ثقافة وفنون

غزل البنات.. وأسطورة الخلق

كتب.. صبحي شحاته

يستمد فيلم غزل البنات جماله الخالد من روح قصة الخلق: آدم وحواء، فهو يستبطنها وتشكل روحه، فمثلما خُلق آدم من الطين، كان حمام / نجيب الريحاني. وحيدًا يعيش في طين الواقع الأرضي حيث الفقر والجهل والكذب، يعرف أسرار اللغة ونحوها وكيفية نطق الأسماء بالطريقة الصحيحة ويعلمها للأطفال الأبرياء كالملائكة، كما علَّم آدم الملائكة الأسماء.

يتم استدعاؤه إلي قصر الباشا ليعلم ابنته الشابة الجميلة الشقية اللاهية اللغة العربية، يدخل حمام القصر كما دخل آدم الجنة، فإذا به عالم كامل من البراءة، الكل فيه كالأطفال منعمين، الخدم يرتدون كما يرتدي الباشا، والباشا يرتدي كما يرتدي الخدم، بل هو غالبًا في الحديقة، وفوق الأشجار “من الشجرة دي أو الشجرة دي” كما قال لسكرتيره عبد الوارث عسر.

وابنة الباشا ” ليلي” لا تعرف شيئًا، سوي ركوب الخيل في الحديقة الكبيرة الواسعة كأنها الجنة، والغناء والمرح مع صديقاتها، كأنهن الحور العين بريئات ناعمات محلقات كالأرواح معها في عالم الحب والنغم:

اتمخطري واتمايلي ياخيل

وارقصي ويا عرايس الليل..

لكن أنور / محمود المليجي، لا ينتمي إلي النور وإنما إلي النار، يعيش في الكباريهات، التي هي جهنم الحمراء، كما وصفها حمام، إنه الشيطان الذي يوسوس في أذن “ليلي” من خلال التليفون، لتخرج إليه من جنتها وبراءتها، وهي منتشية، ناسية حالها وحليها ودروسها، فترسب في اللغة، ويأتي حمام ليصوَّب لها الخطأ، ويعيدها لليقظة، لكنها تغويه وتوهمه بحبها له، ليكون حبل هروبها من قصر أبيها، يقودها عبر عالم الأرض إلي إبليس الماكر.

أحب حمام ليلي بجنون، ووافقها علي الهروب من القصر، وخرجا في الليل البهيم لا يعرف إلي ماذا يذهبان، وركبا العربة يغنيان:

علي شانك إنتِ أنكوي بالنار وألقح جتتي

وأدخل جهنم وانشوي وأصرخ وأقول يااا لهوتي.

 

لكنه يكتشف أن ليلي / حواء، مخدوعة ومغرر بها وأنها ذهبت بواسطته إلي الشيطان، ودخلت الجحيم، مكان التآمر والخديعة والخيانة، وأن “أنور” ذلك الشيطان، أملس الجلد كالثعبان، لا يفعل شيئًا سوي غواية الطفلات البريئات، وأن ليلي ليست الأولي ولن تكون الأخيرة، وإنها ضمن طابور، فهناك ” اللي قبلها واللي قبل قبلها”. وكأن لسان حاله يقول: لأغوينهن جميعًا.

حاول “حمام” المسالم الطيب رجل العلم إنقاذها من الكباريه بيت الشيطان وشياطينه وحرباياته القبيحات، ومنهن “زينات صدقي” العجوز الشمطاء الغيور التي تريد الاستحواذ علي أنور، رغم أنها تعلم بفساده ــ لكنه لم يستطع، وطرد من الكباريه أعزلًا ضعيفًا مسكينًا، وبقت “ليلي” هناك وسط الفساد والخراب والجحيم.

هنا كان علي آدم / حمام، أن يموت، ويُبعث من جديد في صورة حمام آخر، طائر طيار، بمقدوره أن يطير فوق الأرض وخرابها، وأن ينقذ “ليلي” من الطوفان الشرير، هكذا عثر حمام علي بديله الطيار، قائد الطائرة، سفينة السماء، التي تطير فوق القمر / أنور وجدي / أو نوح الذي حمل الأخيار في سفينته، وعبر بهم بر الأمان، وفعلا استجاب الطيار قائد سفينة النجاة، عندما عرف أنه سيكسر الدنيا ويحطم الأشرار، ويسقطهم تحت قدميه، لينقذ ابنة عمه “ليلي” الجميلة البريئة ففعل وخرج بها.

أدرك حمام “ابن الطين اللي بيطير بالفول والذرة” / آدم القديم، أن الطيار الجديد الحديدي سيحصل علي “ليلي”، وأنه سيأخذ دوره ومكانه في قلب “ليلي”، فكان علي “حمام” أن يُضحي بنفسه في سبيل سعادة محبوبته ليلي / أو البشرية النقية، فيتحول إلي عبد الوهاب / المسيح عاشق الروح وليس الجسد:

ضحيت هناي فداه

اشهد يا ليل

وحأعيش علي ذكراه

اشهد يا ليل.

إنه الضحية البريئة، كما يقول “يوسف وهبي” الأب الثاني لـ “ليلي”، فأبوها الأول الباشا العائش في الجنة فوق الأشجار نائم.

يوسف وهبي الأب الفنان خالق القصص، الذي يري الدنيا مسرحًا كبيرًا، هو من يقود حمام إلي تحوله الأخير “ليكون روحًا تهيم في سماء الخيال”.

يبكي حمام ويختار التضحية بنفسه:

“أبيع روحي فدا روحي

وأنا راضي بحرماني

وعشق الروح ما لوش آخر

لكن عشق الجسد فاني”

ويُصلب جسد حمام علي الباب / باب المسرح / الحياة، ويُطل باكيًا علي خلود الروح، ويرضي بأن تذهب حواء / ليلي، إلي الطيار الذي يفوز بها ويركبون العربة / السفينة ويذهبون ثلاثتهم إلي القصر.

أنور وجدي/ نوح الشاب القوي، يقود سفينة النجاة بعيدا عن الطوفان، الذي تضطرب فيه الأرض من خلفه، وبجواره ليلي / حواء / البشرية الجديدة النقية, وحمام / آدم يجلس في الخلف، فوقهما قليلا كروح أبوية تحرسهما، وتضحي بجسدها من أجلهما، يبتسم بأسى ورضا وقبول مغنيا في سره:

“ضحيت هنايا فداه

اشهد يا لليل

وحأعيش علي ذكراه

اشهد ياليل

هايم علي دنياه

ذي الضحا والليل

يااااا ليل.صبحي شحاته

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى