آراء

العنف الجنسي لا يقتصر على المرأة فقط

لا يمكن للقوات الأمنية، بأمرة الأنظمة القمعية، إلا أن تلجأ إلى أكثر الأساليب انحطاطا لتكميم الأفواه والهيمنة على الشعب. هذه حقيقة لم يعد بالإمكان التشكيك بها، لأنها من صلب وجود هذه الأنظمة التي تتغذى على العنف، بأنواعه، وأكثره سفالة هو الاغتصاب الذي لم يعد يقتصر على النساء كسلاح لمنعهن من المشاركة بأي نشاط عام بل وامتد بممارساته الكريهة ليشمل الأطفال والرجال، في بلدان عديدة، تمزقها الحروب أو حين تشهد تظاهرات احتجاجية، مهما كانت سلمية مسارها. وما حدث في السودان، في الأسابيع الأخيرة، نموذج لسلوك الأنظمة القمعية حيث ارتكبت وحدة قوات التدخّل السريع «الجنجويد»، المتنفذة ضمن وحدات الأمن، والتابعة لنائب رئيس المجلس العسكري محمد حمدان دقلو، عديد الانتهاكات وبضمنها اغتصاب نساء ورجال، أثناء فض الاعتصام أمام مقر القيادة العامة للجيش منذ 3 يونيو/حزيران، حسب مصادر متعددة.
يكاد لا يخلو بلد عربي من الجرائم الوحشية ذاتها التي نشهدها، حاليا، في السودان، وإن كان على مستويين هما بسبب المشاركة في التظاهرات أو الاعتقال. فسجل العراق وليبيا وسوريا، حافل، يدل على خوف الأنظمة المزمن من شعوبها وحاجتها الماسة إلى سلب كرامة الشعوب بأي أسلوب كان. وليس هناك ما هو أكثر نجاحا، بالنسبة إليها، من الهيمنة على أجساد الضحايا لسحق الكبرياء وإذلالهم. وقد شهد العقد العربي الأخير، تطور آلية الحد من مشاركة أفراد الشعب، خاصة المرأة، في أي حراك اجتماعي، من التهديد بالضرب أو الاعتقال أو إعاقة الحركة إلى استخدام انواع كانت نادرة، نسبيا، كالاختطاف والقتل والاغتصاب. ففي العراق، أصبح اختطاف المتظاهرين وضربهم ومن ثم إطلاق سراحهم والسماح لهم بالحديث عما عانوه، ليكونوا أمثولة تخيف الآخرين، شائعا. كما، بين الحين والآخر، اختطاف أحد الناشطين وتغييبه، لتصل درجة الترويع حدا أقصى. وإذا كانت المرأة العراقية قد استحوذت على حصة كبيرة من التهديد بالقتل أو الاغتصاب، وتنفيذهما، فعليا، في حالة المعتقلات والسجينات، منذ غزو العراق عام 2003، فإن القتل والاغتصاب طالا الرجال أيضا، في سجون الاحتلال الأمريكي والبريطاني والحكومات العراقية على حد سواء. حيث أصبح التهديد بالاغتصاب أو الاغتصاب الفعلي، ضد الاثنين، معا، ليمس «الشرف» كقيمة اجتماعية وأخلاقية عالية، متناميا بشكل طردي مع ازدياد شراسة الأنظمة في استقتالها للدفاع عن مصالحها، وثقة الجناة بعدم محاسبتهم وتقديمهم للعدالة.
ويتطابق ما ارتكبه الجناة في لسودان ضد المرأة المشاركة في التظاهرات مع المرأة المصرية التي عاشت التجربة نفسها أثناء اعتصامات ميدان التحرير وأماكن أخرى، واحيانا لمجرد وجودها في الأماكن العامة، حيث انتشرت مجموعات التحرش التي تعتدي على الفتيات بطريقة منظمة مما دفع الحكومة إلى سن قانون يجرّم التحرش الجنسي بعد تزايد الضغوط لمكافحتها.

 

ويُعدّ العنف الجنسي ضدّ الرجال والفتية في سوريا من بين انتهاكات حقوق الإنسان التي قام «مشروع جميع الناجين» والأمم المتحدة بتوثيقها، بدءًا من سبتمبر/أيلول 2017 وحتى أغسطس/آب 2018، ليضاف إلى قائمة العنف الجنسي ضد المرأة والفتيات. وهي تفاصيل قلما يتم التطرق إليها من قبل الضحايا والمنظمات الحقوقية معا. حيث يقتصر عمل المنظمات على توثيق حالات العنف ضد الفتيات والنساء باعتبار الجناة رجالا، بالإضافة إلى «الصور النمطية السائدة حول «الرجولة» التي تُعزّز التصورات في أوساط العاملين في المجال الإنساني بأن بإمكان الرجال رعاية أنفسهم وأنهم ليسوا بحاجة إلى المساعدة»، كأن العالم كان بحاجة إلى رؤية صور التعذيب في «أبو غريب» وخاصة المجندة الأمريكية ليندي انجلاند بابتسامتها المنتشية وسط الضحايا العراة، ليعرف أن الجلاد واحد، أيا كان جنسه. ولا فرق في تأثير هذه الانتهاكات الجسيمة على نفسية الضحايا. حيث يعانون، حسب التقرير، من الإحساس بالعار، وفقدان الثقة بالنفس، واضطرابات النوم، والإحساس بقلّة الحيلة، والشعور بالارتباك، والتفكير في الانتحار. وينتاب الناجون من الرجال الإحساس بفقدان الذكورة ولوم الذات. وتُعزى هذه المشاعر إلى الثقافة المجتمعية والتوقعات السائدة من الرجال والفتية، باعتبارهم مسؤولين عن حماية أنفسهم وعوائلهم.
تبين شهادات عديد الضحايا سواء من المشاركين بالتظاهرات أو المعتقلين السياسيين بالإضافة إلى المنظمات الحقوقية المحلية والدولية أن الخطوة الأولى لوضع حد لهذه الانتهاكات البشعة هي كسر حاجز الصمت والعمل على مقاضاة الجناة. قد لا يكون هذا سهلا، لمن يعيش في ظل نظام قمعي أو احتلال، إلا أنه حق إنساني وقانوني وأخلاقي يجب عدم التخلي عنه مهما طالت السنين، إن لم يكن من أجل الضحايا أنفسهم فمن أجل أبنائهم، لئلا تتكرر المأساة. ولدينا في تقدم ثلاثة مواطنين كينيين، يمثلون آلاف الضحايا، بقضية ضد الحكومة البريطانية لأنهم تعرضوا للتعذيب من قبل قوات بريطانية أثناء انتفاضة الماو ماو في خمسينيات القرن الماضي، سابقة تستحق التقليد والتقدير. فقد ارتكبت هذه الجرائم في فترة الاحتلال البريطاني لكينيا قبل أكثر من ستين عاما، لكن الاغتصاب من الجرائم التي لا تسقط بمرور أي زمن، وقد استغرقت القضية سنوات، إلا أن الضحايا رفضوا التخلي عن حقهم، ونجحوا في أجبار الحكومة البريطانية عام 2013 على دفع تعويضات والاعتراف بممارسة التعذيب ضدهم ومن بينهم رجل تعرض للإخصاء وامرأة تعرضت للاغتصاب. وقدمت المحكمة سابقة قانونية من ناحية الإقرار بتجريم التعذيب الذي مورس على الضحايا، ذكورا أو أناثا، باعتباره عنفا جنسيا وليس جسديا فقط. ويوضح مركز العدالة الانتقالية الدولي مصطلح «الانتهاكات الجنسية» بأنه يمكن أن يأخذ أشكالا متعددة، بما في ذلك الاغتصاب والاغتصاب الجماعي والاستعباد الجنسي والتعرية القسرية والإجبار على القيام بأفعال جنسية مع الآخرين. وهو تعريف ينطبق، بكل بساطة، على ممارسات سلطة الاحتلال الأمريكي ـ البريطاني والحكومات العراقية المتعاقبة، بالإضافة إلى بقية الأنظمة العربية القمعية. وسيبقى انتهاك الجسد أداة لسلب الكرامة الإنسانية، ما لم تتوصل الجماهير إلى التخلص من الأنظمة القمعية، وإقامة حكم يمثلها، تكون واحدة من مهامه الأولى مقاضاة الجناة، وخاصة أفراد قوات الأمن الذين يفترض بهم حماية الناس.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى