آراء

وديع فلسطين كما يرى نفسه وتراه ولاء أبو ستيت.. العاصفة التي تأخرت سبعين عاماً

سأبدأ من النقطة الأهم في حياة الكاتب الصحافي الكبير وديع فلسطين، وهي اللبس الذي كان سبباً في شهرته وهو اعتقاد معظم القراء بأنه فلسطيني المولد والجنسية، على عكس الحقيقة بالطبع فهو مصري من الجنوب، مواليد مركز إخميم بمحافظة سوهاج، لم يعتن الكاتب كثيراً بتصحيح هذه المعلومة وظل متمتعاً بميزة الانتشار وسعيداً بما يثار حوله من جدل وغموض ولهذا فقد بدأ مشواره الصحافي الطويل بالذكاء والمناورة لإحساسه أن ذلك يضفي علية قدراً من الأهمية، وقد حدث بالفعل ما كان يظنه.
في كتابها «وديع فلسطين… حارس بوابة الكبار الأخير» تبدو الكاتبة ولاء عبد الله أبو ستيت متماهية إلى حد الذوبان في تاريخ الرجل الذي بلغ من العمر عتيا وحصل من الذكريات والخبرات ما يجعل الانبهار به منطقياً وهي نقطة الضعف التي لم تستطع ولاء إخفائها حتى أنها تخلت تماماً عن حيادها وصارت مجذوبة بكل كيانها لهذا التاريخ الصحافي الذي يمشي على الأرض فلم يكن بوسعها وهي تحت هذا التأثير الإنساني أن تفند ما يطرح وما يسرد من وقائع تاريخية هي بالضرورة لا تخضع لوجهة نظر واحدة كونها معلومة لمن قرأ وكتب وعاش المراحل والأزمنة المشار إليها في الكتاب المهم الذي يقع في 165 صفحة من القطع المتوسط.
نقلت الكاتبة حرفياً كل ما ورد على لسان وديع فلسطين دون أدنى محاولة للاشتباك معه ولو من باب إشعار القارئ بوجودها ككاتبة لها وجهة نظر تختلف وتتفق مع ما يقال على اعتبار أنها تقدم دراسة وليست مجرد وسيط لنقل المذكرات كما يرويها صاحبها، خاصة أن نقاطا كثيرة في الكتاب تجدر أن تكون محل نقاش إن لم تكن موضع احتجاج، فالمخضرم ذو التسعين عاماً ذكر من بين ما ذكر أسماء وقامات كبيرة لشخصيات صنعت أحداثاً ولعبت دوراً كبيرا ة في الحياة السياسية عبر سنوات طويلة منذ ثلاثينيات القرن وما قبلها وما بعدها ولم يفته تسجيل ملاحظاته على أي من المراحل التاريخية التي عاصرها وكذلك الأشخاص بذواتهم ومناصبهم، وهو ما يعطي الحق في المناقشة والتساؤل عن مدى دقة وموضوعية ما يرويه.
إن جل ما يدور حوله الكتاب وتتمحور داخله كل الأفكار هو ذلك الصراع القديم بين الكاتب الكبير وديع فلسطين وثورة يوليو التي كانت سبباً في قعوده عن العمل، وهو أمر بالقطع جلل ومرارة يصعب على مثله أن يتجرعها صاغراً، ولكن محل الخلاف ليس في ما كتبة ضد الثورة وما زال يكتبه ويصوغ فيه كراهيته وعدائه الشديدين للضباط الأحرار وعبد الناصر فهذه مسألة يمكن تفهمها، وإنما موطن الخلاف يكمن في دواعي وأسباب موقف الثورة منه وهو ركيزة أساسية في قضية الخلاف، ولجلاء الحقيقة نورد بعض ما جاء على لسانه ونقلته الكاتبة بسياقاته التاريخية، ومنها أنه عمل في جريدة «المقطم» لسان حال الاحتلال البريطاني فترة طويلة قبل قيام الثورة وشغل بها موقعاً متميزاً وهي التي كانت مملوكة لفارس نمر ويعقوب صروف وشاهين مكاريوس وتتلقى دعماً من اللورد كرومر شخصياً وفق ما نشرته جريدة «المؤيد» آن ذاك ولم يتم تكذيبه، ثانياً أن فلسطين حصل على جائزة من الملك فاروق قيمتها 50 جنيهاً عام 49 وشهادة تقدير قدمها له كريم ثابت رجل السرايا المعتمد نيابة عن الملك!
وفي سياق متصل منفصل يدافع الكاتب وديع فلسطين في الكتاب الذي يسجل مذكراته عن كريم ثابت واصفاً إياه بالنزاهة والرصانة والحكمة مبرراً ما كتب عنه من سوء السلوك بأنه جاء من قبيل التشويه وبقصد الإساءة لكونه كان مستشاراً صحافياً لفاروق الأول ملك مصر والسودان حينئذ، ولا يعتبر وديع فلسطين تبعية جريدة «المقطم» للحكومة البريطانية سبة أو نقيصة فجريدة «اللواء» التي أسسها الزعيم الوطني مصطفى كامل كانت ذات هوى فرنسي، وكذلك جريدة «الأهرام» كانت في بدايتها تتمتع بالحماية الفرنسية قبل أن تتحول إلى جريدة وطنية تندد بالاستعمار وهي التي ظلت لفترة طويلة تندد بالثورة العرابية وتهاجم عرابي ورفاقه.
لم ير وديع فلسطين أن كل هذه الحيثيات كانت مسوغات كافية لإبعاده عن أجواء الصحافة المصرية ولا يزال معادياً للثورة التي ظلمته من غير بينة، ويحكي عن الأيام الثلاثة التي قضاها في الحجز مدة التحقيق بمرارة كأنها ثلاثين عاماً، علماً أنه يكرر في مذكراته أنه هو من اتخذ بمحض إرادته قرار اعتزال الصحافة ويعيب على محمد حسنين هيكل استمراره في بلاط صاحبة الجلالة ووصوله إلى مكانة رفيعة بها معللاً ذلك أو موحياً بأنه حقق ما حققه من شهرة ونجاح بتملق السلطة وانتمائه المزعوم لثورة يوليو أو حركة الضباط الأحرار المباركة كما يسميها استهجاناً واستخفافاً.
واستمراراً في الهجوم على يوليو ورجالها يمعن فلسطين في قراءة الأحداث السياسية تبعاً لما أوردته الكاتبة ولاء أبو ستيت قراءة تعسفية هجومية فيصف مشروع القومية العربية بأنه المشروع الأسوأ في انجازات عبد الناصر لأنة حول آمال الشعوب إلى أيديولوجية سقيمة، ويرى أن وحدة مصر وسوريا عام 58 كانت وحدة مخابرات لا وحدة شعبين شقيقين. وفي حملة الهجوم طالت ألسنة اللهب الروائي العالمي نجيب محفوظ الذي لم يذكر اسمه بعد حصوله على نوبل كمترجم لرواية الأب في المقابلة التلفزيونية التي سئل فيها عما إذا كان قد قرأ الأدب السويدي أم لا!

*نقلا عن القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى