آراء

أوروبا والواقع اليهودي الجديد: لماذا أصبحت اللاسامية شيئاً مؤدباً؟

إن المسؤولية عن الكارثة رـر قتل الشعب الأوسع والأكثر تخطيطاً في تاريخ الزمن الحديث ـ ليست من النصيب الحصري لألمانيا. فكل الشعوب «المتنورة» في تلك الفترة، الأكثر ظلامية في التاريخ البشري، يتحملون مثل هذه المسؤولية أو تلك عن إبادة ثلث الشعب اليهودي. في الصيف الماضي تم إحياء 80 سنة على انعقاد مؤتمر افيان في فرنسا، والذي استهدف بمبادرة الإدارة الأمريكية في حينه لإيجاد حل لمشكلة اللاجئين اليهود، ممن سعوا إلى الفرار بجموعهم من ألمانيا ومن النمسا المضمومة إليها. واحدة فقط من كل عشرات الدول التي شاركت في ذاك المؤتمر، الجمهورية الدومينيكانية وافقت على أن تستوعب عدداً كبيراً من اللاجئين اليهود. كل الباقين رفضوا، لهذه الأهداف اللاسامية أو تلك. وشددت بريطانيا إغلاق بوابات بلاد إسرائيل. كما شددت الولايات المتحدة قوانين الهجرة. وفرك النظام النازي يديه برضى من نتائج مؤتمر افيان. من ناحيته، كان فيها تأكيد على أن العالم لا يهمه مصير اليهود وأنه يمكن البدء بتصفيتهم. وتعاون معظم شعوب أوروبا بسرور في تنفيذ إبادة يهود أوروبا. بعد الحرب العالمية الثانية ألقوا بالمسؤولية التامة على الألمان وأعفوا أنفسهم من حساب النفس.
إن مظاهر اللاسامية في هذه الأيام بالذات في الدول الغربية «المتحضرة» و«المتنورة» هي نتيجة مباشرة للغياب شبه المطلق لمواجهة مسؤولية كل هذه الدول عن الكارثة. وإذا كان بذل جهد ما في ألمانيا، مصطنع واضطرار في معظمه، استخلاص الدروس من الكارثة ـ فإن ذلك لم يحصل في باقي الدول. وإذا كان هناك أحد قد أخد بمسؤولية ما عن التعاون المباشر وغير المباشر مع ألمانيا النازية، فقد تم هذا بشكل محدود وضيق للغاية.
مع أن اللاسامية أصبحت مع الوقت شيئاً مؤدباً، ولكنها لم تنل العلاج. فقد شخصت دوماً لدى «الآخرين»، وحظيت أساساً بغطاء جديد: اللاصهيونية واللاإسرائيلية. وهكذا نشأ خليط من الكراهية هو عمليا ًواحد: كراهية اليهود ودولتهم. في أوساط «السترات الصفراء» يتهمون الرئيس ماكرون بكونه «خادم اليهود»، ورجال حكم ماكرون يدعون بأن إسرائيل هي «دولة أبرتهايد». معارضو سياسة الهجرة للمستشارة ميركيل ينشرون نظريات المؤامرة التي تقول إنها سمحت للهجرة الجماعية للعرب من الشرق الأوسط وفقاً لتعليمات تلقتها من «حكومة تل أبيب»، ومسؤول كبير في وزارة الخارجية في برلين يشبه بين الفلسطينيين والمسيح. قسم من مؤيديه البريكزيت من اليمين يرون في الاتحاد الأوروبي «ابتكاراً يهودياً»، وقسم من معارضيه من اليسار يرون في إسرائيل «أم كل مشاكل العالم». وإلى ذلك ينبغي بالطبع أن يضاف التحريض اللاسامي المنتشر في أوساط جاليات المهاجرين العرب والمسلمين في أوروبا ـ الذين ما كانوا ليحصلوا على الحجوم التي حصلوا عليها لو كانوا يقبلون الإحساس بأن اللاسامية أمر مرفوض تماماً.
أوروبا على ما يبدو لم تتغير. لقد كانت لاسامية وستبقى كذلك، ولكن الواقع اليهودي تغير. غولدا مائير، من ممثلي الوكالة اليهودية إلى مؤتمر افيان قالت بعد فشل المؤتمر الدولي: «ثمة شيء واحد، آمل أن أشهده قبل موتي ـ ألا يكون شعبي خاضعاً لرحمة الآخرين». وقد تحققت أمانيها. لليهود اليوم مكان لجوء، دولتهم الخاصة. ولكن بدلاً من ترسيخها في الأيام التي تنتعش فيها مخاوف وذكريات قاسية سابقة ثمة بين اليهود من يعملون على إضعافها ـ سواء من خلال خلق مقارنات مرفوضة تماماً بين إسرائيل وألمانيا النازية أم من خلال التأييد لفرض المقاطعة، النبذ وباقي سبل القتال. هذه لحظة طوارئ، ومن لا يفهم في هذا الوقت أهمية إسرائيل قوية، يخدم اللاساميين. إذا لم يكن هو نفسه لاسامياً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى