنيّة تجريدية الأسلوب ورمزية الملامح حضور الخط فيها منحها تفردا حيث حوّله إلى مأوى يحتوي الانفعالات ويؤثر على الزوايا الجمالية.

قدّم الفنان التشكيلي عدنان يحي في لوحاته ذات الحضور الحروفي أهمية الحرف من نواح بصرية ماورائية مع اعتماد أسلوب جديد وغير متداول في تنفيذ حركيته التي تقع على مسطح داكن تحاول الانعتاق والتحرر في فضائه وملامسة النور وهي تفتش عن أبعاده النفسية في محاكاة داخلية لعمق اللوحة.

فهو لا يلبث يستفز الخط بتوتر مع الفكرة والاحساس في تعازفات أوتاره وانفلات عصبه وتحكمه بتداخلاته وهنا يوقعه في موهبته التشكيلية ليحوّله إلى عمل فني حيوي، مستقل يتوهج مع الألوان الحارة والذهبية والألوان الباردة بدرجاتها الهادئة وبؤرها التي تراوغ العتمة وتنصف الأصوات الضوئية وتمنح إيماءاتها حركية وتناغما يرتب الفوضى تلك التي يعيشها في تواتراتها ليتناسجها ويتفاعل بها حتى تصل إلى الضوء وتخترق المعنى من علاماته المباشرة نحو تفكيك تلاوينه ودلالاته.

أما التشكيلي خالد ترقلي أبو الهول فيتعامل مع الحرف ككيان تعبيري ناضج وحي ويشي بالنور الذي يضيء زوايا اللوحة فهو يتجاوز دوره كمكمّل لمعنى في جملة معتبرا إياه كيانا بصريا جماليا طاغي الحضور إذ يهندسه ليصبح رمزا تعبيريا قائم الذات يعبّر عن فلسفة وموقف وفكرة فهو لا ينجز لوحة خطية بل لوحة تشكيلية يفجّرها خطوطا وألوانا مواقف يخلق من خلالها منافذ متعددة تهيؤ الحرف لاستقبال الانفعالات والمحتوى بحثا ونبشا عن منفذ.

وهو ما يجعله مجدّدا للدور الكلاسيكي للحرف فهو يمنحه مكانة في معترك الفكرة والمساحة ليحلق من خلاله في جدل لوني وهندسي ضوئي كما يهبه كيانا له نفسيته التي تعبر عن صراعات البقاء وفق حضور بصري وتنازع فكري بين كل حرف ومساحة فيؤنثه ويذكره بتلوين تفاصيله التي تعكس حضوره الأول إلى صياغاته الفنية في انفصال الرؤية وتداخل عناصر اللوحة.

الخطاط إبراهيم أبو طوق

أما منجز الخطاط الفنان إبراهيم أبو طوق فهو في حد ذاته يعتبر مدرسة حديثة وأصيلة في آن، فأسلوبه تفكيكي لعمق كلماته التي يعبر عنها  بشاعرية ملونة يستشعرها ويرتبها داخل فضاء لوحته ليروّضها جسدا وروحا، يرقّص الحرف ويحلّق به بين الانحناء والتكسر بين الحضور والغياب بين التخفي والتجلي بين السطوع والظلال مع بلاغة المعنى وعمق دفيء  غامر وساحر في اختيارات ضوئية وسياقات وانفجارت غامقة معتمة مضيئة تتصارع بين القوة والضعف تسبح في الكلمات بدلالاتها البصرية وعلاماتها، من وحي الماضي إلى الحاضر ما يجعله جسرا للمستقبل بحرفة  كلاسيكية واكتساب جمالية الفن التشكيلي ابتكار مدهش الايقاع وعميق الهندسة يحلق بالحرف فوق بحر الشعر والقصيدة واتساع فضاء الحكمة وقدسية الآيات القرآنية، يشع  بقوة واثقة من انفعالاتها ومن ردّة فعل المتلقي  تجاهها فأسلوبه ناضج الاختيارات يجيد استظهار الضوء وتلوين الصوت وتحويل اللاّمرئي إلى مرئي في تكتلات الصياغة وزخرفتها حيث يستنطق طاقتها المنطوية عليها كأنها منفلتة من قانون الجاذبية محلّقة في تداور وتنافر داخل فضائها المتأصّل في الحضارة روحا وجسدا بين عناق وائتلاف وتشابك كل حرف في حجمه وحضوره بحسابات دقيقة وموازنة تجمع انفعالات عبثية بأفكار تدمج العمارة والتيبوغرافيا والتعميم الجرافيكي في عمل واحد.

تجربة الفنان فائق عويس تعكس التنوع البصري في التكوينات الخطية وفي انغماسه الغارق في عمق  تاريخ الحضارة الإسلامية ووعيه بتفاصيل ذلك الإرث الذي استفزه ليعبّر عنه بأسلوب معاصر قادر على تجاوز حواجز الفهم واللغة والجغرافيا والتواصل نحو جمال الفكرة الفنية  فالتجديد عنده إضافة حيوية تخدم اللغة بالخط والفكرة بجمالية الحركة والعلامات البصرية والإضاءة في الخط وفي المعنى الكامل فيتكون وفق المسارات الفنية ليعبر عن الهوية والإنسانية والانتماء من خلال دمج الشكل بالمضمون فيعلو بالرؤية الضيقة ويوسع مجازات الحرف الفنية التي يمنحها إيقاعات هندسية دائرية تحاول أن تدرك طاقة الكون بمعانيها وجمالياتها الحيوية.

تختزل هذه التجارب بساطة الابتكار الفني وعمق الفكرة في تناول الحرف وخلق روح  في حركته لتمنح اللوحة حيوية، فبين تجربة وأخرى بحث عن تشكيلات جديدة لتجاوز التكرار في إفراز دلالات الحرف من مفهوم التعبير التشكيلي عن الواقع الذي تأثر به أغلب الخطاطين كما تأثروا بالتراث العربي وزخرفات الخط وتطوره عبر مختلف الحضارات الإسلامية فالعلامات البصرية متواترة ومكثفة تنبع من الواقع نفسه لتتجاوز المشاهد المألوفة من خلال التجريد ينطق الحرف بإعادة هندسته ومزجه لونيا كلما تشابك بينه وبين الخطوط لتصبح بدورها شكلا مستقل الذات خارج قواعد الخط  لينخرط داخل ذلك الواقع دون مبالغة أو تهميش، فقد ابتعد عن تصوير الطبيعة والناس بحرص على نقل صور عالجها بصريا بموقف وأفكاره، ليغوص داخل الملامح وينبش حواسها وكأنه يقدّم قراءة فنية لنفسياتها في تناغم روحاني خلق إيقاعا عبر عن الانفعالات بحركية ودفق سلس العبور نحو جمالية خرجت من عتمة الواقع نحو إيتستيقا اللون والتشكيل والتنفيذ المتناغم بينها وبين الضوء والخطوط وحضور الحرف ما خلق تناسقا منح العين سكينة فسحت المجال للعقل كي يبحث داخلها.

*الأعمال المرفقة:

متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية مجموعة الخط العربي

Farhat Art Museum Collections

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى