آراء

عن الفدراليّة والدولة الوطنيّة في سوريا

كشفت السجالات الصاخبة حول الفدرالية السورية عن جملةٍ من المفارقات البنيوية لا في الخطاب السياسيّ فقط، بل في الوعي السياسيّ والنموذج المعرفيّ الذي ينتجه، نعني نموذج التفكير والإدراك والتمثل والعمل، وهو نموذجٌ لا تنفصل فيه المعرفة عن الأخلاق. وسبق السجالَ حول الفدرالية سجالٌ حول وصف الدولة المنشودة أو تسميتها وسِمَتها: هل هي “الجمهورية العربية السورية” أم “الجمهورية السورية”. وفي الحالين كان السجال، ولا يزال، محكوماً بثنائية أو ثنوية “الأكثرية” و”الأقليات”، معرّفتين بالعرق واللغة مرّةً وبالدين والمذهب مرّةً أخرى، ومقنَّعتين بادعاء التسامح والتحرر والتعايش والإخاء ونشدان “الديمقراطية”. وإذ يميل الكورد خاصّةً إلى الفدرالية والجمهورية السورية فقد وُصفوا بالانفصاليين المتآمرين على وحدة سوريا أرضاً وشعباً وبالشوكة في خاصرة الوطن، كدولة إسرائيل. ومن ثمّ فإن الفدرالية ذاتها “رجسٌ من عمل الشيطان”.
في ظاهر الخطابات، ثمة إجماعٌ أو شبه إجماعٍ في أوساط الإنتلجنتسيا السورية على “الديمقراطية”، وعلى “دولةٍ مدنيةٍ تعدّدية”، على ما في هذا الشعار من تلبيسٍ فكريٍّ ومكرٍ سياسيٍّ وجهل. فإذا فهمنا الديمقراطية، (من ديموس، أي الشعب)، على أنها حقيقة أيّ نظامٍ من أنظمة الحكم، على نحو ما بَسَطها كارل ماركس، يفترض أن يكون الشعب هو المرجع والحَكَم، وأن يخلص النقاش، لا السجال، إلى إيكال المسألتين المذكورتين، الفدرالية وسِمة الدولة، إلى الشعب وإلى صندوق الاقتراع، في مناخٍ تنافسيٍّ تتمكن فيه جميع القوى من التعبير عن آرائها وتفضيلاتها بحرّية.
أما على صعيد الممارسة الفكرية والاجتماعية والسياسية فلا يبدو الأمر كذلك، بدليل بلوغ السجال حول المسألتين الأساسيتين مبلغ الحرب وما تتسم به من همجيةٍ وانحطاطٍ أخلاقيٍّ، تجلى في تنابز من يعتقدون أنهم ممثلون حصريون للعرب المسلمين السنّة ومن يعتقدون أنهم ممثلون حصريون للكورد أو غيرهم من “الأقليات”. تذكِّر هذه الحرب الأيديولوجية (الكلامية)، بما تنطوي عليه من عنصرية، بسوابقها التاريخية، ولا سيما تلك التي وُصفت بالنزعة “الشعوبية”، التي انخرط فيها كتابٌ وشعراء ومتكلمون مرموقون. فمن أكثر المفارقات البنيوية التي أشرنا إليها أن يكون الفرد أو الحزب ديمقراطياً وعنصرياً في الوقت نفسه، علاوةً على أن يقول الشيءَ ونقيضَه في الوقت نفسه، وهذا من أبرز خصائص المنطق السجاليّ. الذين يعلنون اعترافهم بالتعددية وقبولهم بها يرفضون ترجمتها سياسياً ودستورياً وقانونياً، تحت شعارات الوحدة الوطنية والتعايش والإخاء. فحسبُ التعددية أن تكون شعاراً يخفي ميولاً عنصرية. لا تحيل الشعارات على المطالب والتوقعات دوماً، ولا تحيل على اليوتوبيا دوماً، بل يغلب أن تكون لها وظيفةٌ دعائيةٌ أولاً وتقنيعيةٌ أو تضليليةٌ ثانياً، علاوةً على وظيفتها المعرفية في تعزيز الدوغمائية، كشعارات الوحدة العربية وتحرير فلسطين ومناهضة الإمبريالية والصهيونية، والتي أسّست مقبولية الاستبداد والتسلط والنهب والفساد، أو التغاضي عنها، في سبيل القضايا المركزية والأهداف الكبرى.
في حمأة السجال وتوفز المتساجلين غاب مفهوم الدولة الوطنية، ومفهوم المواطنة، اللذان لا رصيد لهما أساساً في معرفتنا وثقافتنا وقيمنا، وغاب عن النبهاء من هؤلاء أن الدولة الفدرالية دولةٌ وطنية، أكثر ديمقراطيةً من الدولة الوطنية المركزية، التي تحمل جرثومة التسلط والعدوان والاستعمار وجرثومة الإمبريالية، وتنطوي دوماً على آليات استغلالٍ وتمييزٍ وإقصاءٍ وتهميش، من دونها لا تكون مركزية، إضافة إلى طابعها الذكوريّ.
تشير هذه السجالات ومفارقاتها إلى وعيٍ سياسيٍّ يفصل المسألة الوطنية (= القومية) عن المسألة العلمانية – الديمقراطية، وقد أشرنا إلى ذلك قبل “الربيع العربيّ”، ثم مع بداية الثورة السورية[1]. ومردّ هذا الفصل القطعيّ بين المسألة الوطنية والمسألة العلمانية – الديمقراطية هو كيفية تأويل “الدولة القومية” (= الدولة الوطنية)، التي بلورتها الحداثة، أواخر القرن الثامن عشر، في الفكر السياسيّ العربيّ عامةً ولدى النخبة السورية خاصّة، وتفريغها من محتواها العلمانيّ – الديمقراطيّ، واختزالها في “الدولة العربية” الواحدة، دولةً مركزيةً للعرب الأقحاح من المحيط إلى الخليج. ويتصل بذلك أوثق اتصالٍ فصل مفهوم الأمة عن مفهوم المجتمع المدنيّ، ومن ثم فصل مفهوم السلطة عن مفهوم الشعب، وهو ما أدّى في نهاية المطاف إلى بعث الاستبداد والتسلط من جوف التاريخ وتحديثهما في صيغة “دولة البعث” و”سوريا الأسد” و”الشعب العربيّ السوريّ”، حتى بات الكورديّ والآثوريّ والأرمنيّ والشركسيّ والتركمانيّ.. عرباً سوريين، في البطاقات الشخصية وجوازات السفر، قسراً وإرغاماً. وكان النظام التعليميّ أداةً ناجعةً لتعريبٍ فظٍّ لغير العرب من السوريين، إلى جانب “المنظمات الشعبية” أو منظمات الواجهة الرديفة للحزب القائد.
تجب العودة هنا إلى مفهوم الأمة في فكر ساطع الحصري وزكي الأرسوزي وميشيل عفلق، ومدرسة حافظ الأسد، ومدرسة صدام حسين، ومدرسة معمر القذافي، التي اعتبرها المثقفون القوميون العرب مرجعياتٍ فكريةً وسياسية، بعد “تصفية الناصرية”، لكشف النقاب عن حقيقة أن فكرة الأمة العنصرية (الأمة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة) أساس فكرة الدولة المركزية العنصرية، “دولة البعث” وأساس النظام التسلطيّ، وأن فكرة الأمة العنصرية إثنياً (الأمة العربية) معادلٌ علمانيٌّ لفكرة الأمة العنصرية مذهبياً (الأمة الإسلامية)، حسب المتكلم، سنّياً كان أم شيعياً أم غير ذلك من الفرق الناجية. العقيدة هي العقيدة، سواء كانت عقيدة حسن البنا أو سيد قطب وغيرهما أم عقيدة زكي الأرسوزي وميشيل عفلق وغيرهما، ولا سيما في ظلّ الأدلوجة التي تقول: “العروبة مادة الإسلام، والإسلام روحها، فلا تنهض الأمة إلا بجناحيها: العروبة والإسلام”.
ولما كانت فكرة “الأمة” أساساً سوسيولوجياً وأيديولوجياً وأخلاقياً لفكرة “الدولة القومية”، فمن البديهيّ أن تولِّد فكرةُ الأمة الإسلامية المتجانسة مذهبياً فكرةَ “الدولة الإسلامية” المتجانسة مذهبياً، وتنبذ، من ثمّ، غير المسلمين وغير السنّة أو الشيعة (حسب المتكلم/ــة) من دائرة الأمة ودائرة الدولة، وتعتبرهم إما من أهل الذمة، وإما مشركين وكفاراً وزنادقة. ومن البديهيّ أيضاً أن تولِّد فكرةُ الأمة العربية النقية عرقياً فكرةَ الدولة القومية العربية النقية عرقياً، وتنبذ، من ثمّ، غير العرب من دائرة الأمة ودائرة الدولة، وتعتبرهم إما من الموالي، وإما أعشاباً ضارةً يجب اسئصالها.
يقول جورج طرابيشي في إحدى هرطقاته: كانت ثورة الحداثة قد ابتكرت مبدأ العلمانية وطبقته وطوّرته حلاً لمشكلة الأقليات الدينية والطائفية. ولكن هذا الحلّ، على عبقريته، كشف عن قصوره في مواجهة مشكلة الأقليات القومية. وهكذا وجدنا أوروبا تقدّم، في القرن التاسع عشر، مشهداً غريباً ومتناقضاً لدولٍ متسامحةٍ على الصعيد الدينيّ ومتعصبةٍ على الصعيد القوميّ. ثم جاءت التجارب التوتاليتارية في ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا، في النصف الأول من القرن العشرين، لتكشف عن مدى طغيان النزعة القومية وقابليتها للتحول إلى شوفينيةٍ عدوانية، إذا لم تستند إلى ركيزةٍ من الثقافة الديمقراطية إضافةً إلى العلمانية. وقد تأدّى سقوط التجارب الفاشية في هذه البلدان إلى توسيع مفهوم الديمقراطية[2].
في الحالة العربية عامةً، والسورية خاصّةً، لا تزال العلمانية موضوع أخذٍ وردٍّ على الصعيد الثقافيّ، بل الأيديولوجيّ. وتوصم بمناهضة الدين عامّةً و”الإسلام” خاصّة. ويرى فيها بعضهم أدلوجةً أقلويةً تخفي عداوةً مستحكمةً للإسلام السنّيّ، ويعارضونها بديمقراطية صندوق الاقتراع وحقّ الأكثرية في الحكم. وما ذلك إلا لأن الطائفية المذهبية متجذرةٌ في الثقافة والاجتماع والسياسة والأخلاق، وليس من دليلٍ أكثر سطوعاً على ذلك من الحرب الطائفية الدائرة منذ خمس سنوات. فإذا كانت مسألة التعدد المذهبيّ لم تحلّ علمانياً بعد، ولا يبدو حلها مطروحاً في الأفق المنظور، فما بالكم بمسألة التعدد الإثنيّ وحقّ الجماعات الإثنية في تقرير مصيرها بنفسها؟!
لقد أشرنا مراراً إلى أن اللامركزية خيارٌ ديمقراطيّ، والفدرالية أيضاً، ولكننا خصّصنا اللامركزية لنذهب إلى أبعد من الحقل السياسيّ، أي إلى نقد المركزية الإثنية – المذهبية والمركزية الذكورية على ما بينهما من تضامنٍ تاريخيّ. وفي ضوء السجال الصاخب الذي أشرنا إليه لا بدّ من اعتبار الفدرالية مطلباً أساسياً للقوى الديمقراطية، عربيةً كانت أم كورديةً أم غير ذلك، مطلباً للقوى الديمقراطية لا للقوى المذهبية والإثنية، وذلك لإنصاف الجماعات الإثنية والمذهبية المهمّشة والمحرومة، ولا يمكن لأيّ نظامٍ غير علمانيٍّ – ديمقراطيٍّ أن ينصفها، على اعتبارها من مقوّمات المجتمع الأهليّ الحامل جنين المجتمع المدنيّ، لا على اعتبارها “مكوّناتٍ سياسية”، وقد شاع هذا المصطلح الرديء بين السوريين عن العراقيين، ما يوحي بإمكانية عرقنة سوريا. لا تقوم الفدرالية على أساسٍ عرقيٍّ – لغويٍّ أو مذهبيّ، ولكنها لا تحول دون قيام إقليم حكمٍ ذاتيٍّ للكورد السوريين، والكورد وحدهم أصحاب الحقّ الحصريّ في تحديد علاقتهم بالوطن السوريّ وبالدولة السورية. مبدأ العقد الاجتماعيّ، السياسيّ والأخلاقيّ، هو حرية الاختيار، والمواطنة، من ثمّ، اختيارٌ حرّ، ولا تكون بالقسر والإكره.
كان يمكن، ولا يزال ممكناً إلى حدٍّ ما، أن يتوافق السوريون (رجالاً ونساءً) على عقدٍ اجتماعيٍّ يترجَم إلى دستورٍ حديثٍ علمانيٍّ – ديمقراطيّ، يعرِّف سوريا بأنها جمهوريةٌ سوريةٌ فدرالية، سيدةٌ ومستقلة، نظامها السياسيّ ديمقراطيٌّ برلمانيّ، يتساوى مواطناتها ومواطنوها في الحريات الأساسية الخاصّة والعامة والحقوق المدنية والسياسية، وتتساوى فيها جميع القوميات والأديان والمذاهب في القيمة والكرامة. ولكن الظروف الراهنة قد لا تفضي إلى مثل هذا العقد إلا على طريق آلامٍ طويلة.
الدولة الوطنية علمانيةٌ – ديمقراطيةٌ أو لا تكون دولةً وطنية. والفدرالية شكلٌ ديمقراطيٌّ من أشكال الدولة الوطينة. لا نريد للفدرالية العلمانية – الديمقراطية أن تكون مجرّد مخرجٍ من أزمة، بل نريدها تأسيساً لمجتمعٍ ديمقراطيٍّ وحياةٍ إنسانيةٍ لائقةٍ قوامها الحرية والمساواة والعدالة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى