من التاريخ

“قطار الحجاز” لايزال أسير الخلافات السياسية

في الـ2 من مايو 1900، أعلن السلطان العثماني عبد الحميد الثاني البدء في مد خط حديدي إلى أراضي الحجاز؛ من أجل توحيد العالم الإسلامي وتمكين الحجاج من الوصول بسهولة إلى مكة، بالإضافة إلى تأمين رحلة الحج وتخفيف المشقة التي كان يعانيها المسافرون، وهو المشروع الذي أطلق عليه «قطار الحجاز».

كانت رحلة الحج قبل تدشين السكك الحديدية تستغرق أكثر من 40 يوماً، وكان الكثير من الحجاج يلقون حتفهم في طرق الصحراء الوعرة. لكن بعد اكتمال المشروع، اختُصر الوقت الذي يستغرقه الحجيج في الوصول لمكة إلى 5 أيام فقط.

وفي 22 أغسطس 1908، وصل أول قطار إلى المدينة المنورة، وبدأ الحجاج استخدام سكة حديد الحجاز في سفرهم لأداء مشاعر الحج.

الظروف المالية للدولة العثمانية أجَّلت تنفيذ المشروع

فكرة تدشين خط سكة حديدية يربط بين مدن الدولة العثمانية لم تكن بالجديدة في عهد السلطان عبد الحميد الثاني؛ ففي عام 1850، فكر السلطان العثماني في ربط الدول الخاضعة للدولة العثمانية بشبكة سكك حديدية، لكن المشروع لم يُنفذ؛ لانشغال الدولة العثمانية في حرب القرم (1853-1856).

وفي عام 1864، عرض المهندس الأميركي زيمبل مخططاً لمشروع خط سكة حديدية يربط بين عاصمة الخلافة العثمانية إسطنبول والمدينة المنورة، ولأن العرض كان استثمارياً بالأساس، لم تتمكن الدولة العثمانية من قبوله؛ لتكلفته الباهظة. وبعد ذلك في عام 1880، تقدَّم وزير الأشغال العثماني بالمشروع، لكن الظروف الاقتصادية للدولة العثمانية لم تسمح آنذاك بتنفيذ المشروع.

لم يقتصر الهدف على تسهيل الحج، ولكن لمآرب سياسية واقتصادية أخرى

تحدث السلطان عبد الحميد الثاني في مذكراته عن خط السكة الحديدية الذي أنشأه، قائلاً: «لقد أثبت الخط الحديدي الحجازي أن بلادنا لم تفقد قابليتها للتطور، وأنه يمكننا إحباط محاولات إنكلترا المتكررة في عرقلة أي عمل نقوم به لخدمة بلدنا وأمتنا».

تجدر الإشارة إلى أن الهدف الديني في نقل الحجاج من إسطنبول إلى المدينة المنورة لم يكن الغرض الأوحد من تدشين سكة حديد الحجاز، وإن كان قد استطاع بشكل كبير أن يرفع من شرعية السلطان العثماني أمام رعاياه المسلمين.

إنما تجسد الهدف السياسي في إنشاء مشروع قومي من شأنه أن يُعلي من مكانة الدولة العثمانية أمام البلدان الأوروبية الأكثر تقدماً.

ومن الناحية الاقتصادية، فقد هدف المشروع إلى تعزيز التجارة والتنمية الزراعية، وذلك في الوقت التي كانت تعاني فيه الدولة العثمانية مشكلات اقتصادية كبيرة.

من ناحية أخرى، طرح كل من الإمام محمد عبده والشيخ جمال الدين الأفغاني فكرة إحياء الجامعة الإسلامية وربط الدول الإسلامية بعضها مع بعض؛ من أجل تأمين اتحاد عالمي إسلامي، وقد راقت تلك الفكرة للسلطان عبد الحميد الثاني؛ إذ كانت تعني توحيد جميع المسلمين الذين يعانون الاستعمار الفرنسي والبريطاني تحت راية واحدة.

بالنسبة للسلطان عبد الحميد الثاني، فقد كان يفكر أيضاً في تسهيل التحركات العسكرية وصدّ أي اعتداء محتمل على أركان إمبراطوريته، وخاصة في ظل قيام الإمبراطوريات المنافسة بضم أجزاء من دولته؛ إذ استولت فرنسا على تونس، واجتاحت بريطانيا مصر وصربيا ورومانيا، كما أعلنت جمهورية الجبل الأسود استقلالها عن الدولة العثمانية.

فبدأ العثمانيون حملة تبرعات لتمويل المشروع الضخم

مثَّلت عملية تمويل إقامة سكة حديد الحجاز أكبر التحديات التي واجهت المشروع، فقد كانت كفيلة بوأده في مهده؛ بسبب الديون وفوائدها التي أثقلت كاهل الدولة العثمانية، خاصة بعد استنزاف حرب القرم لها.

لكن الدعاية للمشروع، التي ارتكزت على كونه دعوة لكل مسلمي العالم بجميع مذاهبهم وباعتباره مشروعاً إسلامياً وحدوياً يرتكز على أهمية الشعائر الدينية، نجحت في إيقاظ روح الهمة داخل المسلمين وبدأت عملية التبرع.

افتتح السلطان العثماني حملة التبرعات بمبلغ 50 ألف قطعة ذهب عثماني من أمواله الخاصة، بالإضافة إلى 100 ألف قطعة ذهب عثماني من صندوق المنافع، تبعه بعد ذلك شاه العجم، الذي تبرع بـ50 ألف ليرة ذهبية بالاكتتاب، ثم خلفه خديوي مصر الذي تعهد بتقديم كل المستلزمات اللازمة لإقامة المشروع.

كما طُبعت أوراق تذكارية من شهادات تكريم وطوابع، وكانت هناك أيضاً ميداليات للمتبرعين ونياشين وأوسمة وألقاب، واقتُطعت بضع ليرات من مرتبات الموظفين العاملين بالدولة العثمانية كمساهمة منهم في المشروع.

لم تقتصر حملة التبرعات على ما سبق، وإنما امتدت إلى توافد الأموال من إيران والسودان والجزائر والهند، إلى جانب مصر، التي تشكلت بها لجنة الدعاية لمشروع سكة حديد الحجاز برئاسة أحمد باشا المنشاوي.

كما أسهمت الصحف المصرية -مثل جريدتي «اللواء» و»المؤيد»- في عملية الدعاية. ويُذكر أن تكلفة المشروع النهائية قد بلغت أكثر من 3 ملايين ليرة عثمانية، وبلغ طول الخطوط نحو 1464 كيلومتراً.

الجنود العثمانيون شاركوا مقابل إعفائهم من الخدمة قبل انتهائها بسنة

واجهت عملية تنفيذ مشروع سكة حديد الحجاز عدداً من التحديات؛ فقد تجسد التحدي الأول في اختيار منطقة مقاوِمة للكثبان الرملية المتحركة.

وفي النهاية، وقع الاختيار على منطقة بطن الغول الواقعة في الأردن؛ لامتلائها بالرواسب الصلصالية وشتى أنواع الأحجار، ما يسهل من عملية إقامة سدود مانعة قوية من الأحجار والطين.

بُني منحنى حجري ضيق يوازي الخط الحديدي ويعمل على التخلص من تراكم الرمال على الخط.

التحدي الثاني كان نقص المياه، وتم التغلب عليه عن طريق حفر آبار وإدارتها عبر مضخات بخارية أو طواحين هواء.

أما ثالث التحديات، فتمثل في نقص العمال، وكان حلّه استخدام قوات من الجيش العثماني؛ فقد شارك نحو 7 آلاف عامل، معظمهم من جنود الجيش العثماني، في تنفيذ المشروع مقابل إعفائهم من خدمتهم قبل انتهائها بسنة، وافتُتح معهد لمهندسي السكة الحديدية في إسطنبول يستهدف تخريج مهندسين يتولون تنفيذمشروع قطار الحجاز.

ولأن السكة الحديدية كانت تمر على مناطق مرتفعة وأخرى منخفضة، فقد أُنشئ نحو 2000 جسر من الحجر المنحوت، وبُنيت محطات الحراسة للتزود بالماء والمؤن والفحم، كما وُزِّعت المحطات على مسافات قدرها 20 كيلومتراً؛ لاستيعاب التجمعات المدنية القاطنة في مناطق معزولة وموحشة.

وانقسم العمال، الذين كان أغلبهم متطوعين بالعمل في المشروع، إلى 3 مجموعات: مجموعة للاستطلاع، ومجموعة لدراسة الخط، ومجموعة للبناء.

مجموعة الاستطلاع كانت تعمل بالمناطق التي تقع بين تبوك ومدائن صالح، في حين أن مجموعة الدراسة كانت تنجز عملها بين محطتي المدورة بالأردن وذات الحاج في السعودية. أما مجموعة البناء، فكانت تنجز عملها على مسار خط ذات الحاج.

«لورانس العرب» يوقف قطار الحجاز للأبد

عندما اندلعت الحرب العالمية الأولى بدأ الجيش التركي في استخدام قطار الحجاز لأغراض عسكرية. وبعد اندلاع الثورة العربية الكبرى بقيادة الشريف حسين، أمير مكة، ضد العثمانيين 1916، أعلنت بريطانيا مساندتها تلك الثورة؛ لذلك اعتبرتبريطانيا وحلفاؤها العرب سكة حديد الحجاز هدفاً عسكرياً يعمل ضد مصالحهم؛ لأنه ينقل الجنود والعتاد في أثناء الحرب.

وأدى ذلك إلى مهاجمة الضابط الإنكليزي «تي إي لورانس» الشهير بـ»لورانس العرب» في عام 1917، خط السكة الحديدية جنباً إلى جنب مع جنود الثورة العربية الكبرى.

وبعد انتهاء الحرب سقطت المدينة المنورة بيد الثوار العرب في يناير/كانون الثاني 1919، كما تقاسمت فرنسا وبريطانيا بلاد الشام فيما بينهما. ومن حينها، توقفت صافرة قطار الحجاز عن الدوي وتعرض للإهمال.

المحطات أصبحت مزارات تفتح أبوابها للاستمتاع بجمال عصرها

استمر قطار الحجاز يعمل بين دمشق والمدينة المنورة قرابة 9 سنوات، نُقل خلالها الآلاف من الحجاج والتجار، وانتهت رحلاته بعد الحرب العالمية الأولى.

وتقف اليوم عربات القطار المُعطلة بمحطة السكة الحديدية في عُمان، ففي متحف مكون من غرفة واحدة تُعرَض بقايا قطار الحجاز وحطامه، إلى جانب تذاكر السفر القديمة والصور الفوتوغرافية والفوانيس.

تقبع بداخل المتحف إحدى عربات القطار التي رُممت بشكل جميل في بداية القرن العشرين، وما زالت تحتفظ بكراسيها المخملية المكسوة بالقطيفة والمصابيح الذهبية، لتعطي الزائر إحساساً ببذخ تلك الحقبة الزمنية.

لم يقتصر العنصر الجمالي على عربات القطار وحطامه، وإنما امتدت لتشمل بنايات محطات ذلك القطار. فمحطة دمشق، التي صممها وأشرف على تنفيذها المهندس المعماري الإسباني فرناندو دا أراندا، تعد من أجمل الأبنية السورية؛ إذ ما زال يتوافد الكثير من السياح لرؤية طرازها المعماري الفريد بما يحتويه من نقوش إسلامية وأشكال معمارية تحكي قصة سفر الحجيج إلى الأراضي المقدسة.

أما محطة المدينة المنورة، التي تُعرف أيضاً باسم «الاستسيون»، فكانت المحطة النهائية لخط قطار الحجاز، وهي أحد أجمل المعالم السياحية التاريخية في المدينة المنورة؛ لأنها بُنيت وفق مزيج هندسي من فنون العمارة التركية والنقش العربي الإسلامي.

وتتكون المحطة من عدد من المباني؛ مثل المبنى الرئيسي، ومبنى خاص بورشات الصيانة، وبرج مائي مزود بخزانات.

كما يوجد بداخل محطة المدينة المنورة مسجد السقيا، الذي بُني في عهد الرسول، وتحديداً في أثناء خروجه لغزوة بدر، وهو أحد أهم المساجد التاريخية بالمدينة المنورة. وترجع تسميته لوقوعه بالقرب من بئر السقيا التي كانت ملكاً للصحابي سعد بن أبي وقاص.

رغم محاولات إعادة تشغيله فإن الحروب حالت دون ذلك

ظهرت العديد من محاولات إعادة إحياء قطار الحجاز، أبرزها محاولة الملك عبد العزيز لإصلاح الخط الحديدي. وبالفعل، شكَّل لجنة سعودية/سورية لإصلاح الخط خلال عام، لكن الأردن اعترض على إعادة تشغيل القطار؛ لأنه كانت على عداء مع السعودية. وحين تحسنت العلاقات بين الجانبين اندلعت الحرب الإسرائيلية-العربية وعرقلت تنفيذ الخط.

استؤنفت أعمال اللجنة السعودية-السورية مرة أخرى عام 1955 في عهد الرئيس السوري شكري القوتلي، لكن بسبب قيام الوحدة بين مصر وسوريا تعطلت أعمال اللجنة؛ لأن الرئيس المصري جمال عبد الناصر لم يكن راغباً في إصلاح خط الحجاز؛ لوجود خلاف بينه وبين السعودية.

وفي عام 2011، أعلنت تركيا أنها تستعد لإعادة تشغيل خط السكة الحديدية بين تركيا والسعودية؛ بهدف إحياء خط الحجاز القديم، وكان من المفترض أن تبدأرحلة القطار من مدن إسطنبول، مروراً بمدينتي أضنة وعثمانية التركيتين، وصولاً إلى مدن حلب وحماة ودرعا السورية ثم الأردن، لتنتهي الرحلة بعد ذلك في المدينة المنورة، لكن محاولة التشغيل فشلت نتيجة اندلاع الثورة السورية.

يُذكر أن قطار الحجاز عمل بشكل جزئي داخل حدود بعض الدول، فقد قامتإسرائيل بإعادة تأهيل الخط الممتد بين مدينتي حيفا وبيسان خلال عام 2016، وظل الخط الحديدي الممتد بين عُمان ودمشق يعمل حتى عام 2011.

وفي الأردن، يستطيع المواطنون استخدام مقطعين من خط القطار؛ إذ توجد قاطرة بخارية تعمل خلال فصل الصيف فقط، وتُستخدم بشكل أساسي من جانب السياح، كما أن هناك قطاراً أسبوعياً يعمل على مدار العام بين محطتي عُمان ومحطة الجيزة بالأردن، ويستخدمه الأردنيون بغرض التنزه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى