تقارير وتحليلات

التنقيب عن الغاز قد يقربهما.. أمريكا وإيران تتفاوضان عند الحدود اللبنانية الإسرائيلية

قالت صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية، في 13 مايو الماضي، أنَّ البيت الأبيض يراجع خططاً عسكرية لمهاجمة إيران، هبطت طائرةٌ كانت تُقِل ديفيد ساترفيلد القائم بأعمال مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأدنى سراً في العاصمة اللبنانية بيروت في رحلةٍ غير معلنة.

فلم تمنع التوترات المتصاعدة بين واشنطن وطهران ساترفيلد من الإسراع إلى بيروت، بعد موافقة حزب الله المدعوم من إيران أخيراً على موقف الحكومة اللبنانية المتمثل في دخول مفاوضاتٍ مباشرة لتسوية نزاعٍ حدودي مع إسرائيل، بحسب موقع LobeLog الأمريكي.

ومن المتوقع أن تبدأ هذه المفاوضات في الأسابيع المقبلة، وقد تستكشف فيها الولايات المتحدة وإيران محادثاتٍ مباشرة بينهما لأول مرة منذ تولي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مهام منصبه في عام 2017.

ولفهم الصورة بشكل أوضح، نعود قليلاً للوراء، فمنذ عام 2012، تتوسط الولايات المتحدة في نزاعٍ حدودي بحري بين لبنان وإسرائيل على منطقة مثلثية تبلغ مساحتها 860 كيلومتراً مربعاً قبالة ساحل البحر المتوسط اكتُشِف فيها غازٌ في عام 2009.

وفي العام الماضي 2018، حصل تحالفٌ تجاري مكون من شركة توتال الفرنسية، وشركة إيني الإيطالية، وشركة نوفاتيك الروسية على عقدٍ لبدء الحفر في منطقتين قبالة الساحل اللبناني، من بينهما المنطقة رقم 9 المُتنازع عليها.

أدى ذلك إلى توترات بين البلدين. ولم تشهد تلك المحادثات انفراجةً كبيرة حتى الشهر الماضي مايو/أيار.

اجتماع متوتر مع الأمريكيين

في أثناء التحضير لزيارة وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو إلى بيروت يومي 22 و23 مارس، عقد ساترفيلد اجتماعاً متوتراً في 5 مارس مع رئيس البرلمان اللبناني نبيه بري، الذي يؤدي دوراً رئيسياً في لبنان بخصوص النزاع الحدودي مع إسرائيل.

كانت إدارة ترامب تريد آنذاك أن ينضم بري إلى الرئيس اللبناني ميشال عون ورئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري في الاتفاق على إجراء محادثاتٍ مع إسرائيل حتى «يتوصل القادة اللبنانيون إلى موقفٍ يحظى بإجماع بشأن مسارٍ للمضي قدماً في مفاوضات النزاع الحدودي».

منصة الأساس لاستخراج الغاز في البحر المتوسط/ رويترز

منصة الأساس لاستخراج الغاز في البحر المتوسط

ووصل الأمر إلى حد التهديد، ففي 6 أبريل، طرح تقريرٌ إخباري فكرة أنَّ واشنطن قد تفرض عقوباتٍ على الدائرة الداخلية لنبيه بري في رسالةٍ واضحة إلى زعيم حركة أمل، الذي يُعَد حليفاً وثيقاً لحزب الله.

لكن انفراجة كبيرة حدثت عندما غيَّر بري موقفه في 23 أبريل بموافقةٍ واضحة من حزب الله

إذ قال آنذاك اللواء ستيفانو ديل كول، قائد قوة الأمم المتحدة المؤقتة في جنوب لبنان (اليونيفيل): «نحن على استعداد لترسيم حدود لبنان البحرية وحدود المنطقة الاقتصادية الخالصة باستخدام الإجراء نفسه الذي استُخدِم لرسم الخط الأزرق تحت إشراف الأمم المتحدة».

والخط الأزرق هو الخط الحدودي البري الذي رُسِم بعد انسحاب إسرائيل من لبنان في عام 2000. وبالمصادفة في اليوم التالي، سرَّبت جريدة الأخبار اللبنانية برقياتٍ دبلوماسية مُرسلة من السفارة اللبنانية في واشنطن إلى وزارة الخارجية اللبنانية تناولت بالتفصيل اجتماعاً عقده ساترفيلد في 15 مارس/آذار مع مسؤولين لبنانيين زائرين في واشنطن. وبحسب ما ورد، هدَّد ساترفيلد المسؤولين بأنَّ لبنان يجب أن تقبل العرض الأمريكي وإلَّا «فلتبحث عن وسيطٍ آخر».

في 9 مايو/أيار، قدَّم ميشال عون مبادرةً رسمية إلى السفيرة الأمريكية في لبنان إليزابيث ريتشارد.

وكانت المبادرة مكوَّنة من عنصرين رئيسيين:

1) تشكيل لجنةٍ عسكرية لعقد اجتماعات في مقر قيادة اليونيفيل في بلدة الناقورة جنوبي لبنان تحت رعاية الأمم المتحدة إلى جانب الولايات المتحدة بصفتها وسيطاً فعلياً،

2) التفاوض على الحدود البرية والبحرية في وقتٍ واحد.

وفي إشارةٍ إلى القبول المبدئي لهذه المبادرة، قال وزير الطاقة الإسرائيلي يوفال شتاينيتس في 27 مايو إنَّ هذه المحادثات «من أجل خدمة مصالح البلدين في تطوير احتياطيات الغاز الطبيعي والنفط».

إلا أنَّ إسرائيل ردَّت عبر ساترفيلد بتقديم عرضٍ مضاد يتمثل في توسيع اللجنة العسكرية لتشمل دبلوماسيين في ظل اهتمامٍ واضح منها باستدراج الجانب اللبناني إلى مفاوضاتٍ جوهرية من شأنها تطبيع المحادثات الثنائية.

ما الذي جعل التفاوض مع إسرائيل ضرورة؟

اعترفت بيروت بضرورة التفاوض مع إسرائيل بدلاً من السماح للأمم المتحدة بترسيم الحدود البحرية من جانبٍ واحد على أساس خرائط دولية تُثبت ملكية لبنان. لكن رأت أمريكا وإسرائيل أنَّ ترسيم الحدود البحرية لا يدخل في نطاق سلطة الأمم المتحدة، وقامت إسرائيل بالتشكيك في دور الأمم المتحدة، لكنها وافقت على دورها اللوجستي في المفاوضات.

ولكن هناك مسألةٌ أخرى مثيرة للجدل، وهي ما إذا كان ينبغي التفاوض على ترسيم الحدود البحرية والبرية في وقتٍ واحد كما عرضت لبنان في المبادرة، أم جعل المحادثات مقصورةً على الحدود البحرية كما تقترح إسرائيل.

من جهتها أكَّدت الولايات المتحدة أنه لا يوجد في القانون الدولي أي علاقة بين ترسيم الحدود البرية وترسيم الحدود البحرية. وبينما ألمحت إسرائيل إلى أنَّها ستتفاوض على الحدود البحرية فقط، لم يتضح رد لبنان المرتقب حتى الآن.

قواعد المفاوضات التي سيتم البدء بها

مدة المفاوضات: تريد لبنان وإسرائيل تحديد هذه المعايير -ولا سيما الإطار الزمني وإطار العمل- قبل بدء المفاوضات في الناقورة.

إذ تسعى إسرائيل إلى تحديد مهلة مدتها 6 أشهر لهذه المحادثات، لكنَّ الجانب اللبناني يُصر على جعل المفاوضات مفتوحةً حتى التوصُّل إلى اتفاق، بحجة أنَّ إسرائيل قد تماطل إذا جرى تحديد إطار زمني.

إطار العمل: يدور إطار العمل حول تحديد دور الأمم المتحدة والولايات المتحدة في هذه المفاوضات. إذ يريد المسؤولون اللبنانيون ضمان حمايةٍ من الأمم المتحدة لأنَّها هي التي ستُضفي الطابع الرسمي على أي اتفاقٍ يجري التوصُّل إليه وتُسجله، ويريدون كذلك من واشنطن أن تضغط على الجانب الإسرائيلي عند الحاجة.

لكنَّ ساترفيلد يرى أنَّ دور الولايات المتحدة هو «تيسير» المحادثات دون التدخُّل فيها بدرجةٍ أكبر من اللازم.

ويبدو أن إدارة ترامب ليست مستعدةً لتكرار جهود الوساطة الأمريكية الفاشلة السابقة، عندما رسم السفير فريدريك هوف في عام 2012 خطاً حدودياً بحرياً يمنح لبنان 60% من المنطقة المتنازع عليها أصبح يُعرف باسم «خط هوف»، وترك الولايات المتحدة وسط هذه المحادثات الصعبة.

مرونة إيرانية في لبنان تجاه اسرائيل وأمريكا 

على الرغم من التصعيد الدبلوماسي والعسكري في الشهر الماضي بين واشنطن وطهران، فإنَّه يُبيِّن كيف ظهرت هذه الانفراجة الكبيرة في النزاع الحدودي بين لبنان وإسرائيل، والتي تُقدِّم أيضاً نموذجاً فريداً لكيفية نزع فتيل التوترات بين الولايات المتحدة وإيران، وبين إسرائيل وإيران.

إذ تعكس المرونة الإيرانية في لبنان حقيقة أنَّ حزب الله لم يعد يفرض حق الرفض على المفاوضات الرامية إلى تسوية قضايا حدودية مع إسرائيل.

إذ قال حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله في خطابٍ ألقاه يوم 31 مايو الماضي: «نقف وراء الدولة ونثق في أنَّ المسؤولين يعالجون هذه القضية (النزاع الحدودي)، ولا نتدخل».

وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ المسؤولين الإسرائيليين ووسائل الإعلام الإسرائيلية قد التزموا الصمت إلى حدٍّ كبير بشأن هذا الخلاف الحدودي، في حين كان المسؤولون اللبنانيون والتسريبات الإعلامية يسيطرون على الإعلام ويقودون تغطية جهود ساترفيلد الدبلوماسية.

هناك ثلاثة دوافع رئيسية وراء المبادرة اللبنانية:

أولها القلق من أن رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو، الذي يدعمه ترامب، قد يحدد الحدود البحرية لإسرائيل مع لبنان من جانبٍ واحد.

ثانيها أنَّ هناك ضغوطاً أمريكية على الحكومة اللبنانية للشروع في محادثاتٍ مع إسرائيل، وهو ما كان واضحاً في رحلة بومبيو إلى بيروت في مارس/آذار الماضي.

ثالثها أنَّ الحكومة اللبنانية تواجه أزمةً اقتصادية حادة وتحتاج بشدة إلى عائدات الغاز.

إذ تهدف لبنان إلى البدء في حفر آبار الغاز في المنطقة رقم 9 المتنازع عليها (والواقعة على الحدود البحرية مع إسرائيل) في يناير/كانون الثاني من العام المقبل 2020، بالإضافة إلى أنَّها فتحت باب المزايدة بالفعل في أبريل الماضي أمام الشركات الراغبة في الحصول على المناطق الخمس المتبقية، التي تتضمَّن منطقتين مجاورتين للساحل الإسرائيلي، وهو ما شكَّل دافعاً إضافياً لبيروت لحل هذا النزاع الحدودي.

أما بالنسبة لنتنياهو فإن من مصلحته أيضاً توفير بيئة آمنة للشركات الأجنبية التي تنقب عن الغاز في البحر المتوسط.

وتجدر الإشارة إلى أنَّ استقالة أفيغدور ليبرمان، الذي يُفضِّل الحلول العنيفة، من وزارة الدفاع الإسرائيلية في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي ساعدت في تخفيف التوترات في ظل انتقال مسؤولية ملف المفاوضات بالكامل إلى وزير الطاقة شتاينيتس بدلاً منه.

وجديرٌ بالذكر أنَّ الضغط الأمريكي في الفترة التي سبقت زيارة بومبيو إلى بيروت في مارس الماضي أسفر عن بعض التغييرات في وجهات نظر الحكومة اللبنانية بشأن المفاوضات مع إسرائيل وكيفية التعامل مع أسلحة حزب الله.

ففي 26 أبريل/نيسان، أشار وزير الدفاع الوطني اللبناني إلياس بو صعب إلى أن الرئيس ميشال عون سيدعو قريباً إلى إجراء حوار وطني لمناقشة «استراتيجية دفاع وطني تجعل امتلاك الأسلحة مقصوراً على الجيش اللبناني».

وفي 16 مايو/أيار، طلب الرئيس اللبناني من الولايات المتحدة «المساعدة في زيادة الاستقرار على طول الحدود مع إسرائيل بترسيم حدودٍ دائمة».

إلا أن هذه التحركات تهدف إلى امتصاص الضغط الأمريكي وليس دفع تحوُّلٍ كبير في سياسة لبنان.

الهدف من المحادثات من وجهة النظر الأمريكية

إذ ترى إدارة ترامب أن هذه المحادثات الإسرائيلية اللبنانية ضرورية لإضعاف حجة حزب الله بشأن الاحتفاظ بأسلحته في الوقت الذي يتعرض فيه لضغوطٍ مالية أمريكية متزايدة.

لكنَّ بري عارض ذلك، وقال عبر بعض المصادر في 29 مايو إنَّ لبنان «تتطلع إلى إكمال عملية التفاوض مع إسرائيل، بشرط ألَّا تكون قضية أسلحة حزب الله مرتبطةً بملف الترسيم».

وكذلك أكَّد نصر الله في الخطاب الذي ألقاه يوم 31 مايو أنَّ الخلافات الحدودية يجب ألا ترتبط بتخلي حزب الله عن صواريخه الموجهة بدقة.

ثمة عقباتٌ مستقبلية قد تعيق الوساطة الأمريكية وعملية التفاوض، فاستعداد نتنياهو للانتخابات البرلمانية المقبلة، المتوقع إجراؤها في سبتمبر/أيلول، قد يُضعف احتمالية موافقته على اتفاقيةٍ حدودية قد تستخدم ضده كنقطة ضعف في حملته الانتخابية.

وذلك بالإضافة إلى أنَّ التوترات السياسية تفاقمت في لبنان مؤخراً، وإذا وصلت إلى مستوى يُصيب الحكومة بالشلل، فقد يؤثر ذلك في الموقف الموحَّد الحالي بين عون وبري والحريري.

وعلاوة على ذلك، قد يضطر ساترفيلد قريباً إلى تولي منصب سفير الولايات المتحدة لدى تركيا، بعدما صدَّق مجلس الشيوخ على تعيين ديفيد شينكر خلفاً له في منصب مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى.

وقد يؤخر ذلك عملية التفاوض، نظراً إلى أنَّ شينكر سيتعين عليه أن يتعرف على المحاورين الرئيسيين إذا وقع عليه الاختيار لمواصلة جهود الوساطة التي يؤديها ساترفيلد.

ومن ثَمَّ، فمن الصعب أن نرى كيف يمكن أن يتوصل الجانبان إلى اتفاقية حدودية قريباً.

في حال وقعت هذه العقبات، هل يمكن أن تفرض أمريكا اتفاقية حدودية؟ 

صحيحٌ أنَّ الولايات المتحدة ضغطت على لبنان لقبول المفاوضات، لكنَّ فرض اتفاقية حدودية قد يسفر عن نتائج عكسية (كما حدث عندما رفضت بيروت «خط هوف»).

وكذلك فهذه المحادثات قد تصبح أقل أهميةً في خِضَم الأحداث المنتظرة بين واشنطن وطهران في المستقبل القريب. وعلاوة على ذلك، يبدو أنَّ الولايات المتحدة مترددةٌ في المشاركة المباشرة في طرح أفكارٍ لحل هذا النزاع، وهو ما قد يُقيِّد وساطتها لأنَّ كلا الجانبين لن يُقدِّم تنازلاتٍ وحده.

لكنَّ التحدي الذي يواجه واشنطن هو الحفاظ على نهج متوازن في هذه الوساطة. فعلى سبيل المثال، رفض بومبيو في ديسمبر/كانون الأول الماضي طلباً إسرائيلياً بفرض عقوبات على لبنان بسبب اكتشاف أسلحة حزب الله، مما ساعد على بناء بعض الثقة بين إدارة ترامب والقادة اللبنانيين.

وجديرٌ بالذكر أنَّ الإنتاج المتوقع من الغاز اللبناني سيغطي الاحتياجات المحلية، لذا فمن شأن تسوية هذا النزاع الحدودي أن تسمح للحكومة اللبنانية بالبدء في التنقيب عن الغاز وسط أزمات حوكمة وأزماتٍ مالية عميقة.

بيد أنَّ لجوء الولايات المتحدة أو إيران إلى استخدام ورقة التنقيب عن الغاز لفرض تحالفاتٍ إقليمية جديدة على لبنان من شأنه أن يضعف النظام السياسي اللبناني الهش بالفعل.

لذا ينبغي للولايات المتحدة أن تواصل تكثيف جهودها التوسطية بإبقاء الطرفين على طريق حل نزاعهما الحدودي بالمفاوضات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى