تقارير وتحليلات

بعد 40 عاماً من الثورة الإيرانية.. لو عاد الخميني لأصابه الذهول، الدولة التي أسسها تسير على نهج خصومه

بعد 40 عاماً من الثورة الإسلامية، إيران تتحول إلى دولة طبيعية تدريجياً، رغم أنف حكامها، الذين تستند شرعيتهم إلى هذه الثورة.

لم تُهزم الثورة الإيرانية من قبل أعدائها ولكن الطبيعة البشرية هي التي هزمتها، وتبين أن الزمن هو أكبر أعدائها.

الصحفي الألماني توماس أردرينك، مدير مكتب صحيفة The New York Timesالأمريكية في طهران، كتب تقريراً عن التغييرات العميقة التي أصابت المجتمع الإيراني بعد 40 عاماً من ثورته.

10 أيام هزت إيران.. بدأت بالرقص وانتهت بمطاردة الراقصين

في فبراير/شباط عام 1979، اجتاحت طهران حالة من الفوضى وغادر محمد رضا بهلوي المصاب بالسرطان آنذاك، وهو من المستبدين الذين دعمهم من الغرب، البلاد إلى المنفى في منتصف شهر يناير/كانون الثاني، تاركاً وراءه مجلس وصاية على العرش متداعياً.

وفي 1 فبراير/شباط، عاد آية الله روح الله الخميني، الأب الروحي للثورة الإيرانية، من المنفى في باريس.

وفيما يشبه النسخة الإيرانية من كتاب “Ten Days That Shook the World-عشرة أيام هزت العالم»، الذي أرخ للثورة البلشفية بروسيا، احتدمت مظاهرات الشوارع حتى انهارت الحكومة في 11 فبراير/شباط.

رقص الإيرانيون المبتهجون في الشوارع، وطاردوا الجنود والقناصة الموالين للحكومة، الذين كانوا يطلقون عليهم الرصاص من أسطح المنازل.

وانضمت العائلات إلى الاحتجاجات الجماهيرية، حيث نهب الحرس الثوري متاجر الخمور وقبَّل الناس جباه رجال الدين المعممين الذين يقودون الثورة.

الفخر والحماسة تحولا إلى سنوات دموية

قبل 40 عاماً، ملأ الإيرانيين إحساس بالفخر والأمل وتوقعات بمستقبل أفضل. وأشعلت أحلام الحرية والاستقلال عن الولايات المتحدة حماسة الثوار.

لكن التغيير الكبير والسريع ترك جروحاً عميقة ودائمة. كانت هناك ممارسات عقابية بالجلد، والشنق، والبتر، والسجن الجماعي. وتوفي آلاف الأشخاص وغادر مئات الآلاف البلاد، بعضهم فروا بحياتهم، ولم يعودوا قَط.

ما تحقق بعد تلك السنوات الدموية الأولى كان ثورياً حقاً: جمهورية إسلامية دينية مبنيَّة على خيارات أيديولوجية مستوحاة إلى حد كبير من آية الله الخميني.

ضوابط صارمة نُفذت بوحشية أحياناً

وُضعت قواعد جديدة تمنع أي شيء قد يؤدي إلى ضلال الناس: ضوابط صارمة على وسائل الإعلام عزلت الإيرانيين عن التأثيرات الغربية.

جرى الفصل التام بين الجنسين في الأماكن العامة؛ وفُرض الحجاب الإجباري للمرأة؛ وحُظر الكحول والآلات الموسيقية على التلفزيون؛ وقواعد تحظر على النساء ركوب الدراجات.

واستمر ذلك، وجرى تنفيذه أحياناً بوحشية من قِبل شرطة الأخلاق وقوات الباسيج شبه العسكرية.

ثم تدريجياً أصبح كل شيء قابلاً للتفاوض.ز إيران تتحول إلى دولة طبيعية

لكن على مر السنين، ومع تلاشي الحماسة الثورية المبكرة واشتياق معظم الناس إلى عيش حياة أكثر طبيعية، أصبحت تلك القواعد قابلة للتفاوض.

في حين ظل النظام السياسي هو نفسه بالأساس كما في تلك السنوات الأولى، إلا أن المجتمع تغير ببطء، وفي بعض الأحيان بشكل غير محسوس.

 

لقد كانت تلك التغييرات هائلة، وإيران اليوم أقرب إلى ما يتمنى معظم الغرباء أن تكون عليه: بلد «طبيعي» كما يريده الإيرانيون.

لقد استغرق الأمر بعض الوقت حتى تصل التغييرات التراكمية إلى كتلة حرجة.

فتدريجياً، إيران تتحول إلى دولة طبيعية حتى لو كره حكامها ذلك.

فقبل 20 عاماً كان العشاق يلتقون سراً

يقول الكاتب: «عندما زرت إيران للمرة الأولى بصفتي مراسلاًَ شاباً، كانت الذكرى الـ20 للثورة قد مرت لتوها، وكانت البلاد لا تزال تعيش في صورتها الثورية.

فقد تزينت المباني العالية بجداريات معادية لأمريكا أو صور لشهداء حرب 1980-1988 مع العراق.

وكانت حركة المرور في الشوارع المشهورة مكونة بالكامل من بحر من السيارات البيضاء المصنوعة محلياً والتي تسمى «بايكان».

في حديقة صغيرة، قريبة من المكان الذي استقررت فيه بنهاية المطاف، كان الأولاد والبنات يلتقون سراً على بعض المقاعد الأكثر سرية، بعيداً عن أعين المتطفلين، ولكن أيضاً بعيداً عن شرطة الأخلاق.

في تلك الأيام، رأيت منازل الناس من الداخل مختلفة تماماً عن الخارج. غالباً ما كان المرور عبر الأبواب الأمامية للمنازل يعني الدخول في واقع مختلف، حيث تختفي جميع القواعد التي تطبَّق في الشوارع بطريقة سحرية.

والرقص كان يمارَس خفية داخل المنازل

داخل المنازل، هناك قصص -إيران لديها ثقافة عميقة من رواية القصص- تتبعها رشقات من الضحك الناتج عن الرقص على أغاني البوب ​​الفارسية المهربة من لوس أنجلوس بالولايات المتحدة.

في كثير من الأحيان، يرافق الموسيقى شخص ما يضرب الطبول، أو إذا لم تكن الطبول متاحة، كانت مقالي الأزر تستخدم بدلاً من الطبول.

كان الجميع -المحاسبون والصحفيون والأطباء والممرضون- يستمتعون بحفلات عطلة نهاية الأسبوع التي كانت غير قانونية من الناحية الدينية.

فقد أصبح كل الإيرانيين ممثلين عالميين بفضل القمع

أصبح الإيرانيون ماهرين في القيام بأدوار مختلفة. وكان عباس كياروستامي، المخرج الحائز جائزة والذي تُوفي في عام 2016، يستخدم معظم الناس بالحياة اليومية بدلاً من الممثلين في أفلامه، لأن الإيرانيين كانوا معتادين الانتقال بين الحياة في عالَمين.

لكن مع تقدُّم السنوات، بدأت التغييرات تتسلل إلى الخارج وتصبح أكثر وضوحاً.

يقول الكاتب: «عندما قررت زوجتي، التي تعمل مصورة، منذ سنوات عديدة، الحصول على خاتم لارتدائه في الأنف، تعرضت للطرد فوراً.

وبينما كان المحررون والكُتاب يعتبرون أنفسهم إصلاحيين، فإنهم ما زالوا يعتبرون خاتم الأنف شيئاً مقيتاً وغربياً.

لكن هذه الأمور أصبحت الآن متاحة في كل مكان. من المعتاد أن ترى امرأة يتدفق شعرها الودري من تحت الحجاب.

وتركب النساء الآن الدراجات الهوائية، التي كانت تعتبر في السابق غير مناسبة. ويمكن حتى رؤيتهن على الدراجات النارية».

والموسيقى أصبحت تصدح في الشوارع

وبينما لا يزال التلفزيون الرسمي يرفض عرض الآلات الموسيقية، هناك موسيقيون متجولون في شوارع طهران.

يقول: «في أحد الأيام كنت أشاهد اثنين من الشباب: أحدهما يضرب على الطبول، والآخر يعزف على الغيتار، وفجأة ظهرت امرأة شابة طويلة معها غيتار وانضمت إليهما».

في بعض الأحيان كانت الدولة تقاوم هذه السلوكيات، وتقوم ببعض الاعتقالات؛ في محاولة لكبح تلك التغييرات، لكن المقاومة لم تدم طويلاً. في بعض الأحيان، بدا الأمر كما لو أنهم قد استسلموا ببساطة لهذه التغييرات.

وهذا هو السلاح الذي هزم الدولة

كانت الاتصالات بالعالم الخارجي -الإنترنت بالطبع، ولكن بشكل خاصٍّ البث التلفزيوني عبر الأقمار الاصطناعية والذي كسر حجاب العزلة- هي الدوافع الحاسمة للتغيير.

في أحد الأيام، داهمت الشرطة مبنى سكنياً ودمرت العديد من أطباق الأقمار الاصطناعية على السطح.

الطبق الوحيد المتبقي كان لي؛ بصفتي صحفياً، وكان لدي إذن خاص بالحصول على طبق.

في ذلك المساء، انضمت إليَّ 20 امرأة مجاورة في غرفتي المعيشية، لمشاهدة مسلسلاتهن التركية المفضلة. بحلول اليوم التالي، كان لديهن أطباق جديدة.

وها هي الشرطة تستسلم بعد خسارتها المعركة مع كيم كارداشيان

لقد تخلت الشرطة إلى حد كبير عن تلك المعركة أيضاً.

فهناك الكثير من أطباق التقاط البث في كل مكان.

ويستطيع الإيرانيون الآن مشاهدة أكثر من 200 قناة باللغة الفارسية تعمل من الخارج.

الإيرانيون يشاهدون المسلسلات الأمريكية عبر القنوات الخارجية

وتعرض هذه القنوات، كل شيء من مسلسل Keeping Up With the Kardashians إلى الأخبار غير المفلترة وأفلام هوليوود.

إذ أن إيران تتحول إلى دولة طبيعية تدريجياً.

حتى أن الشبان أصبحوا يتعانقون في الحدائق

كانت هناك أيام يصاب الناس فيها بالدهشة عندما يشاهدون صبياً وفتاة يسيران يداً بيد في الشوارع. لم يكن ذلك الوضع موضع تقدير وقتئذ، خاصة بين غير المتزوجين.

اليوم يجلسون في الحدائق معاً، ويتعانقون في الظل، ويحتضن بعضهم بعضاً خلال حفلات موسيقى الروك.

الآن، مع اقتراب عيد الحب، يتناقش الشباب بحماسة بشأن ما يُحضرونه إلى صديقاتهم.

هؤلاء الشباب يمكن أن تشاهدهم منهمكين في صنع بالونات على شكل قلب أو دمى دببة عملاقة، ويركعون على رُكبهم من أجل صديقاتهم في الأماكن العامة، ثم ينشرون المشهد بأكمله على مواقع التواصل الاجتماعي، ليراه الجميع.

وإنستغرام يُحدث ثورة مضادة

من الأمور الطريفة أن إيران تتحول إلى دولة طبيعية بفضل إحدى أشهر تطبيقات التواصل الاجتماعي.

علاوة على ذلك، أحدث تطبيق إنستغرام لمشاركة الصور، وهو غير محظور في إيران، ثورة في الطريقة التي ينظر بها الإيرانيون إلى أنفسهم.

فقد كان إنستغرام محركاً رئيساً للتغيير في بلد يجري إخفاء كل شيء فيه.

الشرطة الإيرانية تلقي القبض على شاب يرسم وشماً على ظهره

يقول الكاتب: «عندما انتقلتُ إلى إيران في عام 2002، كانت الصور لا تزال تُلتقط على الأفلام، وكان علينا أن نكون حذرين، لأنه يجري فحصها في مختبر، حيث قد يرى شخص ما شيئاً قد يسبب مشاكل».

واستدرك: «لكن عندما أضفت مؤخراً إحدى صديقاتي من الجيران على موقع للتواصل الاجتماعي، استطعت أن أراها من دون حجاب، في الحفلات وأوقات المرح».

لقد تحطمت الحواجز التي لطالما قسمت الحياة إلى عامة وخاصة في إيران، حيث يستخدم الآن الإيرانيون الشوارع بالطريقة التي يحبونها.

ولكن في السياسة الأمر مختلف.. فهل حان وقت تغييرها؟

إيران تتحول إلى دولة طبيعية إلا في السياسة.

فالسياسة في إيران قصة مختلفة.

فقد قامت الثورة الخضراء في عام 2009، عندما نهض الناس للاحتجاج على الانتخابات المزورة.

لكن السلطات قمعتهم، وظلت مجموعة الأشخاص التي تتخذ القرارات كما هي دون تغيير إلى حد كبير على مر السنين، بل تقلصت إلى مجموعة أصغر.

ومع ذلك، بعد التخلي عن الكثير من المحرمات الاجتماعية، يواجه قادة إيران معضلة متزايدة بشأن ما إذا كان عليهم البدء في ترجمة التغييرات الاجتماعية إلى قوانين وعادات جديدة، أو محاولة التمسك بالمثل العليا للثورة البالغة من العمر 40 عاماً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى