تقارير وتحليلات

العراقيون: “الميناء مغلق بأمر من الشعب”

في الشارع الذي يؤدي إلى ميناء أم قصر، ميناء النفط والتجارة الرئيسي في العراق، تم وضع مكعبات ثقيلة من الإسمنت، يستند إليها عدد من الشباب الملثمين ويلفون أعناقهم بأعلام العراق. “الطريق مغلق بأمر من الشعب”، هكذا كتب على الحائط باللون الأحمر. لا أحد يدخل ولا أحد يخرج، على الأقل في تلك الأيام التي تؤدي فيها الطريق إلى الميناء الأكثر أهمية. في نهاية الأسبوع قالت الحكومة إن العراق خسر تقريباً 6 مليارات دولار بسبب إغلاق طريق العبور إلى الميناء، وإغلاق طرق العاملين في شركات النفط، التي اضطر عدد منها بصورة كبيرة إلى تقليص استخراج النفط من الآبار، وفقا لصحيفة “هآرتس” العبرية.

هناك ثمن باهظ للمظاهرات التي بدأت في بداية تشرين الأول الماضي، فإضافة إلى أكثر من 420 شخصاً قتلوا وآلاف المصابين، ثمة ضرر اقتصادي ضخم. عدد من المحللين العراقيين يعتقدون بأن الحكومة تقوم بتضخيم حجم الضرر الاقتصادي بشكل متعمد، لا سيما في فرع النفط، من أجل تخويف المتظاهرين وجعلهم يفهمون أن من يريد تغيير طريقة الحكم واجتثاث الفساد عليه أن يفكر أيضاً بأنه لن تكون هناك أموال للحكومة لدفع الرواتب إذا لم تتمكن من تصدير النفط.

ولكن المتظاهرين لا يعنيهم هذا الأمر، وخاصة عندما تبلغ نسبة البطالة في الدولة 11 في المئة. وعندما تكون هذه النسبة 25 في المئة في أوساط الشباب، وفي محافظات معينة تصل إلى 40 في المئة، فإن الرواتب التي لا يحصلون عليها أصلاً، لا تعنيهم. ورداً على ذلك فإنهم يعرضون الحجم الخيالي لرواتب أعضاء البرلمان والقيادة التي تبلغ أكثر من 35 ألف دولار شهرياً لعضو البرلمان، مقابل أجر الحد الأدنى البالغ 200 دولار للعامل البسيط.

الراتب الأساسي الذي تم تحديده لعضو البرلمان هو في الحقيقة نحو 800 دولار، لكن تضاف إليه علاوات مثل علاوة وظيفة وعلاوة مقابل لقب دكتور (100 في المئة) وعلاوة لأصحاب اللقب الثاني (75 في المئة). إضافة إلى ذلك، يحصل عضو البرلمان على منافع كبيرة جداً مثل السيارة والوقود وبدل استضافة ضخمة ونفقات مختلفة، تزيد راتبه بشكل كبير يفوق المتعارف عليه في دول الغرب.

خزينة الدولة تدفع رواتب تقاعد لنحو 3.7 مليون متقاعد عملوا في الأجهزة الحكومية، ونحو 4 ملايين موظف يعملون (من بين عدد السكان الذي يبلغ 40 مليون نسمة). هذه هي المعطيات الرسمية. عملياً، تدفع الدولة لعدد أكبر من الموظفين الذين يحصلون على 75 في المئة من الميزانية التي تبلغ 112 مليار دولار. النتيجة هي أن شريحة صغيرة من الميزانية تبقى للاستثمار في مشاريع البنى التحتية وتطويرها. مثل مشروع قومي لبناء آلاف الصفوف صودق عليه في ميزانية السنة الماضية، لكن لم يُبنَ منها سوى القليل، ومن غير الواضح أين اختفت الأموال. ولكن حسب معطيات ميزانية 2018 فإن 12 في المئة منها كانت مخصصة للتطوير، وعملياً استغل 5 في المئة منها.

أين اختفت الأموال المتبقية؟ في ظل غياب الرقابة وعندما يكون مفهوم الشفافية غير معروف، فمن الصعب متابعة ليس النفقات، بل إن المداخيل تظل موضوعاً متروكاً للتخمين. وحسب تقرير البنك الدولي في تشرين الأول، انخفضت مداخيل العراق من الضرائب بـ 33 في المئة بسبب زيادة عدد المعفيين من دفع الضرائب، في حين أن النفقات زادت بـ 29 في المئة بسبب ضم المليشيات الشيعية تحت مسؤولية وزارة الدفاع. نتيجة لذلك، يتوقع البنك أن النمو في الاقتصاد سيكون هذا العام 4.6 في المئة، في حين أن نسبة النمو في 2021 تنخفض إلى 2.7 في المئة.

اقتصاديون عراقيون قالوا إن المشكلة لا تكمن في نقص الأموال – في الحقيقة ميزانية 2018 انتهت بفائض بلغ 21 مليار دولار، بل بسبب الإدارة السيئة والفساد الممأسس. والمثال على ذلك هو حصة الدولارات التي يستطيع المستوردون الحصول عليها بسعر مخفض من البنك المركزي. ومن أجل الحصول على الحصة، عليهم عرض إثباتات استيراد البضائع. ومن هذه يتبين أنه من السهل الحصول عليها بواسطة رخص كاذبة يوفرها لهم الملحقون الاقتصاديون في سفارات العراق في أرجاء العالم. الدولارات الرخيصة يبيعها المستوردون في السوق السوداء، وحياتهم جميلة.

مثال آخر هو السيطرة الحزبية على محطات النفط. في ميناء أم قصر تسيطر ثلاث حركات سياسية، وهي: حركة عمار الحكيم، وحركة مقتدى الصدر الزعيم الشيعي الذي يثير مؤيديه ضد الحكومة وضد سرقة الخزينة العامة، وحزب القانون برئاسة رئيس الحكومة السابق نوري المالكي وهو من أكثر الزعماء الفاسدين الذين تولوا رئاسة الحكومة في العراق، كل بضاعة تدخل أو تخرج من الميناء تدر عمولة جيدة لهذه الأحزاب، إضافة إلى الشرائح السميكة التي تحصل عليها من ميزانية الدولة بغطاء تمويل الوزارات الحكومية التي تسيطر عليها. هذه هي “طريقة الحصص” التي يحتج عليها المتظاهرون الذين يطالبون بتشكيل حكومة تكنوقراط نظيفة وشفافة. ولكن يصعب إيجاد شخص تقنوقراط في العراق غير مرتبط بأحد التيارات السياسية.

صحيح أن العراق نهض بصورة مثيرة للانطباع منذ انتهاء الحرب ضد “داعش”: الوضع الأمني أفضل بكثير، وإنتاج النفط وصل إلى 5 ملايين برميل يومياً (مقابل 3 ملايين برميل في العام 2014)، وعدد من البنى التحتية مثل شبكة المياه، تحسنت… ولكن دولة لديها احتياطي النفط الخامس في العالم، مديونة بنحو 66 مليار دولار (منها 40 مليار دولار من فترة صدام حسين)، وهي تدفع في كل سنة 12 مليار دولار على الفوائد والمبالغ المستردة.

ولكن هذه المعطيات لا تقنع المتظاهرين لكي يتوقفوا عن احتجاجهم. فهم غير مستعدين لدفع ثمن الفساد وإخفاقات الإدارة. وهم يطالبون بحلول فورية، وبالأساس أماكن العمل. وحتى استقالة الحكومة ورئيسها عادل عبد المهدي لا يمكنها تلبية هذه المطالب، ولا حتى الحكومة الجديدة التي من غير المعروف متى سيتم تشكيلها.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى