تقارير وتحليلات

ترجمة خاصة|| لقد ضلّ أطفالُنا طريقَهم!.. من مذكرات سكينة جانسيز (الحلقة ٣٦)

 

عجيب، إني لا أتخلى عن قيمت. لكنها لم تَحلّ المشكلة سابقاً، بل دفعَتني نحو اليأس أكثر. فالحلّ الذي طرحَته كان مثيراً لدرجةِ أن الرفاق قالوا: “لنَكتبْ على ورقةٍ “نبحث عن زوج”، ولنُعلّقْها في رقبة سكينة”، وصار الأمرُ موضوعَ فكاهة. لكنّ النتيجةَ لم تَكُن مختلفةً في الواقع. بل وابتُليتُ بزواجٍ فظيعٍ لم أَكُنْ مضطرةً له بتاتاً. ليتَنا عثَرنا على حلٍّ معقول وأطولَ مدىً. فهانحن سنناقش الانفصال بعد بضعة أشهر فقط. ففي حالِ لَم تُحَلّ التناقضات، فسيحصل الانفصال! وأقول في نفسي: “إلى أي مدى سيُضفي الآخرون المعنى على هذه المشكلة؟ ومَن يدري، فقد يظهر مَن يستغرب ويستهجن الأمر أيضاً. ليكن، لكني سأتخطى ذلك”.
استقبلَتنا قيمت، وسُرّت بلقائنا. يُعَدُّ منزلُها جزءاً من المدرسة. إنها قريةٌ وفيرةُ الشبان. لكنهم جميعاً من اليسار التركي. غريب حقاً، إنها تُدرّس للسنة الخامسة في تلك القرية. وكلُّ معلمٍ، لاسيما إذا كان تحررياً، فإنه يستطيع تنظيم كل أبناء القرية واستمالتهم طيلة تلك الفترة. ناقشنا الأمر. برَّرَت قيمت الوضعَ قائلةً: “أغلبهم يناصروننا، لكنّ بعضهم متحجّرون، ويُبعِدون الآخرين عني كي لا يتأثروا بي”. أتى زلفو أيضاً في المساء. وهو أحد الشبان الذين يُجيدون العزف على البزق في تلك القرية. غنّى لنا عدةَ أغانٍ على أنغام البزق. إنني أحب بالأكثر أغاني “سلو قيز”، أي “سليمان الصغير”. وسليمان الصغير هذا يُنادى ليغني في الأعراس والخطوبات وحفلات الختان. لقد استمعتُ إليه مباشرةً، واستمتعتُ دائماً بعزفه الحزين والرائع على كمانه.
نحن أيضاً دخلنا الصفّ في اليوم التالي. لم يَكُن ثمة مراسيم في المدرسة، ولم يُرفَع العَلَمُ التركي. وأثناء تعليم الأطفال القراءةَ والكتابة، يُعمَلُ على تلقينِهم جُمَلاً ومفرداتٍ تشير بالأكثر إلى الوطن والأمة والشعب والثورة. إنهم تلاميذُ “قيمت” الطيبون! ينتهلون منها كل ما تُعلّمهم إياه، ويؤمنون بأنهم يتعلمون أجمل الأشياء. جميعهم كانوا مسرورين بما يتعلمونه، ولكنّ لمسةً من الخجل موجودة لديهم جميعاً.
اتّسمَت مقاربةُ “قيمت” من مشكلة زواجنا بالقطعية والتبسيط، إذ قالت: “حاولي أن تكسبي في النتيجة. ينبغي استمالة ذلك المحيط. فشبابهم كُثُر. وينتسب أبناء عشيرة قُرَيشان جميعاً إلى اليسار التركي. فإذا ما تمكَّنتِ من استمالةِ بعضهم، فسيؤثرون في الباقين”. ودَّعَتنا قيمت وعُدنا أدراجنا. رغبَ مَتو في أن نذهب إلى المدينة: “تعالوا إلى المنزل أيضاً”. فسألتُه: “وكيف سيَكون موقف أمي؟”. ردّ عليّ: “قد تتغنّج قليلاً في البداية، ثم تغضب وتبكي، لكنها ستتصالح معكِ. فأياً يَكُن، فهاأنتِ قد رجعتِ إلى ديرسم. وستتأثر كثيراً في حالِ عدتِ أدراجكِ دون أن تأتي إلى المنزل”.
زرتُ أعمامي الآخرين في القرية، وخضنا نقاشات حامية في كل منزل حول “الشاه حيدر” و”اتحاد الشعب”. تُرى، هل هو حُسنُ طالعٍ أم سوءُ حظٍّ أن تتعدد الانتماءات السياسية للأقارب؟ مازحتُهم قائلةً: “تنتسبون إلى الحركة الفكرية البروليتارية الثورية، وإلى جيش تحرير العمال والفلاحين في تركيا، وإلى اتحاد الشعب HB، وإلى حزب التحرير الشعبي، وإلى الحزب الشيوعي التركي. ولو أن هناك تياراً سياسياً آخر لانتسَبتم إليه، ولَبَرزَ اسمه بينكم أيضاً”. الشبان كُثُر. وجميعهم متأثرون بكِبارِهم.
سألتُ الصبيّ المحنّك “علي جمال” عن ميوله، فأجاب: “موقفنا أيضاً لصالح اتحاد الشعب”. وانفجَرنا ضحكاً. أجل، قائل ذلك هو طفل. ثمة أمور شكلية تُلَقَّن باسم الثورية، فتُضاعِفُ الابتعاد عن الجوهر. ولا حيلة للآباء والأمهات الذين يُعَبّرون عن أسفهم ومخاوفهم قائلين: “مَن الذي ابتكَرَ الثوريةَ بهذا الشكل؟ علامَ لا ينتسب الجميع إلى نفس التيار السياسي؟ لقد بِتنا نخاف أن يَضربوا بعضهم بعضاً ذات يوم”.
عبَّر أعمامي عن فضولهم لمعرفة تياري السياسي قائلين: “سمعنا أنكِ تزاولين العمل الكُردَويّ”. ولكن، من الواضح أن أولادهم أثَّروا فيهم بترويجِ الدعايات المضادة بحقنا: “نعرفُ مِن بين هؤلاء كلاً من علي غولتكين وكمال بورقاي. لكنهما غائبان حالياً عن الساحة. فكلٌّ منهما ذهب إلى مكان ما، ويسكنان في المدن الكبرى. بل إن علي غولتكين عجزَ حتى عن التأثير في أبناء قريته. كذلك شأنُ حسن وغولابي وعلي. جميعهم موظّفون في دوائر الدولة حالياً، فمنهم المهندس، ومنهم المعلم. لقد تخلّوا عن عملهم الثوري”.
وبالطبع، لم يودّوا الإيماء بذلك إلى أنهم معجَبون بانتماءات أولادهم أو أنهم يؤمنون بأفكارهم. بل إنهم يُعبّرون عن عدم ثقتهم بالعمل الثوري متجسداً في شخوص أبنائهم. إذ قال عمّي مصطفى: “كل شيء جميل، ولكن، مِن أين ظهرَت الشعارات المعنية بأمريكا وروسيا؟ إذ ليس لهؤلاء جنودٌ هنا. ومَن يتحكمون بنا ليسوا من الروس أو الأمريكيين. بل إن رئيس الجمهورية تركيّ، ورئيس هيئة أركانها تركي، وجنودها أتراك. ونحن نتكلم اللغة التركية. لقد ضَلَّ أطفالُنا طريقَهم”.
لم يعارض عمي كلامي، بل وَجَدَه منطقياً. لكن زوجةَ ابنه عقَّدَت الأمور بقولها: “لنؤسس دولةً عَلَوية. أنا مستعدة لذلك”. هذه أيضاً مقاربةٌ اعتيادية! فأبي أيضاً كان يقول ذلك. إذ ليس من الصعب إقناعهم في هذا الشأن. غَضِبَ أبو باقي من ابنه قائلاً: “أنا من حزبِ سكينة”. كذلك حال أمه التي قالت غاضبةً: “تعالوا وانتسبوا جميعاً إلى ذلك الحزب. فما الذي سيجري؟ عيبٌ عليكم. إنكم تتناقشون ليلاً نهاراً، وهذا يضرّ بكم وليس حسناً أبداً”. لعلهم أرادوا بهذا الشكل سد الطريق أمام انفصالنا. إنهم يَعلَمون بخلافاتنا ويدركونها.
ذهبنا إلى المدينة وزُرنا عدداً من الأقارب أولاً. نَبَّهَنا الكثيرون منهم: “اعقدا قِرانكما قبل أن يصيبكما مكروه”. حسمتُ الجدالَ بالقبول. لم يَكُن لذلك أيّ معنى. ولكن، قد يتحجج البوليس بذلك. أعطيتُ صوراً شخصيةً لي، لكنّ باقي أخذ هويتي أيضاً، وعقَدَ القران عن طريق معارفه الذين أحضَروا شاهدَين. فأياً يَكُن، فالعاملون في دائرة النفوس هم من الأقارب والمعارف. عُقِدَ القرانُ على الورق، وتغيَّرَت كُنيَتي، فصارت “بولات” بدلاً من “جانسيز”. أرسلتُ الخبرَ إلى أمي عبر أشخاصٍ آخرين. رفضَت أمي الأمرَ في البداية، ثم أقنعَها الأقارب. وذهبنا إلى المنزل في المساء. لم تُصافِحني أمي بدايةً ولم تقترب مني. ثم احتضنَتني وبكَت. قلتُ لها: “أنتِ السبب”. ردَّت بحزنٍ وتأوُّه: “هذا صحيح”.
واضحٌ تماماً أنها تتألم. تفحّصنا معاً الألبوم المليء بصور الخطوبة. فأخرجتُها ومزَّقتُها واحدةً تلو الأخرى. ليس غضباً مني بالطبع، بل لعدم جدواها في الوضع الحالي. فالرغبة في إحياء ذكرى ما إنما تعني الارتباط بها. لكن وضعي مختلف الآن. بالتالي، عليّ أن أحترم الذكريات الماضية، حتى وإنْ كانت غريبة. إلا إن الاحتفاظ بهذه الصور يعني الازدواجية. ثم أحضرَت أمي الرسائل التي تحتوي -هي أيضاً- على الصور. لقد قيلَ لمَتِين ذات مرةٍ أنني هربت. لكنه ثابرَ على إرسال الرسائل مرفقةً بصوره. نظرتُ في صورةٍ له فتأسفتُ لحاله وانتابني الخجل.
لقد تأثرتُ كثيراً وكأنه يجلس مقابلي. مزّقتُ جميع رسائله دون أن أقرأها حتى. فجميعها آلَمَتني، وتَعَقّدَ حلقي. ليتَ أن كل هذا لم يحصل، وليتَنا لم نَعِشْ هكذا أوضاعاً. تابعَني باقي بصمت. يبدو أنه ارتاب من قساوتي. فعلاقتنا أيضاً على المِحَك، فهل سننفصل؟ ظلّت أمي تتابعُ حركاتنا. فلا هي مسرورةٌ بنا، ولا هي قادرةٌ على التعبير عن ألمها. لقد أصابها الجمود.
سألَتني: “لِمَ أنتِ على هذه الحال؟ أليس لديك حقيبة؟”.
– “تركتُها في القرية”.
مع أن هذا الجواب غير صحيح. فقد ارتديتُ ملابس الفتيات البلغاريات المهاجرات. بل وحذائي أيضاً لهنّ. وجَّهَت أمي أسئلة معقّدة، فأجبتُها باختصار: “إننا نعمل. وكِلانا في وضع جيد”. لقد ظنَّت أننا نعمل في دوائر الدولة. إذ لا تعلم أني عاملة في مصنع. بل ولا تتصور ذلك أبداً. لكن، ألَم يَكُن أبي أيضاً عاملاً لسنين طويلة؟ وقد ذهبَت أمي ورأت حاله. ومع ذلك، فإن أمي والأقارب يستصغرون العَمالة ويرَونها عيباً. لذا، لا أدخل في التفاصيل. فما أهمية ذلك أصلاً؟!
فتحَت أمي الخزانة وأنزلَت الحقائب قائلةً: “خذي ملابسك”. لكني لَم أَعُد أحبها. فأنا مرتاحة الآن، وأستطيع تَدبُّر أمري لثلاثة أو أربعة أشهر بارتداءِ بنطالٍ وقميص. ثم إن التجوال بكل تلك الألبسة سيُشكّل عبئاً عليّ. ترددتُ في الأمر، ثم قلتُ لأمي: “دعكِ منها”. أجهشَت أمي بالبكاء بصوتٍ عالٍ. حزنتُ لحالها. تُرى، هل أتحامل عليها؟ في الواقع، كِلتانا نتألم، وكِلتانا مستاءتان من فسخِ الخطوبة بهذا النحو. مزّقنا سويةً الصورَ والرسائل. ثم أخرجَت أمي الملابس التي كنتُ أرتديها في فترة الخطوبة. ما تزال الأم تونتون وزوجها يسكنان في المنزل المقابل لمنزلنا.
قالت أمي في تلك الأثناء: “تابَ متين عن المجيء إلى ديرسم، فلم يأتِ إليها قط”. ثم أردفَت: “سمِعنا أنه من تيارك السياسي”. حاولَت أمي مراراً الوصولَ بكلامها إلى ذلك الموضوع. لكني لم أرغب أن تُطيل الكلام. عَمَّ تتحدثُ هذه المرأة؟ إنها تثيرُ فيّ الألم علناً. جهّزنا حقيبةً كي نأخذها معنا. وضعَت أمي بعضَ احتياجات المنزل فيها من ملاعق وسكاكين وغيرها. فقد رفضتُ تماماً أن تضعَ فيها أياً من لوازم جهاز العرس. فلتَكُن كلُّ تلك اللوازم لها. اللعنة! لا أريد العيش. كم كانت فترةً مُرهِقة حقاً.
لم تتحدّث أمي إلى باقي إلا للضرورة ومن باب اللباقة. ولم تهتم بشأنه. إنها غاضبة منه. وقد ذكرَ باقي ذلك في الطريق: “لم تُحبّني أمك”.
– “حسناً، لقد أدركتَ ذلك”.
ردَّ معاتباً: “لكنها لم تُحبّنا أبداً. فنحن كنا في نظرها قرويين فقراء وسُذّج. ولذلك لم تَقبَل بنا”.
أجل، حقاً إن أمي لم تحبّ أعمامي وأوساطهم، فظلَّت غريبةً إزاءهم، وفضّلَت الابتعاد عنهم. وعندما ذهبنا إلى ألمانيا، لم تَزُرنا جدتي لأبي إلا بعد إصراره هو. مرّت سنين طويلة بعدها، ولكنها لم تأتِ إلى منزلنا إلا في تلك السنة، فمكثَت عندنا حوالي الأسبوعَين، ثم توفيَت ونحن ما نزال في ألمانيا. لقد أثّرَت الخصائص الإقطاعية والأرستقراطية، وكذلك المقاربات الاستعلائية الجوفاء في ذلك كثيراً. فعندما كان أبي يغضب من أمي، كان يناديها: “زينب خاتون”. وبالفعل، فمقارباتها الفوقية كانت تدهس حتى على بعض القيم الأخلاقية.
لم نَبقَ في المنزل كثيراً، بل افترقنا في نفس الليلة. ذلك أنه على باقي أن يذهب إلى الجامعة. إلا إنه لم يرغب أن أبقى هناك: “سنعود لاحقاً”. ولكن، ما معنى الذهاب قبل أن أحل المشكلة؟ عليّ أن أحلها، سلباً كان أم إيجاباً. ولا مكان للحل الوسط. ذكرتُ ذلك لـ”قيمت”: “سأعطيه فرصة. فإذا لم يحسم موقفه فسأقطع العلاقة معه”.
كانت قد بقيَت لديّ موادٌّ من السنة الثانية للمرحلة الثانوية. وبإمكاني التحجج بالامتحانات لأجل البقاء والتمكن أثناء ذلك من حل المشكلة مع الرفاق بنحو أكثر سداداً. فوضعي هذه المرة يَفوقُ آفاق قيمت. أشارت قيمت إلى أنهم سيَتواصلون معي، وأنهم على علم بتواصلي مع الرفاق في إزمير. ثم أضافت: “تواصلي مع الرفاق في أنقرة إن رأيتِ داعياً لذلك”. أما مَتو، فذكَرَ أنه سيأتي لاحقاً. مدّني كل ذلك بالمعنويات. يبدو أن الأمر سيأخذ وقتاً طويلاً. إذ ما من أحد يطرح حلاً مختلفاً.
تواجَدَ الرفيقُ “كمال بير” في ديرسم في تلك الأثناء. ناداني للذهاب إلى “المنزل الأعلى”. كان الرفاق يستخدمون هذا المنزل الصغير المسقوف الذي تَملكه عائلةُ قيمت. ذهبتُ مباشرةً إلى هناك. تَحَدَّثَ “تشاتين غونغور” (الملقَّب: سمير) أولاً: “لقد شرحَ الرفاقُ الوضع”. لكنه يلقى الصعوبة، وكأنه لا يعرف من أين يبدأ. استغربتُ حقاً. ذلك أن تشاتين الذي أعرفه هو إنسان متكلم وحماسيّ ودفّاق في النقاشات النظرية والأيديولوجية على وجه الخصوص. وطالما كنا نتكلم حول نفوذه في النقاشات. فقد كان ألقى في تلك الفترة محاضرات حول “التحريفية السوفييتية المعاصرة”. وكانت محاضراته حماسية، والمشارِكون فيها كُثُر. فلماذا يلاقي كل هذه الصعوبة اليومَ في حديثه عن موضوع الزواج أو الانفصال؟ لَمّا انتبهَ الرفيق كمال بير، الذي كان يدخل الغرفةَ بين الحين والآخر، إلى الأمر، تَدخَّلَ فوراً وقال:
“تعالي يا سكينة. لنتحدث في الصالون الجانبي”. ذهبنا إلى هناك ليباشر هو الحديثَ دون توقف. كان طبيعياً للغاية: “تكلمي أنتِ أولاً. لا يُحَلّ الأمرُ من دون الاستماع إليك. لقد طلبتِ الانفصال. أما عني شخصياً، فلا أعلم بالموضوع كفايةً. يبدو أنه ثمة خلافاً أيديولوجياً. فذاك الرجل هو من حزب التحرير الشعبي. حسناً، ما الذي جرى؟ إذ لا علم لي بالماضي. على كل حال، وبدلاً من الرجوع إلى البداية، لنبدأ الحديث من الأخير. لنتحدث حول ما يمكننا فعله”.
لقد أكد أنه يودّ سماعي من ناحية، وتابعَ حديثه دون انقطاع من ناحية أخرى. وفي الحقيقة، هكذا كان أفضل. لعله أراد حثي على الكلام بارتياح أكبر. لستُ خجولةً بطَبعي. ومع ذلك، فإن شرحَ هكذا مشكلة معقّدة أمر صعب وعويص. ويبدو أن ذلك انعكس على حالتي النفسية. جميلٌ أن يَكُون الرفيقُ كمال بير قد انتبه إلى ذلك.
تحدثتُ بإيجاز عن الضغوط العائلية وعن رفضي للزواج المفروض عليّ، وعن دخولي بعد ذلك في زواجٍ جديد دون رغبة مني، وعن حصول ذلك بتأثير الظروف الموضوعية إلى حد ما. وأكدتُ له أن مقاربتي ليست قَدَرية، وأن الاتحاد مع باقي لا أساس له، وسردتُ له عدمَ ثباته في مقارباته. وبعد أن استمعَ الرفيق كمال إليّ، قال دون أن يُحرِجَني بمزيد من الأسئلة:
“حسناً. لقد اتّخذتِ قرارك. وهذا هو الصحيح. لكن، لِيَكُن ذلك بصورةٍ مناسبةٍ أكثر. فقد تَخلقُ العوائلُ المشاكل. من الأفضل أن تتحدثي مع الرفيقة كسيرة في أنقرة. وبإمكانك البقاء هناك لمدة”. لقد أكدَ على ضرورة عدم الاستعجال، وأن أحلّ الأمر بعقلانية وهدوء أكثر. لم تَدُم استعداداتُنا طويلاً. فهذا الرفيق حيويٌّ للغاية، ويتحرك وكأنّ عملاً ما ينتظره. إذ لا يهدأ له بال، فينهضُ تارةً، ويَقعد القرفصاء تارةً أخرى. وَدَّعتُه وذهبت.
ارتحتُ وشعرتُ بالقوةِ وكأنني حللتُ المشكلة. ولكن، ليتَني خضتُ في التفاصيل أكثر، أو ليتَني خضتُ الحوار مع هكذا رفاق منذ البداية. تُرى، أليس لديه عِلمٌ بالحلّ الذي طرحَته قيمت؟ فقد بحثَت لي عن “زوج”. انتابني الغضبُ ثانيةً من سذاجتي وعدم حيلتي. كم هي مختلفةٌ الحلولُ الثورية عن “الحلول الوسطى”!
دخلتُ امتحانات الدروس المتبقية من السنة الثانية للمرحلة الثانوية. المعلمون معرفون ويعلمون تماماً، بل ويتفهمون أنني أدخل الامتحانات شكلياً كي أنجح وأتخرج، وأنني أستخدم ذلك وسيلةً لأهدافي. أصدقائي أيضاً يعلمون ذلك. وبطبيعة الحال، حاولتُ معالجةَ وضعي بهدوءٍ في هذه الفترة، وأدركتُ بصورةٍ أفضل أنني بالغتُ في تضخيم المشاكل الناجمة عن الخلاف الأيديولوجي، وأنهكتُ نفسي بلا سببٍ حصيلةَ عُجالتي ونفاد صبري، مما زاد من تعقيد الأمور دون وعيٍ مني.
بالتالي، فإن تصرُّفي دون حسابِ سلبياتِ وإيجابياتِ كل موقفٍ قد ضيَّقَ عليّ الخناق في نهاية المآل. ثم إنّ عكسَ كل ردود أفعالي على المحيط الخارجي بسرعةٍ لم يَكُن أمراً حسناً. إذ قد لا يشير الجميعُ إلى الصواب في كل الحالات. وعليه، فمن الضلال عَقدُ الآمال على إيجاد الحلول انطلاقاً من الأحاديث الخاطئة أو السطحية أو التي لا تأتي في زمانها أو مكانها.
أجل، وأياً يَكُن، فالرفاق يعلمون بوضعي. ومقاربتي ليست قدَرية. والحالُ هذه، فمن غير الصحيح ربطُ كل شيء بهذا الأمر، ولا استهلاك كل طاقاتي في حلّ هذا الوضع. بإمكان باقي أن يذهب إلى إزمير لأَتبَعَه لاحقاً. وبإمكاننا النقاش مجدداً مع الرفاق في أنقرة. بل وبمقدوري البقاء في إزمير فترةً أخرى إنْ تطلَّبَ الأمر. لم يَعُد يزعجني أي شيء كما كان في السابق. وعلى الرغم من عدم وجود خطوات ملموسة، إلا إنّ تحليل الأمر على الصعيد الفكري هو الذي يطغى حالياً. وهذا ما أدى إلى ارتياحي نفسياً.
كان هناك توزيعٌ لقِطَعِ الأراضي في حيّ جوماوفا في إزمير، قبل أن نأتي إلى ديرسم. إذ تكاثَرَ أصحابُ العَرَصات بسبب الفراغ الناجم عن التناقضات والخلافات بين الأحزاب السياسية ومنتَخَبِي البلديات الجدد. امتلكَ باقي حينها قطعةَ أرض قائلاً: “سنبني منزلاً عشوائياً، وسنحلّ بذلك مشكلة الإيجار”. وقد ذكَرَ ذلك لأبيه أيضاً وطلب منه الدعم المالي. ذهبَ باقي إلى إزمير، واتفقنا أن يأخذني عمي لاحقاً. وهذا ما يعني أنني سأذهب إلى إزمير.
ذهبتُ مع عمي إلى أنقرة. ثم عاد باقي إلى هناك مستاءً من تأخرنا. تناقشنا هناك لمدة. فهو لا يرغب أن ألتقي كسيرة، ويخمّن أنني أُعقّدُ الأمور. بل ويرى في إصراري على الانفصال قبل انتظار نتيجة الفرصة المُعطاةِ له مقاربةً غير حميمة:
“إنك لا تريدين كسبي ولا تكريس الوحدة التنظيمية. فلو كان الأمر كذلك لاعتمدتِ الصبر. فهكذا أمور ليست بهذه البساطة. وأنا ما زلتُ أبحث فيها. إني صادق في ذلك”.
تابع عمي ومحمد علي نقاشاتنا هذه، وتأثّرا بجدالنا المستمر حول الانفصال: “لماذا تُضَخّمان الأمر هكذا؟ إنكما ثوريان. وليس من الصحيح أن تضغطا على بعضكما بعضاً هكذا. إنكما تُحزِناننا بذلك”. ووجَّها إلينا الانتقادات بسبب ارتباط باقي بعصبيةٍ بحزب التحرير الشعبي، وبسبب إثارتي الدائمة لموضوع الانفصال.
ذهبنا معاً إلى إزمير وأنا أقول في قرارة نفسي: “سأحلّ الأمر بنفسي، ولن أخوض النقاشات بشأنه. سأركز على حله، وسأقول للرفاق بعدها أنني حسمتُ الأمر”. ثم قلتُ لباقي: “حسناً، إنك مُحقٌّ في بعض الجوانب بانتقاداتك”. وطلبتُ منه أن يَكون جادّاً هذه المرة، وأن يتحلى بالصدق في مقاربته، وألاّ يفكر في استمرار الزواج فحسب، بل وأن يركز على أسس الوحدة التنظيمية. وأكدتُ أنني لا أرغب في أن يؤثر الانفصال على وحدتنا هذه، وأنني حقاً أريدُ أن نبقى أصدقاء. وعُدنا أدراجَنا سويةً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى