تقارير وتحليلات

ترجمة خاصة|| سرَّعت الشهاداتُ من قرار العودة إلى الوطن.. من مذكرات سكينة جانسيز (الحلقة ٤٥)

 

مَثُلْنا أمام المحكمة قبل انتهاء شهر أيار. إنه وقت الانتخابات، وقد حاول المحامي توظيف القاعدة الجماهيرية لحزب الشعب الجمهوري في خدمة هذه الدعوى، وبذلك تَمكَّن من إطلاق سراحنا بالكفالة. التقيتُ يومَها بأخي وبحيدر السروجي وآخرين. ذهبنا أولاً إلى حيّ إنجيرالتي، بناءً على طلبه للنقاش مع رفاق آخرين هناك. لاحظتُ ملصقاتٍ كبيرة الحجم معلَّقة على القسم الزجاجي من بوابةِ مدخلِ حَرَمِ مساكنِ الطلبة، وهناك حشدٌ من الناس يمعنون النظر فيها بفضول. وفور دخولي من البوابة، رأيتُ صورتَي “حقي قرار” و”آيدن غول” معلَّقتَين. وقد كُتِبَ في أعلى الملصَق الخاص بـ”حقي قرار”:
“الأممي العظيم حقي قرار 1977”. أما في الأسفل، فكُتِبَ ما يلي:
“لا شيء أثمن من الاستقلال والحرية!”،
“لقد قُتِلَ الابن البارّ وبطل الشعب التركي، الأممي العظيم ورائد ثورة كردستان، الرفيق حقي قرار، في تاريخ 18 أيار 1977، وذلك في مدينة عينتاب وعلى يد تنظيم “الأجزاء الخمسة ” العميل. إن ذكراه خالدة!”،
“يسقط الاستعمار والإمبريالية وكل أنواع الرجعية!”،
“يسقط الاستفزازيون العملاء!”،
“تحيا الأممية البروليتارية!”
توقيع: ثوار كردستان.
لم أتمالك نفسي من البكاء، ولم أعد قادرة على متابعة القراءة. شددتُ قبضتي، وضغطتُ على نفسي. كان “آيدن غول” أيضاً قد قُتِلَ قبل ذلك. صرختُ بصوتٍ جهور: “أيها السفلة!”. إنه أول شهيدٍ لنا، وقد قُتِلَ على يد حزب التحرير الشعبي، بل وباسم الثورية! كيف تحملتُ ذلك آنذاك يا إلهي؟ لماذا لم يُخبِرني الرفاق؟ فأنا برفقة أحد أعضاء ذلك الحزب، وهذه جريمة. أشعر بالاشمئزاز والتقزز. حسناً، ما عاد لي أن أبقى هنا ولو ثانيةً واحدة بعد الآن. سأذهب حتى ولو لم يوافق أحد. ما عاد ينفع الانتظار. اللعنة على السجن الذي أضاع مني ثلاثةَ أشهر برمتها. أجل، وثلاثة شهورٍ ليست بالمدة القليلة. أعود لأقرأ ما كُتِب في أعلى صورة آيدن غول:
“آيدن غول، بطل النضال التحرري الوطني الكردستاني!”.
تذكّرتُه في هذه اللحظة. لقد كان شاباً يافعاً، وكان يأتي إلى منزلنا ويذهب برفقة مَتو. كان رفيقاً ناضجاً وصامتاً. كيف جرى ذلك؟ لا أصدّق ذلك بأية حال. في أسفل الصورة كُتِبَ التالي:
“لن تدخل الثعالبُ مملكةَ الأسُود!”،
“لن يدخل الفاشيون إلى وردةِ ديرسم!”،
“طريق الثورة مرتبطٌ به”،
توقيع: ثوار كردستان، 8 آذار 1977.
أصبحتُ لا أودّ رؤية “باقي” بعد الآن. هو أيضاً انتبه إلى حالتي النفسية هذه، فالتزمَ الصمتَ مكتفياً بمراقبتي عن بُعد. لكننا تناقشنا بعد ذلك فقال: “حزب التحرير الشعبي لم يفعل ذلك”. إنه لا يصدّق. ثم أردف قائلاً: “ما زلنا نبحث في الأمر”. باتت كلمةُ “نبحث” توَلّد لديّ ردة الفعل. فما الذي سيبحث فيه؟ ثمة ثوريٌّ قد قُتِل، وهذا أمر مختلف تماماً عن البحث في الكتب. يكفيه هنا أن يضغط قليلاً على عقله وقلبه، وأن يتّسم بالقليل من الضمير، وأن يشعر بالحب والمودة للشعب والوطن. وأيّ “بحثٍ” عدا ذلك، يوجّه المرء عادةً إلى مسارٍ معاكس. إن ما لدى هؤلاء ليس سوى الزيف والرياء.
إنه يتعامل مع الأمر بمقاربة ضيقة وسطحية ومجرّدة ومشحونة بالعواطف ومليئة بتَزمُّتِ البورجوازية الصغيرة. إنه يتناول الأمر وفق “مستوى التناقضات بين الثوار”، ولكنه لا يريد رؤية المقاربات الأيديولوجية والسياسية والعملية في ذلك. ثمة إنكار ورفض لواقع كردستان، فهُم ينعتون تنظيمَ شعبٍ لصفوفه اعتماداً على قواه الذاتية بأنه انفصال، ويُبدون ردود أفعالهم إزاء ذلك فيَتَّهمونه بالتعصب القومي، ويرَوِّجون دعاياتهم المضادة بحقه، بل ويلجأون إلى العنف أيضاً. إذاً، فهذه ليست مجرد تناقضات عادية وبسيطة.
سرَّعَت هذه الأحداث من وتيرةِ إقراري بضرورة العودة إلى الوطن. لكنّ ذلك لم يحصل هذه المرة بالهروب سراً. فالانقطاع بات ضرورياً. تحدثتُ إلى باقي: “لا يمكن لهكذا اتحاد يفتقر إلى الأسس الأيديولوجية والتنظيمية أن يستمر. لقد ناقشنا كثيراً فلم نصل إلى نتيجة، ولم نتَّحِد، ولا يمكن حصول ذلك بهذا النحو. إن هذه الحركة منفتحة على الجميع. فإذا كنتَ تؤمن بها حقاً، وتودّ أن تحتلّ مكانكَ فيها، فبإمكانك ذلك، ولا أحد يستطيع أن يمنعك، بشرطِ ألاّ تنطلق في ذلك من ضرورة اتحادنا نحن الاثنين. لكنّ هذا ما فعلتَه. سنلتقي ونناقش مجدداً دون بد. بمقدورك العثور على الرفاق، وهاأنتَ تعرف بعضَهم أيضاً”. ودّعتُه وافترقنا في المنزل البائس الكائن في حيّ تشيغلي.
تابعَت ابنةُ صاحب المنزل نقاشَنا بذهول. إذ كنتُ أُعِدُّ حقيبتي وأناقش باقي الذي ظل يبكي. أنا أيضاً بكيتُ عندما خرجتُ من المنزل، وبقيتُ جامدةً منهكةً إلى أن وصلتُ الشارع الرئيسي. إني لوحدي، وسأذهب إلى عنوانٍ في حيّ “كوناك” تم تعريفه لي. ذهبتُ ووصلت إلى ذلك المنزل الذي يقطن فيه “جمعة قره قوتشان” و”كمال جوشكون” المعروف بلقب “بوظو”. ذُهِلا عندما رأَيَا حقيبتي. قلتُ لبوظو: “لنذهب اليومَ فوراً”، لكنه ظنّ أني أمازحه فقال: “انتظري، لقد أتينا حديثاً إلى إزمير. ثم ما الذي جرى؟ أين باقي؟”. أجبتُه: “وإلى أين سنأتي به؟ لِيَبقَ في إزمير كي يُنجزَ الثورة التركية. إذ لا أحد سينجزها سواه”.
لقد أدركا أنّ أموراً ما قد حصلت، فأوضحَا لي أني منزعجة، لكني نفيتُ ذلك وقلتُ: “إنه لن يأتي، ولم تَبقَ بيننا أية علاقة. وفي الحقيقة، فإن العلاقة لم تبدأ حتى تنتهي. أنا مَن فعلَ ذلك. أنا التي أتيتُ بالبلاء على نفسي. وقد لاقيتُ صعوبةً بالغة إلى أن تخلّصتُ منه. إنّ وضعه مؤسف حقاً، فهو عاطفي جداً، ويبدو أنه لن يتحمل، مع أني حاولتُ إقناعَه، ولكننا لم نفترقْ بانزعاج”.
“تقصدين أنكما افترقتما بشكل متحضر”. قالا هذا، فضحكتُ. إني أضحك من الألم. فرفاقنا لم يدركوا بَعدُ خطورة الوضع، ويَعتَبرونه حادثاً عرَضياً بسيطاً. إلا إن الأمر ليس بهذه البساطة، بل تطلَّبَ صراعاً امتدّ لأشهر عديدة. إنه صراع مع ذاتي، وصراع مع محيطي، وصراع مع العائلة، وصراع أيديولوجي وسياسي. ثمة كل شيء في هذا الصراع. كانت هناك الكثير من ظروف الحياة الاعتيادية البسيطة، لكنّ عيشَ هكذا حياةٍ كان لا يُطاق البتة. إنه أمر مُرهِق، ولا قيمة أو معنى له على الإطلاق.
إننا نملك فقط ثمن التذاكر. أكَلنا، أنا وبوظو، وخرجنا. اقتطعنا تذكرتَين إلى أنقرة. بقيتُ أفكر طيلة الطريق، في حين مازَحَني بوظو بين الحين والآخر، محاوِلاً بذلك تبديد أفكاري. امتدّ حديثنا إلى ديرسم، إذ ذكرَ بوظو كيف أنه أصبح مشهوراً بعدما بَتَرَ أذُنَي أحد المخاتير، وأن أمرَه فُضِحَ من حينها، فما عاد بمقدوره الذهاب إلى ديرسم لأنه ملاحَق.
ثمة شخص في المقعد الذي أمامنا، وهيئته تدل على أنه رجل أعمال. فهو متوتر جداً. يبدو أنه مزعوج من بوظو، الذي لا تتوقف يداه وقدماه عن الحركة، فتحتكُّ بالذي مقابله في كل مرة. تظاهرَ بوظو بعدم انتباهه وأتقن ذلك جيداً، فانتفض الرجل من مكانه وانتقل إلى كرسي آخر. لقد كنا نتحدث بلغة مختلفة. بالتالي، وبما أنّ هيئتنا لا تدل على أننا سُيّاح، فلا بد أن نَكون كُرداً. لو كان تخمين الرجل بشأننا بهذه الشاكلة، فهذا أمر حسن. أما إذا كان يظننا “إرهابيين”، فهذا سيئ جداً. يشدّ الرجل بيده بقوةٍ على حقيبتِه التي من نوع “جيمس بوند”. وهي حقيبة مليئة بالنقود. لقد أدركنا ذلك أثناء الاستراحة. إذ نزل جميع الركاب لتناول الطعام، وبقينا نحن الاثنان في الحافلة لعدم امتلاكنا النقود. فاعتقدَ الرجل أن الحافلة باتت فارغة من ركابها، ففتح حقيبته التي ظهرَ جوفُها مليئاً بالحِزَم النقدية. علَّقَ بوظو على الفور: “لنأخذ هذه الأموال ولنغادر من هنا”، ولم يَعُد يرى شيئاً آخر أمامه. في الحقيقة، سنُبلي بلاءً حسناً لو فعَلنا، ولكن، إلى أين سنذهب؟ فاحتمال الاعتقال كبير جداً.
إن بوظو شخص أنارشي، حماسي، متهور وطائش، ويبدو أنه سيجلب لنا العار. نهضَ الرجل فور إدراكِه وجودَنا. لكنّ بوظو أصرَّ قائلاً: “لِيَكُن، سنأخذ الحقيبة، وسنُوقف الحافلة، وسننزل ونستَقِلَّ سيارة أخرى”. إنها مقاربة مليئة بالمجازفة والهمجية والعشوائية. إذ لا نملك أي شيء حتى. طرحتُ عليه أن يتحلى بالصبر، فقد ينزل الرجل في أنقرة، فننزل سويةً، وستصبح الخطة واردةً حينها. إلا إنّ بوظو لا يهدأ له بال، فلَفتَ الأنظار أكثر. وأخيراً، هبط الرجل من الحافلة قبل أن نصل إلى أنقرة. وتَحَسَّر بوظو على ذلك.
ليس لدينا نقود كي نذهب بحافلة البلدية. يمتلك بوظو تذكرةَ سفر مجانية، ولكني لا أملكها. نبشتُ حقيبتي جيداً، علَّني أعثر على بعض النقود في أسفلها. ولكن، لا، ليس هناك ولو قرش واحد. استقلَّينا سيارةً على مضض، واتّجَهنا إلى المجمَّع السكني. ولَمّا وصلنا، أوقفَ بوظو السيارة، فجلَبَ النقود من الرفاق في المنزل وأعطاه إياها. بقيتُ أثناءها في منتصف المسافة أنتظر. ثم علِمتُ أن المنزل يسكنه الرفاق الشباب فقط.
أتى “مُظَفَّر آياتا”، فعرَّفه بوظو عليّ. و”باقي قرار” أيضاً موجود. بقيتُ لبُرهةٍ مع مظفر قبل أن يأخذوني إلى منزل آخر تُعَدُّ ابنتُهم الجامعية، مديحة، رفيقةً لنا. المنزل كثير الأفراد، فهناك الكنّة والصِّهر والحمى والحماة. لم نتحدث كثيراً في ذاك المساء بسبب متاعبِ السفر. تحدثَ “باقي قرار” إليّ في اليوم التالي. كان بوظو قد شرح له ظروف مجيئي، إلا إنه، أي باقي قرار، لا يعرف التفاصيل، فأراد الفهمَ أكثر. ولَمّا سأل عن الوضع بدأتُ أشرح له. بعدما أصغى إليّ، انتقدني موبِّخاً: “أنتِ التي تركتِ البابَ مفتوحاً أمام الرجل، وقلتِ له: ‘بإمكاننا النقاش والحديث دون أن نقطع علاقتنا'”. صحّحتُ له هذه النقطة، وأوضحتُ أن مقصدي من ذلك هو التعبير له عن أني منفتحة على استمرارِ العلاقة والحوار كأصدقاء. لكن باقي قرار -مع ذلك- لم يقتنع، وقال ما معناه: “ينبغي الجزم في مثل هذه الأمور، وعدم الشعور بالندم لدى البتِّ فيها”. أجبتُه: “لستُ مترددة في هذا الخصوص. لقد قررتُ وأتيتُ دون أن يُرغِمني على ذلك أحد. ولو أني لم أُعتَقَل، لأتيتُ قبل الآن. وقد ذكرتُ ذلك لشاهين أيضاً، وأخبَرته بالأمر”.
امتعضتُ من افتراقي عن باقي قرار بهذا النحو، وتساءلتُ: تُرى هل نَقلَ شاهين إليه أموراً مغايرة؟ فلو أني لم أشارك في مقاومة المصنع لأتيتُ حينها. لكني لم أرَ ذلك صحيحاً. إذ ثمة مقاومة ابتدأت، وأنا كنتُ أحد الرائدين لها. لم أستطع أن أُقنِع نفسي بهذا الأمر، بل وما زلتُ أؤمنُ بسداد موقفي في تلك الظروف. لكن، ينبغي تسليط الضوء على كل ذلك لإزالة الالتباس. إذ يبدو أن كل واحد يفهم الأمر على هوى ما سمع به. أردف باقي قرار متسائلاً: “حسناً، وماذا سيجري إذا جاء هذا الرجل وشَغَلَنا بأمره بين الحين والآخر؟”. لقد سألَ ذلك وكأنه يعرفه. أجل، قد يحصل هذا. فأنا أيضاً أعلم أن باقي لن يقف مكتوف اليدين، بل سيتصل، بل وربما يقول: “أصبحتُ من الوطنيين”. لكن، ماذا كان عساي أن أفعل بَعدُ؟ كيف كان للقرار أن يَكون أكثر جزماً وشفافيةً؟ إذ لم تَبقَ بيننا أية روابط.
بعد البقاء لمدة قصيرة في ذلك المنزل، مشينا في “شارع الناتو”، حيث أتت كسيرة وأخذَتني إلى منزلها. تحادثنا طيلة الطريق، واتسع نطاق حديثنا أكثر في المنزل. سردَت لي كسيرة أول لقاء بيننا: “لقد اختفيتِ فجأةً، ثم سمِعنا أنكِ ذهبتِ إلى إزمير. لم نَكُن قد تناقشنا بَعدُ فيما بيننا. كلا، لم نستخفّ بالأمر، ولكنه لم يَكُن سهلاً إيجاد حل مباشر في تلك اللحظة. وأنتِ كنتِ ذهبتِ فوراً”. ثمة انتقاد لي مجدداً في حديثها. شرحتُ لها كيفية ذهابي، وكذلك المرحلةَ التي عشتُها في إزمير. اقتصر شرحي على بضعة مقتطفاتٍ أحياناً، وغصتُ في التفاصيل أحياناً أخرى، بينما اكتفيتُ بذكر بعض الجوانب في أحايين أخرى.
هكذا تَوَلَّدَت فرصةُ التعرف عن كثب على كسيرة. كما كانت هناك رفيقة صغيرة الحجم، تُدعى شناي، عرَّفَتها كسيرة بالقول: “إنها يوغوسلافية”. قالت شناي: “سوف نخرج من هذا المنزل خلال بضعة أيام، وسنبقى معاً في منزل بحيِّ “أتليك”. إن الرفاق الشباب يَبقون هناك حالياً. ولكنهم سيخرجون منه فور انتقالنا إليه”.
أشعرُ وكأن كل تصرفات كسيرة مختلفة. إذ أقارنها بالرفيقات اللواتي كنّ في ديرسم، إنها مختلفة عنهنّ. وكأنّ منزلها أيضاً يعود للتنظيم! مظهر أمها أرستقراطيّ، وتُشاوِر كسيرة وتأخذ موافقتها في كل شيء. أما أبوها، فهو ميّال أكثر إلى الصمت. إنه يعمل في الدكان، وعلاقته مع كسيرة رسمية وتختلف عن العلاقةِ الطبيعية بين الأب وابنته. وهناك أختُها وأخوها (علي كمال) التوأم، اللذان يدرسان في “جامعة الشرق الأوسط التقنية”.
الكل يعترفون بسلطةٍ أولى، وهي كسيرة. ومن بعدها تأتي سلطة الأم والأب. هكذا هي حال الأقارب أيضاً. ذهبنا إلى منزل أحد أقاربهم، والذي يقع في حيّ قريب إلى الجهة الخلفية من المجمَّع السكني. هم أيضاً يفتخرون بها كثيراً. لقد وَلَّدَت سيادةُ “فتاة يافعة” في وسطها العائليّ الاستحسانَ والإعجاب لديّ. وفي تلك الأيام، أتت من يوغوسلافيا أختُ شناي للزيارة. ولغرض التنزه رافقَتنا -هي أيضاً- في زياراتنا. استغربتُ من تخصيصِ كسيرة الوقتَ لمثل هذه الأمور.
اتصل بي محمد علي، بعدما خمَّن أنني أبقى عند كسيرة، وأراد رؤيتي. يقال أن باقي أيضاً أتى معه. لقد أَحسَنَ “باقي قرار” التخمين. أتى محمد علي إلى منزل كسيرة، فأبلى بذلك بلاء حسناً من عدة نواحٍ. إذ ناقشنا المرحلةَ الماضية معاً بحضور كسيرة، وانتقدتُه. فلو أنّ مقاربتَه بعد مجيئي من ديرسم لم تَكُن عاطفيةً، لَكنتُ بقيتُ في منزله، وما كنتُ سأذهب إلى إزمير، وما كانت النتيجةُ لتَكُون هكذا.
ألقيتُ جزءاً من مسؤولية النتيجة على عاتق محمد علي، فشعرَ بالانسحاق، علاوةً على أسفه على فُراقنا. فتعامَلَ معي بحذرٍ أكبر، آخذاً في الحسبان مكانةَ كسيرة. ثم إنّ للأمر بُعداً سياسيّاً أيضاً. إنه يمتعضُ من موضوع الفراق السياسي. وعلى أيةِ حال، كان لا بد للسجالات والتناقضات التي كان -هو أيضاً- شاهداً عليها، أن تنتهي بهذا النحو. وما كان الضغطُ المتبادَل سيُجدى نفعاً. ذكرَ محمد علي أن عمي تأثر كثيراً وقال: “كنا قد بنَينا منزلاً في حيّ “جوما أوفاسي” بإزمير. وقد ساعدَنا عمي في بنائه على أمل أن يلتمّ شملُنا جميعاً فيه. وعندما لم يَرَكِ عاد أدراجه، فأصابَ الشللُ إحدى عينَيه من الحزن والأسى، فلم يَعُد يبصر بها، واعتلّ جسدُه”.
كل هذه الأحداث لم تَكُن بسيطةً بكل الأحوال، ولا أستطيع تجاهلَها. وعلى النقيض، فإنها تؤثّر فيّ أكثر، وتُحزِنني، بل ولا أستطيع تحمُّلها. وعلى رغم اتّهامي لهم أثناء النقاشات، إلا إني -في الواقع- أَعتَبِر أنني أنا المذنبة، فأستشيط غضباً من ذاتي. ففي الوقت الذي اعتقدتُ أني طويتُ الصفحةَ ووثِقتُ أنني انتهيتُ منها، أَجِدُني، وعلى حين غرّة، أمام مشاكل أكثر تعقيداً. ألن أتخلص منها؟ أين ارتكبتُ الخطأ وكيف؟ أين هي مكامن النقص والضعف؟
لقد ظننتُ أني أبليتُ بلاءً حسناً في كل شيء. لكنّ عمي مريض الآن، وزوجته تجهش بالبكاء، وباقي على وشك الجنون، والآخر على وشك الموت! حسناً، يمكنني استشعار كل هذا، لكن، وماذا عني أنا؟ فكأنّه يقال لي: “أنتِ السببُ في كل هذا، فعالجيه”. إنّ كل عتاب أو نقدٍ يُغرِقني في المزيد من الآلام والانسحاق واليأس. يالها من مشاكل معقّدة ومتعاكسة بكل مجرياتها! فنواياي ورغباتي وجهودي تبقى في طرف، والنتيجة تبقى في طرف مغاير تماماً.
كان محمد علي يبحث عن حلٍّ وسطيّ من خلال طرحِه لمَرَض عمي عدة مرات. ياللعجب! إن هذا بمثابة أسلوبٍ لديه، وهو لا يتخلى عنه أبداً. إذ إنه يسعى إلى إرضاء الجميع، مع أن هذا مستحيل. فالتضحية أكثر في هذا الموضوع ستصبح حماقة كبرى. كسيرة أيضاً عبَّرَت عن موقفها، بل حتى إنها قالت: “إن مقاربتك أَشبَهُ بمقاربةِ المصالحة بين المتشاجرين. لقد شرحَت الرفيقةُ الوضعَ وناقشَته معكَ منذ البداية. وفي الواقع، كان بمقدوركَ مساعدتها أكثر من الجميع. لكنك فكّرتَ دائماً لصالح “باقي”. والآن تبحث عن حل لصالح باقي أفراد الأسرة. لا يمكننا الضغط على الرفيقة. حاوِل إقناعَ أبيك. ولا ينبغي على “باقي” أن يُلْهينا مراراً هكذا”. أَراحَني كلامُها هذا. رحلَ محمد علي شِبهَ مقتنعٍ وشِبهَ مستاء. وبدأَت مرحلةُ بقائي في نفس المنزل مع شناي، التي أَطلَقَت على نفسِها لاحقاً لقبَ “نادرة”.
المنزل قريب من منزل كسيرة، في الطرف السفلي منه مباشرةً. مكثَت أختُ شناي عندنا لفترة، فكان هذا حسناً لجهةِ عدم لفتِ أنظار المحيط. كما يزورنا الرفاق الشباب أحياناً. إذ زارنا سمير في اليومين الأوليَّين، ثم بقينا ثلاثتنا في المنزل إلى أن رجعَت أخت شناي إلى يوغوسلافيا.
رفيقةٌ من أمةٍ مختلفة! لستُ غريبةً عن هذا الوضع. والرفاقيةُ مع أناس من أمم مختلفة أمر جميل. إني لا أَلقَى الصعوبة في هذا الشأن، بل أتأقلمُ سريعاً في علاقاتي، وأبقى مرتاحةً وطبيعية. إنها مرحلةٌ جديدة بالنسبة لي. وكلما سردتُ وضعي، كلما ازداد فهمي وتَبدَّلَ تعريفي للأحداث. إذ أُدرِكُ خطأي في بعض النواحي، وأتأكد من صوابي في بعضها الآخر.
لقد أثَّرَت الأحداث فيّ وأنهكَتني من بعض النواحي: الهروب، الزواج، أوساط السجن والاشتباك والتناقض، والبتُّ لوحدي في كل شيء. فأقول في نفسي كلما فكرتُ فيها: “كم عشتُ من أحداث كثيرة!”. لكني لا أنظر إليها كقدَر محتوم، بل أَعتَبِر أنني أُفسِدُ القدَر الذي خلقتُه بيدي. وأردد: “هروب آخر!”، فيصبح ذلك سلوى لي، ويُقَرِّبُني من الرفاق أكثر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى