آراء

المرأة الكردية، من أين وإلى أين؟

الواقع الثقافي والتاريخي والمجتمعي(١)

 

كثيراً ما يجري الحديث عن المجتمع الكردي وعن المرأة الكردية، إقليمياً ودولياً، خاصةً بعد رواج مقاومة المرأة الكردية في قتالها ضد تنظيم داعش الإرهابي في شمال سوريا-روجافا. لكن قليلاً ما يكون هناك اطّلاع على حقيقة المرأة الكردية بأبعادها التاريخية والثقافية والاجتماعية، وكيف صارت اليوم رمزاً عالمياً في قتال أعتى تنظيم ظلامي في المنطقة. بالتالي، ولفهم هذه التطورات المصيرية واستيعابها بأفضل صورة، لا بد من دراسة الواقع الكردي على صعيد المرأة وكيف وصلت إلى ما هي عليه الآن.
تنتمي المرأة الكردية إلى واقع مجتمعي معروف بطابعه الجَبَلي وبتشبثه بالأعراف والتقاليد القَبَلية والعشائرية بدرجة كبيرة حتى الآن. إذ تعود هذه التقاليد -أو لنَقُل الثقافة- القَبَلية إلى آلاف السنين. أي أنها ثقافة عريقة جداً، تميزت فيها المرأة الكردية بمنزلة خاصة على وجه العموم. حيث اهتمامها الكثيب بالأرض والزراعة قد أفضى إلى تحصينها بهالة من القدسية، بحيث نجد أن الرموز الأنثوية كانت منتشرة جداً في تلك الأزمان.
بل حتى إن أي مطَّلِع على اللغة الكردية سيجد أن هذه اللغة بذاتها، وكذلك أغلب اللواحق والسوابق والمفردات فيها، هي ذات طابع أنثوي. ويكفي أن نشير إلى أن مفردتَي “المرأة-Jin” و”الحياة-Jîn” في اللغة الكردية متطابقتان لمعرفة مدى التفاف الحياة الاجتماعية في الواقع الكردي حول المرأة بامتياز ومنذ غابر الأزمان.
وهذا ما جعل المجتمع الكردي يتميز بذهنية مجتمعية يطغى عليها الطابع الديمقراطي بالتوازي مع تشربه بالثقافة القَبَلية الأصيلة. حيث كان للمرأة الكردية دور متميز في جميع نواحي الحياة، وخاصة في أوقات الحرب والسلم، حيث تُعرَف المرأة بدورها المحوري في سد الطريق أمام الكثير من الحروب، أو في إنهائها واستتباب الأمن والسلام بدل الاقتتال. بل وكثيراً ما كان الزواج من المرأة الكردية وسيلة للتسامح وفض الخلافات الجذرية. ولعل ذكر اسم المَلكة الميتانية “نفرتيتي” كافٍ في هذا السياق لإيضاح هذا الأمر على سبيل الذكر وليس الحصر (الميتانيون هم أسلاف الكرد الحاليين).
ما من شك في أن الكثير من الأحداث التاريخية التي مر بها المجتمع الكردي قد أثرت في هذه الحقائق المذكورة أعلاه سلباً، وألحقت بها الكثير من الأضرار والتغيرات. فظواهر وأحداث الغزو والاحتلال والاستعمار لم تَغِبْ عنه ولم تترك خناقه. لكن، ومع تغلغل النظام الرأسمالي في منطقة الشرق الأوسط عموماً وبين صفوف المجتمع الكردي خصوصاً، ومع تأجج النعرات القومية بالتوازي مع قيام الدول القومية خلال القرنين الأخيرين بشكل أخص، نجد أن حملات الإبادة والصهر والمجازر والتقسيم والتجزيء طالت المجتمع الكردي بنسبة أكبر مما تعرضت له شعوب المنطقة، وبصورة يقل نظيرها. فتغيرت الكثير من المعايير والثقافات لدى أغلب شعوب المنطقة من سيئ إلى أسوأ. وكان للمجتمع الكردي بصورة عامة وللمرأة الكردية بصورة خاصة نصيبهما الأكبر من القصف الذهني الرأسمالي الشامل.
فمن ناحية، ونتيجة رفض الكرد للحياة المدنية وتشبثهم بتقاليدهم التي تخللتها الكثير من الشوائب والتغيرات السلبية، قد جعل المجتمع منغلقاً على ذاته، ويصبّ جام غضبه على المرأة في مفارقة غريبة وفريدة من نوعها، لدرجة أنها باتت حتى وقت قريب لا تجرؤ على خطو ولو خطوة واحدة خارج منزلها من دون “رجل” يحميها! ومن ناحية أخرى، ونتيجة الرضوخ للأمر الواقع وتشرّب وتمثُّل هذا القصف الذهني الرأسمالي طوعاً أو إكراهاً، نجد أن حالات الانفتاح التي حصلت –على ندرتها- كانت مشحونة بالاغتراب عن الذات وتقليد ومحاكاة الغير في محاولة يائسة للتشبث بالحياة أياً كان شكلها أو مضمونها! فخرجت المرأة الكردية من كينونتها الذاتية، وباتت تعني كل شيء إلا ذاتها. وبمعنى آخر، باتت تعني “اللاشيء”.
رغم كل ذلك، لا بد من الإشارة إلى أن قَبول هذا الواقع لم يكن بالأمر السهل على صعيد المرأة الكردية. إذ كثيراً ما قاومت المرأة هذا الأمر، وتشبثت بإرادتها وعملت على إبراز هويتها كلما سنحت الفرصة. بالتالي، ورغم كل ظواهر القمع والضغط والاستغلال المطبق على المرأة بصورة مضاعفة نتيجة هويتها القومية وهويتها الأنثوية، إلا إن التاريخ الكردي القريب يشهد الكثير من الشخصيات النسوية الكردية التي تركت بصماتها في أحلك الظروف.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى