ثقافة وفنون

القدس …فوتوغرافيا الرحالة ودهشة المستشرقين

 

-خيال الصورة في جمال الحقيقة

أغرت المدن المقدسة الكثير من الرحالة والمستشرقين الكتاب والرسامين والمصورين الفوتوغرافيين، وذلك لما تحمله من تأثير ديني مقدس، وروحانيات أثرت فيهم، لزيارتها والاطلاع على تفاصيلها الشرقية والمشرقة، بطابعها الإيماني وعمقها الفكري وتنوعها الإنساني الذي جعلها مهد وحضن الأديان السماوية، فلكل مدينة خصوصيتها المغرية التي تمتزج فيها كل تلك الديانات، وتتشابك فيها العادات والتقاليد والملامح بين الانسجام البشري في التعايش السلمي، والتوافق في فكرة توحّد الأرض على مبدأ البقاء والحياة والمشاركة، المبدأ والقيمة التي أثرت في المستشرقين الذين اتفقوا على أن الميزة الأولى في الشرق كانت التنوع الإنساني، الذي عكس تفاصيله الملونة بذلك التنوع في الطقوس والعبادات والعادات والصور التي توحدت على مبدأ التعايش.


ولمدينة القدس الفلسطينية ـ كما كان يصفها الرحالة والفنانون ـ خصوصية الطقوس والمشهد والحضور والجماليات الطبيعية، التي كانت تميزها عن أي منطقة بكل تفاصيلها مهما كانت طبيعتها ومواسمها، إذ لها خصوصيتها بكل مناسباتها التي تتجادل بين الدين والدنيا، بين الروح والجسد، في العبادات والعادات والتنوع البشري والتبادل الثقافي.
فقد تميزت المدينة بعمارتها الخاصة العتيقة، والمعتقة بالتاريخ والماضي، بالزخرف وباللباس والزينة، بالرموز والشخوص والتقاليد، فهي التي جمعت النماذج البشرية، وخلقت لها مسار تفاعلها فيما بينها، فروضت النفوس على الانسجام والتماهي في سكون المدينة، وخشوعها الذي يترنم مع السماء في عناق الأجراس والمآذن، فرغم تنوعها الديني حملت المدينة تاريخها في التراب والجغرافيا بحضارة مكتملة، ربت أبناءها على تقديس الخصوصية واحترام كل ذلك الحضور، فتفجرت بإيمان راسخ مع التاريخ، فبين شد وجذب في تنوع وحراك تاريخي، وتنافس على تحصيلها وامتلاكها، لم تنفصل المدينة عن ترابها ولم تخلع خصوصيتها، بقيت أرض الميعاد والاسراء وبوابة السماء، لم تنفصل عن السلام الساكن في أزقتها، بل حملت ما يمتن بحضورها.


وهو ما أثار المستشرقين، فكانت لوحاتهم عن القدس عميقة متميزة، ومنقولة بحرفية تماهت في تقنية اللون والضوء والمشاهد المتنوعة بعبق جمالي بصري، أما في الصور الفوتوغرافية فقد تميزت المشاهد بحضور واقعي حي، وخالد في تفاصيل غرقت في تصوير الواقع العام والتنوع بكل الخصوصيات، صورت المساجد بتنوعها وزخرفاتها وصوامعها وأسقفها وجدرانها المنقوشة في النص الديني المكتوب بخط عربي مزخرف، والكنائس والأيقونات المسيحية والألوان والنقش على الزجاج الملون والقماش والسجاد، والمظهر العام للمصلين والحجيج بين ماسكي الألواح القرآنية والواقفين على الصليب، قداسة روحانية متراكمة التفاصيل، إن دلّت على شيء فهي تدل على الانسجام والتنوع والتعايش، والإيمان الراسخ أن القدس ليست مكانا عابرا، ولا مدينة عادية، بل هي مدينة الإنسانية والسلام والمحبة التي يسطع النور من زواياها وكل أحجارها.


ترسّخ الصور تفاصيل الماضي بنكهة ملوّنة، بين العادات والملامح والطقوس الدينية التي تميّز الأمكنة الغارقة في تاريخها، مكان يعبر منه المارون إلى ضوء السماء، فارين من عتمة الصراعات، هو الانطباع الذي ينتاب من يرى الصور في عصرنا الحالي، لأنه يقرأها بنوستاليجيا تُنطّق ذاكرة المدن، لتقول أنا الوحي، أنا الألوان والبعث.
تثير فينا متعة التذكّر والخيال، حين تحقّق لنا رغبة التجوال في أحياء القدس القديمة، أسوارها وأبوابها ومساجدها وكنائسها، أو بالملامح الثابتة بحنين يدفع حواسنا كي تستيقظ.


فللصور قدرة عجيبة في نحت الأمكنة في المخيلة، حين تخرجها من مادية المكان لتحوّلها إلى تفاعل روحي من الصعب توصيفه، لكنه يبقى خارقا حين يقتلعنا من مسطح الصورة، ويذرعنا في عمق التاريخ، والحقيقة التي تعيد كل مدينة إلى فضائها وجغرافيتها.

*الاعمال المرفقة
متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية
Farhat Art Museum Collections

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى