ثقافة وفنون

فلسفة التشكيل فى لوحات الفنان محمد العيسوى

إن الحقائق التجريبية ممكنة وجزئية ونسبية، ومصدرها الأدراك الحسى، أما الحقائق العقلية فهى ضرورية وكلية ومطلقة ومستقلة عن الأدراك الحسى،ومحاورة (0مينون) لأفلاطون تلتزم العقلانية للتدليل على السمة الأبدية للحقيقة.

هكذا تحدث الفيلسوف مراد وهبة فى كتابه “ملاك الحقيقة المطلقة” راصدا لمحاورات الفلاسفة حول الحس والعقل والأدراك والأسبقية هل تعود للحس أم للعقل.

وتحدث وهبه قائلا إن العقل تجاوز الكون وهذه المجاوزة تعنى أنسنة الكون وذلك بتغييره، والعقل بهذا المعنى يرفض مذهب الأنا وحدية الذى يرى أن الكون مجرد أبداع من العقل، فقد طرح فى كتابه السجال بين عدة نظريات تقدم العقل قبل الكون ونظريات تقدم الكون قبل العقل وعن المدركات الحسية ومدى استيعابها.

وهذا الاستهلال الذى أقدم به هذا المقال عن أعمال الفنان محمد العيسيوي لا ينفصل عن تلك الأعمال التصويرية التى شاهدتها.. لوحات تحمل مجادلات فلسفية قبل أن تكون رؤية فنية حول الإنسان و الحضارة والتحرر والموروث والتحولات والأيدولوجيات والمنطق واللامنطق وأنسنة الطبيعة والأشياء وحوارات تكوينية ولونية.

مساحات فارغة ومشحونة وحركات أجساد ووجوه واغطية ومتشحات وعرايا وألهة ونور وظلام، وقلما تجد فنانا معتزا وفخورا بحضارته إلى هذا الحد مثل الفنان محمد العيسيوى، الذي يحمل فى جعبته عدة مذاهب فنية متعددة انصهرت جميعها فى أسلوب فنى يخصه هو، له ملامحه المميزة والتى لاتخطئه العين.

فتجد لدية أن الواقعية انسجمت مع السريالية، مع الرومانتيكية، مع الفن المفاهيمى كفكر جديد دفع التشكيل لأيجاد حلول فنية لأعمال العقل مع تذوق القيم التشيكيلية الأخرى.

وهذا  أسلوب فنى هدفه توصيل رسالته للمتلقى البسيط والمتلقى الذى يحمل ثقافة ما ووعى يجعله يتذوق هذه اللوحات بتأن وروية.

وهذا رغم ماتشهده الساحة الفنية من أعمال لا ترقى لمستوى العرض – أعمال فقدت هويتها لاهثة نحو أفكار جاهزة ومستهلكة- فقد رسم الفنان لوحاته بعين الناقد والعالم بحركة التاريخ وتحولاته وماطرأ عليه من تغيرات أخفت كنوز ومعالم غنية بالرقى والجمال، خاصة فى بيئته وجغرافيته التى تعبر عن نشأته كمصرى أصيل وكسكندرى كمبوزولاتينى جامعا لعدة ثقافات.

ومن الواضح أن العيسوى تظهر أيدولوجيته فى أعماله الفنية جميعها، ولكنها من الممكن أن نطلق عليها أيدولوجية كمبوزولانيتية أيضا تتجه نحو الإنسان فى حقيقته وفطرته التى فطر عليها فهو يميل إلى الطبيعة كمادة أصلية فى كل لوحاته أو هو يبحث عن الروح الشفافة النقية ليزيح عنها التراب.

إن لوحاته سيمفونيات موسيقية متنوعة أو هى عدة كتب ومؤلفات لابد أن تصل لكل متلقى، أو هى مكتبة متنوعة تحمل الكثير من المؤلفات.

وفى معرضه الأخير بأتيلية الأسكندرية فرض الفنان السكندرى الكبير محمد العيسوى فلسفته التى شكلها فى لوحات ذاخرة بأفكار تحررية موظفا التراث المصرى بحضاراته المتعددة.

وطرح من خلاله رؤية تشكيلية عصرية تحمل الكثير من علامات الاستفهام والتعجب، معالجا قضايا الواقع الاجتماعى بعناصر تشكيلية تجبرك أن تقف أمام لوحاته لتقرأ أهدافه ونظرياته.

ومن الواضح أن كل عنصر من عناصر أى لوحة له عدة دلالات، واللوحات هى فى حقيقتها رسائل موجهة للمجتمع وللإنسانية كافة، وقد طغت الفكرة على الحلول التشكيلية فأصبحت اللوحة بكل حلولها التشكيلية فى خدمة فلسفته وأفكاره.

وكانت المرأة نموذجا أساسيا فى معظم لوحاته والمرأة المصرية القديمة هى النموذج المثالى ود ظهر هذا جليا فى المقارنات بينها وبين شكل المرأة بزيها الحالى وهى عنده الحياة وفى الغالب يبحث عنها فى شكل مثالى تملك جمالا وفكرا وروحا مسالمة شفافة والمتأمل جيدا فى لوحات الفنان محمد العيسيوى –يجد الاسكندرية حاضرة بتاريخها وجغرافيتها –فتجد البحر أو الماء يحتل مساحات كبيرة أو له دلالات فكرية وحلول تشكيلية أساسية وأيضا الأفق المتسع والمساحات الزرقاء وعروسة البحر وألة الحب والجمال والعذراء فى حضن الفرعونية كرمز له دلالات عدة.

ولست مدعيا اذا قلت أن لوحات العيسوى مشحونة ومعبأة بفكر تقرأه وتراه.. رؤية بصرية وحلولا تشكيلية وايضا سطورا تقرأها خلف هذه الحلول والصيغ التشكيلية.

وقد انسجمت ألوان البنى بدرجاته مع الأزرق والأخضر والأصفر والأحمر وتجلى البنى والأخضر ليعبر عن التراث برموزه ولغته ورسومه الجدارية التى يوظفها لخدمة فلسفته وأفكاره.

والألوان فى اللوحات موضوعة بعناية، بل إنها موصلة أوقل موظفة لخدمة التكوين، فنجدها فى لوحة النساء المتشحات –رسم رؤسهن على هيئة تلال سوداء –تقف بينهن إمرأة بالزى الفرعونى القديم، ليترك لنا المقارنة بين التلال التى تخفى جمالهن وبين المرأة الأخرى المتحررة من هذا الزى برونقها وجمالها، بل هى مقارنة بين حضارتين اذا صح التعبير، أو مقارنة بين حضارة تقدس الحياة وأخرى تنحو نحو الظلام.

وفى لوحة المرأة التى تقف بزيها الأسود أمام جدارية فرعونية عليها رسوم لنساء فرعونيات فى حالة حركة وحوار وبزى بسيط يظهر أجسادهن –تقف هذه المرأة وظلها يتعانق مع النساء على سطح الجدارية وقد تحور على شكل أجسادهن وكأنه يشير الى رغبة تلك المرأة أن تعود الى أصولها وفطرتها وحضارتها الحقيقية مع وجود غراب أسود ينعق نحوها.

وفى لوحة الطفلة بردائها الأحمر ماسكة ببالونة تشبه خريطة العالم، واقفة داخل بهو مرسوم على جداره رسوم فرعونية للألهة المجنحة والميزان وحورس وهرم طائر فى الخلف ، وكأنه يشير الى دور الحضارة المصرية فى تطور العالم.

وفى لوحة المرأة المنتقبة بالسواد رسم وجهها على شكل قنبلة وهى رافعة راية حمراء عليها حمامة بيضاء ومن خلفها جدارية فرعونية عليها حروف هيروغلوفية عاقدا مقارنة بين فكرين –بين القنبلة التى تعبر عن الفكر العدوانى وبين الفكر المسالم.

وفى لوحة المرأة المصرية العارية وهى ساجدة فوق طبق كبير يشبه المائدة وينبت من فوق ظهرها نبات الصبار الشائك وهى فى حالة استسلام لمن يلتهمها وخلفية ضبابية غابرة.

وفى لوحة المرأة الملثمة بزيها الأسود من خلف أطار خشبى لشباك معلق عليه مفتاح وتفاحة معطوبة ومشطورة وأخرى ناضجة ومكتملة وكأنه يحسها على الخروج من هذا الأطار والتحرر.

ولم تخلو معظم لوحاته من معالجة جديدة بتقنيات سريالية وفنتازيا جديدة وسخرية كاريكاتورية وقد تألقت لوحاته حاملة نظريات نفسية واجتماعية وفلسفية تؤكد على موسوعية الفنان محمد العيسوى وعشقه لتاريخه وحضارته متحديا هذا الواقع المشوه لتصبح لوحاته هذه أيقونات فنية وفكرية يتوارثها الأجيال.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى