تقارير وتحليلاتمنتدى الفكر الاستراتيجي

خاص|| أريد أن أصبح ثورية ولن تستطيعوا منعي!.. من مذكرات سكينة جانسيز (الحلقة ٢٤)

 

في الحقيقة، لقد ارتكبا خطأً. فماذا عساني أفعل تجاه ذلك الخطأ، غير ما فعلتُه؟ كل هذه التناقضات ضاعفَت من ارتباطي بالرفاق، ومدّتني بالقوة إزاء تدخلاتهما. هكذا، بِتُّ أشعر أنني لستُ مضطرة للمكوث في المنزل لدى مجيئهما إلينا. بل أقول لهما “لديّ عمل”، وأخرج. أو أرفض دعواتهما لنا من قبيل: “تعالوا نتعشى سويةً” أو “لنذهب معاً إلى البيت الفلاني”. إلا إنهما نَقَلا هذا الوضع بمغالاة مفرطة في رسائلهما إلى أمي وأبي، ما حثّهما على العودة إلى المنزل بنحو مفاجئ. لم تَكُن من عادة أبي أن يأتي دون إخطارنا. لكن الوضع مختلف هذه المرة. لقد أتيا على حين غرّة. بل ووصلا منتصفَ الليل.
زارنا في هذه الفترة “إيبو”، ابنُ عمي الذي أُطلِقَ سراحه من السجن حديثاً، وأخوه “باقي”. كنتُ زرتُ إيبو في السجن عدة مرات. إنه عضو في “جيش تحرير العمال والفلاحين في تركيا”، واعتُقِل عام 1975، حين برز نجم “مصطفى تيميسي “. شهدَت ديرسم يوماً حافلاً بالأحداث مجدداً في ذاك اليوم. إذ تمت عرقلة القافلة على جسر “ألازغ”، واحتجّ الشعب على دخولها إلى ديرسم. إنها قافلة رئيس “حزب الوحدة في تركيا”، والذي كان يسعى إلى تنظيم العَلَويين ودعم الدولة من هذه الجبهة. لقد عمل “قره أوغلان” لسنواتٍ على تنظيم الطاقات الكامنة في ديرسم باسمِ اليسارية والشعبوية، والآن جاء دور “تيميسي”! فهو أيضاً يسعى إلى إضافة عُقدة جديدةٍ عبر النزعة العَلَوية في المكان الذي انقطعَ فيه الخيط! لكنّ ديرسم لم تَعُد كما كانت عليه. بل تحتوي معارضة بارزة، حتى وإن لم تَكُن شاملة. والشباب باتوا يُعَبّرون عن غضبهم علانيةً. ثمة بعضٌ من رفاقنا أيضاً من بين المعتَقَلين في ذلك الاحتجاج، ومن بينهم “يلدرم مركيت”.
أثناء زيارتي لـ”إيبو”، ناقشنا بحرارة حول أن كردستان مستعمَرة. فقد استمرت تلك النقاشات في السجن أيضاً. تأثَّر إيبو قائلاً: “سأبحث في ذلك”. عَبَّرَ هذا القول بحدّ ذاته في تلك الفترة عن مقاربة إيجابية ومسؤولة. أما “باقي” فكان من أعضاء “حزب التحرير الشعبي”. وقد جادلَ -هو أيضاً- حول المسألة القومية. يبدو أن له ميولاً معينة، أو أنه مهتمّ بالقضية الكردية بأقل تقدير. وقد أَسَرَّنا ذلك. قال إيبو حينها: “سنزوركم لنناقش ذلك فورَ إطلاق سراحي”.
إن مجيء باقي أيضاً معه إيجابي، لأنني كنتُ رفضتُ رأيه بهذا الخصوص أثناء جدالنا قبل عام. وهذا ما معناه أنه لم يأبه بذلك. إذ لا مكان في الروح الثورية للقطيعة أو لاتخاذ المواقف. زاد احترامي له وألمي عليه في آن. فكِلاهما يُعزِيان موقفي هذا إلى فقرهما وإلى استصغاري إياهما، وكأنني اخترتُ طوعاً أن أكون ابنةَ عائلةٍ ميسورة وحَضَرية. كنتُ أشعر بغضبهما واستيائهما. وكان إيبو يومئ ببعض الألفاظ في السياق، وإنْ على سبيل المزاح. أما باقي، فكان أكثر هدوءاً ونضوجاً.
زارنا في تلك الليلة أيضاً “ولي تايهاني” و”متين غون غوزي”، فاستفضنا سويةً في الجدال معهما. واضحٌ أنهما تأثرا بمستوى وعي الرفاق وبنضوجهم في الجدال. يتمتع باقي أيضاً بثقافة بارزة، إلا إنه يفتقر الكثير من الوعي فيما يخص كردستان. فما قدَّمه من أطروحات كانت تتعلق بما قبل ثورة 17 أكتوبر/تشرين الأول. إذ قال: “بمقدور نمط التنظيم على الطراز البلشفي أن يحل القضية القومية”. إنه من أكثر الرافضين لتشكيل تنظيم قومي منفصل. وعلى الرغم من طرحِه العلني لمدى اختلاف ظروف كردستان وتركيا، وتناقُضِ ذلك مع مزاعمه في التنظيم الموحّد، إلا إنه يُعاند على موقفه وعدم اقتناعه بطرحنا. واختَتَما النقاش في نهاية المطاف بالقول: “سنبحث في هذا الموضوع. قد نَكون مخطئَين. ولكن، لنتناقش كأصدقاء ولنلتقِ بين الحين والآخر”.
لم أَرَ من المناسب بقاءهما في منزلنا في تلك الليلة. وقد تفَهَّما ذلك. أجل، إنهما ابنا عمي وثوريان. لكنّ أغلب الاحتمال أن المحيط سيفسر هذه الزيارة بنحو آخر. لذا، ليس صحيحاً فتح الأبواب على القيل والقال. فالعمّ خضر وزوجته ينتهزان كل شيء في هذا الصدد. لذا، فإنهما بالتأكيد لن يقبلا بهكذا زيارة. وعليه، أرسلناهما إلى بيت أحد أقاربنا القريبين منا للمَبيت عندهم. عَبَّر باقي عن استيائه من خطوبتي مع متين بقوله لدى الوداع: “أجل. لم تَقبَلي بمستوانا. لكني رغم ذلك سأناديكِ بابنةِ العم”. انتزعَت “أليف”، ابنةُ قريتنا، هذه الكلمات، لتقذفني بها طيلة تلك الليلة، مؤكدةً أنني رفضتُه لأنه فقير. بل واستثمرَت الموقف الأخير للأم تونتون، لتُقحمَني في حالةٍ فظيعة من الشعور بالذنب. ووصلَت توبيخاتها إلى نقطةٍ وكأنه من الواجب عليّ أن أعتذر لباقي وأن أعترف له بأني أخطأت. من الواضح أن الجميع يسلك مقاربات عاطفية. وتُعَدّ هذه من أهمّ نقاط ضعفي. إذ إني لم أرفض أعمامي لفقرهم بأية حال، بل إنني أحبهم جداً.
عَلِمَ العم خضر وزوجته في اليوم التالي بمجيء ضيوفنا، وحاولا عدم إشعارنا بردود أفعالهما. أما أنا، فحاولتُ ذاك اليوم أن أكون محترمة تجاههما، على عكسِ ما كنتُ من قبل. لا شك أن تفسيرهما الخاطئ لردود فعلي السابقة هو الذي أثَّر فيَّ وجعلني أجهد لتبديد سوء الفهم. حقاً، كنتُ في حالةٍ نفسيةٍ شعرتُ فيها وكأنني ارتكبتُ ذنباً بحقهما. علماً أن الأمر جدُّ طبيعي. فهؤلاء أولاد أعمامي، وبإمكانهم المجيء إلى منزلنا في أي وقت. سعيتُ لإفهامهما هذا الوضع وأنا في حالةٍ نفسيةٍ سيئة، وكأنني فعلاً ارتكبتُ خطأً. لعل هذا الأمر نبعَ من فرطِ حساسيتهما. فلو أن الأمر يتعلق بأمي وأبي، لَما أَعَرتُ هذا الوضعَ أيةَ أهمية. لكنهما ليسا في المنزل الآن. وأنا فتاة مخطوبة. وعليه، يمكن للشائعات أن تنتشر بكل سهولة. لقد خلقتُ لنفسي هَمَّاً جديداً أُوجِعُ به رأسي.
رجعَ والداي ذات ليلةٍ لم أَكُن فيها موجودةً في المنزل. إذ كنتُ في منزل أحد الجيران، ورجعتُ فورَ علمي بمجيئهما. إن مواقف أمي غريبة. فهي غائبةٌ عنا منذ سنة، وكنتُ أتوقع أن تفرح برؤيتنا، وأن تحضننا بحرارة وشوق. لكن، لا. فعقُلها غائب، وعيناها تجولان في المنزل، فتدخل المطبخ تارةً، وتذهب إلى غرفة الضيوف تارة أخرى. وقامَت القيامة في تلك الأثناء. فالسلك الكهربائي ما زال في مقبس الكهرباء، ونسينا سحبه. كما كنا رتَّبنا الأشياء الزائدة فوق بعضها بعضاً في غرفة الضيوف، التي لم نستخدمها إلا للضرورة. بالتالي، كنا فتحنا النافذة العليا لتلك الغرفة قليلاً، وأَولجنا من هناك السلك الكهربائي. سحبَت أمي السلك من المقبس، ورمَت به مغتاظةً. لقد أبلى أبي بلاءً حسناً بمحاولته تهدئةَ روعها. أما نحن، فتَسَمَّرنا في أماكننا مذهولين. ورشَقَتنا أمي جميعاً بوابلٍ من الأسئلة التي يمكن اختزالها في: “لِمَ بات هذا المنزل على هذه الحال؟ هيا قولوا لي. مَن الذين يأتون إلى هنا؟”.
لم تتوقف محاسبةُ أمي لنا على الإطلاق. تحوَّلت تلك الليلة إلى كابوس خانق. إذ لم نستطع الذهاب إلى أي مكان، ولم يأتِ أحد من الرفاق. وكأن كل علاقاتنا تجمّدت في لحظة. علَّقَت أمي على ملابسي بالأكثر. إذ لَم أعُد أعتني بلباسي كما كنتُ سابقاً. بل أصبحتُ أرتدي الملابس العادية البسيطة. بل وتسمَّرت عيناها على الوشاح الحريري الأسود المزركش الملفوف حول عنقي، والذي كنتُ أحبه كثيراً. باغتَتني بنبرتها الحانقة الحادةِ سائلةً: “ما هذه الحال؟ هل أنت في حداد؟”. لم أبدّلْ ملابسي حتى لدى زيارة العم خضر والأم تونتون لنا. بل واستقبلتُهم بفتور. كل ذلك لم يَغِب عن نظر أمي، فزاد من ذعرها، وقالت لأبي متذمرةً: “لابد أن شيئاً ما جرى لهذه البنت. ما هذه الملابس؟ انظر إلى أيةِ حالٍ آلت. قُل لها شيئاً. فهي لا تُكلمني”.
ومع زيادة المعلومات التي تزوَّدا بها من أشقائي ومن جيراننا الخلفيين، تبدّلت ردود أفعالهما. وكالعادة، كان مَتو أكثر مَن ساعدني، على الرغم من كثرة شجاراتنا، لاسيما في السنوات التي سبقت خطواتنا نحو الثورية. لم أنسَ قط كيف كنتُ أطارده وأضربه عندما كنا في قرية جدتي. إذ أغضبَني حينها جداً، فطاردته بكل عناد ودون كلل، على الرغم من سرعة ركضه، حتى وصلنا إلى شاطئ نهر منذر. ما زلتُ أستغرب كيف مررتُ بكل تلك الأراضي الصخرية دون أن أسقط أو أتعثر! ومَتو أيضاً لم ينسَ الكفَّ الذي طاله مني! إذ يذكِّرني به بين الحين والآخر، فيحمَرّ وجهي خجلاً وأتألم ضمناً.
لم يجد أبي ما يقوله لأمي، فاكتفى بالقول عن وجهِ حقّ: “إنك جدّ ظالمة”. فهي كانت تضربنا جميعاً وبكل سهولة. وعندما لا يتبدد غيظها بذلك، تَكزّ أسنانها، وتُكيل لنا اللَّكمات، وتشدُّ شَعر كل واحد منا. أما إذا كان مِرقاق العجين أو الشبشب في يدِها، فلا تتردد إطلاقاً في ضربنا به. لم تَكُن تنتبه حتى إلى أن تلك الضربات تخدش مشاعرنا، وتترك أثراً عميقاً في حالتنا الروحية. كانت تحاول إرضاءنا بعد ذلك أحياناً، دون أن تنجح في مسعاها.
أما وقد كَبرنا وبِتنا نحسّ بتداعيات الكثير من الأمور بصورةٍ أسرع وأوضح، فعلى الرغم من ذلك، لم تأبه أمي بذلك، وظلّت تضربنا أمام رفاقنا أو في أماكن أخرى وعلى مرأى الجميع. لم أَجِدْها مُحِقّةً في ذلك أبداً، ولم أُحاكِ جانبها هذا قط. بل طالما شعرتُ بالغضب والنفور منه. أجل، لم أنسَ مَتو إطلاقاً. وما يزال فؤادي يتألم لضَربي إياه من وسط ظَهره. أما هو، فالتزمَ الهدوء على مضض، وظل يحترمني، ضابطاً أعصابه ومحدّجاً فيّ بعينَين دامعتَين. فلو شاء، كان بمقدوره أيضاً أن يضربني بكل سهولة. لكنه لم يفعل.
كان علي محبوب أمي في المنزل. إذ تعتني به بالأكثر، ويستفيد هو من مقاربتها هذه للحفاظ على موقعه. فحسبَ قناعة أمي، فإن علي لا يُخفي عنها شيئاً، بل يُخبِرها بكل شاردة وواردة. وعليه، راحت تسأله بالذات عن كل ما يتعلق بفترة غيابها، لتعرفَ مَن زاروا منزلنا، وأسماء رفاقنا. لكنّ علي لم يَعُد كالسابق. لذا، مدّها فقط بالمعلومات التي لا تضرّ بنا، دون أن يتطرق إلى علاقاتنا مع الرفاق، مؤكِّداً في هذا الشأن على أنه: “كان يزورنا بعض أصدقاء أبي الذين لا نعرفهم”.
حاولَت أمي إقناعَ أبي مراراً: “لنُخرجْ سكينة من المدرسة ونُزوِّجْها. لا يهمّني إن أقاموا لها عُرساً أم لا. وإلا، فستَجلب لنا الكوارث بحالها هذه”. وعملَت على جسّ نبضي، أو بالأحرى تهديدي، في هذا الخصوص. فهي قلِقةٌ من التبدلات التي تطرأ عليّ. فالمشكلة ليست منحصرةً في ميولي الثورية وعلاقتي مع الرفاق. بل الأهم عندها هو أنني لم أَعُد في مِزاجِ الفتاة المراهقة! ولا تَبدرُ مني تصرفاتُ أو مشاعرُ فتاةٍ مخطوبة. وعندما سألَتني أمي عن علاقتي مع متين، أَجبتُها أنّ هذا الأمر لا يَعنيها، وأنه لا يجب أن تسألني عن أيّ شيء يتعلق به. زادَ موقفي هذا من حدّةِ غضبها. فما معنى ذلك؟ وكيف لا يعنيها الأمر؟
عندما كانت أمي تستعد للذهاب إلى ألمانيا ذات مرة، أرادت شرحَ هدفها من منعِ “متين” من المجيءِ إلى ديرسم. فزعمَت أنها فعلت ذلك لأجلنا، لأجلي. بدأَت تفكر بصوتٍ عالٍ: فهل يلزم إبداء ردة الفعل إزاء ذلك؟ أم أنها أبلَت بلاء حسناً؟ ولَمّا عادت هي وأبي، رأت “متين”. ولكن، هل هو منزعج من ذلك حقاً؟ وهل أخذ موقفاً إزاء ذلك؟ ربما يَكون –هو أيضاً– قد سئم هذه العلاقة. فهل هي السبب؟ هذا هو سببُ توتّر أمي.
لقد فكَّرَت أمي “زينب” في الاتجاه الصائب. فكل هذه الأمور صحيحة، وقد أثّرت في علاقتنا. فلو أن متين زارنا خلال هذه الفترة، لَزادت علاقتنا حماسةً ودفئاً، ولَتشاطَرنا الفكر الأيديولوجي عينَه، أو برزَت أسباب انفصالنا بصورة أسرع. لكنه بكل الأحوال لم يأتِ. فأوامر الأم “زينب” كانت قاطعة، وقد طُبِّقَت حرفياً. لكن العديد من الأمور الأخرى أيضاً أثرت في هذه العلاقة.
كان أبي أكثر هدوءاً ونضوجاً واحتراماً وإدراكاً للأمر من أمي. ناقشتُ الأمرَ معه بشفافية، وذكرتُ له أن حادثة الخطوبة ضيَّقَت عليّ الخناق منذ البداية، وأني لستُ جاهزةً لها. شرحتُ له المستجدات الحاصلة في فترة غيابهما: “إنهم يرونني كخادمة تماماً! ويُعِدّونني مُلكاً لهم منذ الآن، ويتدخلون في كل الأمور. لكني لا أستطيع العيش بالنمط الذي يريدونه هم، ولا بالشكل الذي تريدونه أنتم!”.
وأردفتُ قائلةً: “ثمة كل هذه المستجدات. الجميع منشغلون بأمور مختلفة. ولا أستطيع أن أبقى نشازاً. بل أريد أن أصبح ثورية. فمنذ أن أتيتما، وكأنكما تحبسانني في المنزل. فلا أستطيع زيارة أصدقائي، ولا أحد يجرؤ على المجيء. ما أقوم به ليس سيئاً. أنتما في أوروبا. وعليكما أن تدركا ذلك بنحو أفضل. فأمي تتدخل في كل شؤوننا، وتحظر علينا كل شيء. بل وتُصِرُّ الآن على تزويجي. وإن كنتما ترغبان في معرفة موقفي الحقيقي في هذا الموضوع، فأنا لا أرغب به. وقد لملمتُ لوازم الخطوبة عدة مرات، ورغبتُ لو أرميها في وجهِ العجوزَين العجيبَين. يستحيل استمرار الأمر بهذا الشكل”.
حاولتُ إقناع أبي الذي بدا متأسفاً وقال مغتاظاً: “إن باقي، الذي لم تَرضِ به أيضاً، ثوري”. يبدو أنه وجَّهَ كلامَه هذا إلى أمي. ثم أردف قائلاً: “والآن أنتِ مخطوبة إلى ذاك الشاب، وعليكِ أن تقبلي بعضَ عاداتهم. إذ ليس صحيحاً أن ترفضي كل شيء. وبالطبع، هم أيضاً لا يمكنهم التدخل في كل أمورك. دعي والدَيه جانباً. لكنّ الشابّ ليس سيئاً. بل هو محترم وجامعيّ. ولا أعتقد أنه سيُعقّب بشيء على ثوريتك. تكلمي معه وراسليه”. لقد سعى أبي إلى حل المشكلة بصورة إيجابية.
ضاعفَت مقاربةُ أبي من معنوياتي، على عكس مقاربة أمي التي كانت بالغة الحساسية بشأن ذهابي وإيابي من وإلى المدرسة. لكني تجاوزتُ التردد في هذا الموضوع. إذ لا أذهب إلى أي مكانٍ دون إذنها، وألتزم بقواعد ونظام المنزل. لكنّ تلك القواعد تقلب حياتي الجديدة رأساً على عقب، ولا تعطيني شيئاً من حق الحياة الحقة. لقد وُضِعَ كل شيء على الرف: التدريب، الاجتماعات، اللقاءات والمناقشات، وكل العلاقات. لكني كنتُ أذهب من المدرسة إلى التدريب، وأرتّب مع الرفاق توقيت التدريب بنحوٍ يذلل نوعاً ما هذه العراقيل. فكنا نستحصل على إذنٍ من المدرسة، أو نسجّل حضورنا في الحصة الأخيرة ونخرج”.
هكذا تلافينا المشاكل وعملنا على حلّها. وهو أمرٌ أسهل عليّ من قولِ ولو كلمةٍ واحدةٍ لأمي. مع ذلك، اخترقَ الرفاق الحظر، وأتوا لزيارتنا والنقاش معنا، على الرغم من إلحاح أمي: “اتركوا ابنتي وشأنَها”. كان جدال أمي مع بعض الرفاق مختلفاً تماماً. فهدوءهم يمتصّ غضبها ويُريحُها، بل ويُضحكُها أحياناً. لكنها لم تحبّ “قيمت” و”توركان” أبداً، بسبب راحتهما المفرطة، ومواقفهما الاسترجالية والساذجة، ونقاشاتهما المنفّرة. لذا، كان الوسطُ يتوتر بمجيئهما، فتزداد أمي استفزازاً لهما.
أي أنه عندما لم تستطع أمي قطع علاقاتي مع الرفاق، لجأت هذه المرة إلى التمييز بينهم، وإلى تقييمهم حسب انطباعاتها ومعاييرها. لكني أبدَيتُ مواقف صارمةً إزاء ذلك، ولم أسمح لها إطلاقاً بقول أية كلمة بحقّ الرفاق. ومع ذلك، فإنها أحبّت أو أُعجِبَت ببعض الرفاق، وأعربَت عن ذلك علناً. وعموماً، فهي لا تعرفهم جميعاً. بل تعرف فقط أولئك الآتين إلينا أو إلى المنزل الذي في الحديقة.
واظبنا على أنشطتنا التدريبية رغم كل شيء. إذ لنا أصدقاء حتى في المساكن العسكرية. كانت عائلةُ “سفيم قايا” تضغط عليها، وتستهجن خروجَها من المنزل مساءً. لذا، راحت تعتمر القبعة، وتُخفي وجهَها وفمَها بالوشاح، فتغدو بذلك أشبَهَ بالرجال، كي تستطيع عبور شارع المساكن وحضور التدريب. إذ من المهم اجتياز ممرات المساكن دون أن يراها أحد، ثم المرور بالأزقة الآمنة الخالية من المارّة، كي تصل مكان التدريب. وهذا بذاته يقتضي العزم والإصرار. ولكن، ألا تعني الروحُ الثورية حبَّ المغامرة وتحمُّل الصعاب؟
علَّمَنا نمطُ حياةِ روّاد الأيديولوجية التحررية الوطنية هذه الحقيقة. إذ ليس لها قاعدة مكتوبة أو قرار خطي أو نظام داخلي منصوص عليه، وليس هناك مَن يفرض ذلك. بل إن الحياةَ بذاتها تُعَلِّمنا. فروابط العائلة تعني روابط النظام القائم. والعوائل في هذه الفترة هي أكثر تأثراً حتى من المؤسسات أو النظريات النافذة في الدولة. وثمة صراع محتدم مع العوائل، يعيق قراءةَ الوضعِ والتعلم منه أو التعرف على حقيقة الذات بنحو ملموس. وهذا ما يعني تجميد الحياة، والذي يصعب تحقيقه، ولا يُجدي سوى في تجذير التناقضات.
أصبحتُ أذهب علناً إلى الأنشطة التدريبية أو الاجتماعات. إذ أستأذن أمي قائلةً: “لديّ مشاغل اليوم، وعليّ الذهاب”. وأخرج من المنزل، حتى عندما لا تسمح لي. وهي لم تسمح أبداً. وبالطبع، فلكلِّ ذهابٍ إياب. كانت معنوياتي تنخفض، عندما أخرج من المنزل بعد شجار. فأفكر في المشاحنات الكلامية التي قد تحصل لدى عودتي. هكذا، أصبحنا نناقش هذه المواضيع صراحةً ونتشاجر من أجلها علناً. أي أنه ما من داعٍ للكذب.
فأياً يَكُن، فأنا ثورية، وعليّ مزاولة نشاطاتي. ويأتي التدريب في مقدمة النشاطات الرئيسية، التي لا يستطيع أي أحد –حتى الأم زينب– منعي من أدائها. كان علينا النقاش باستمرار. ففي السابق، هي التي كانت تتحكم بمسار النقاش، وتعرقل الكثير من نشاطاتي. أما الآن، فلا تستطيع فعل ذلك، فتحاربني علناً. لكنني لا أصغي إليها، وأرفض مواقفها علناً، وأردّ على ضغوطها بالقول: “أريد أن أصبح ثورية. ولن تستطيعي منعي. كُوني مثل عوائل العديد من رفيقاتي. فما من سوءٍ أقوم به، وتعلمين كل نشاطاتي. فإذا يَسَّرتِ الأمور كان بها. وإلا، فلن أبقى في هذا المنزل”.
إن هذا تهديد صريح. لكنها لم ترغب تصديقي، على الرغم من شكوكها بلجوئي إلى هكذا طيش. فراحت تردّ: “تزوجي إذاً واذهبي!. إذ لا أستطيع تحمّل مسؤوليتك!”. أدركَت أمي يقيناً أن مرامي من القول “لن أبقى في المنزل”، ليس الانتقالَ إلى منزل آخر. وهذا تحديداً ما يُقلِقُها. لكنها تعجزُ، أو لا تود، معرفة أسباب ردود فعلي الحادة تلك. ولكن، ما الذي حصل حقاً؟ ما الذي يكمن في مضمون التناقضات والصراعات التي مررتُ بها؟
اتّسمَت أجواء عائلتنا بالمشاحنات والصراعات من جهة، وبالروابط الوثيقة وبحِسّ المسؤولية من جهة أخرى. فكَونُ أبي كادحاً، وعدم انزلاقه اجتماعياً نحو التزمّت والخصائص الإقطاعية الرجعية، وعدم انعكاس ذلك لديه بصورة واضحة؛ لعب دوراً رئيسياً في انفتاح أفراد العائلة على الخارج، وفي تحرّكهم بإراداتهم الذاتية. كان حقاً يحبّ أولاده وعائلته، ويتحلى بحِسّ باطني بالمسؤولية وبالغنى المعنوي. إذ يناقشنا في جميع المشاكل، ويعمل على حلها بالإقناع. إن الروح الإنسانية لديه شكَّلت عاملَ توازن مهمّ للغاية.
أما أمي، فخصائصها على النقيض منه، وكأن كِلَيهما بدّلا موقعَيهما! فالمرأة في المجتمع هي الجنس المسحوق، وتَشَكُّل خصائصها متناقضٌ للغاية في المجتمع. لقد كانت عائلةُ أمي من عشيرةٍ ذائعة الصيت وثرية. وعلى رغم ذلك، كان جدي لأمي متوازناً في علاقاته مع المحيط، ويعتمد الاحترام المتبادل والمساعدة والتعاون مع الآخرين أساساً. وهكذا نجح في كسبِ ودّ الآخرين، على حدّ قولهم. فباتوا، وما يزالون، يُقسِمون باسمه.
كانت جدتي لأمي أيضاً كذلك. فنمط علاقاتها وسيادتها كان ذا مغزى. إذ تُنقذ العديد من الأمور، وتحلّ المشاكل. أما تسلّط أمي، فلا يؤدي إلا إلى الصراع المحتدم. ربما كانت رعايةُ ثمانيةِ أطفال، والبقاء معهم في نفس المنزل عملاً شاقاً بالنسبة لها، وكدحاً إضافياً حسب خصائصها التقليدية. لكنّ كل ذلك مجرد كدح فظّ للغاية. ذلك أن فرضَها آراءها على الجميع بخصوص كل شيء، وتَحكّمها بإرادة الجميع، يولّد لدينا الندم وردّة الفعل إزاء موضوع “تأسيس عائلة”.
أتذكر جيداً كيف كانت خيالاتنا وأحلامنا كفتيات مختلفةً عن ذلك. ففي المجتمع عموماً، تدور النقاشات في المنازل حول الزواج، وتتمحور الأحلام والفكاهات حوله. أما لدينا، فكانت ردود الفعل راسخة تجاه ذلك في وعينا الباطني، وكأنه كارثة! إذ رأينا في شخصِ أمي أن الزواج يعني التقيّد بأمور معينة، والانحصار فيها، والدوران في دوامة الصراع والتشاجر والتناقض. لذا، لم يأتِ قولُ أخي الأكبر بهذا الخصوص عبثاً: “وهل أنا مجنون؟ فإنها ستُصيبُ ابنةَ الناس بالجنون. أليس هذا عار؟”. أي أنه كان يؤمن أنه بزواجه سيُقحِم شخصاً آخر في هذه الدوامة.
كما لم يَكُن بالمقدور البقاء بعيداً عن أمي. فهي تجدُ السبيل للتدخل دون بد. من جانب آخر، فإن زواج الفتاة يعني خروجَها من منزلها. ولكن، هل المنازل الأخرى مختلفة؟ فالتخلص من سطوة الأم هو حل إلى حد ما. لكنّ أمهات أخريات يظهرن إلى الميدان في هذه الحالة. هاكم الأم تونتون مثلاً!
كلا. لو أن متين وافق على ميولي الثورية، ولو أننا تمكّنّا من تشاطر هذه الحياة الجديدة، لَما ترددتُ في تحويل علاقة الخطوبة إلى زواج. إذ لا أرفضه كلياً. لكني لا ألقى المؤازرة منه. وقبل كل شيء، فنحن لا نزال نجهل بعضنا بعضاً، ولم نَعِشْ سوى فترةَ تعارفٍ قصيرة. وكانت طموحاتُنا مختلفةً حينذاك، وعالَمُنا الفكري والعاطفي ضيقاً ومتخلفاً. بل كنا نجهل معنى الخطوبة حتى. وقد مرّت فترة طويلة على هذه الحال. لذا، لم يَبقَ أيّ معنى لهذه العلاقة الساذجة. فما الذي بقي منها حقاً؟ وعمّ سأبحث فيها؟ وعَلامَ سألتزم بها؟
فطبيعة العلاقة مع عائلته، وضغوط أمي المتزايدة، قد ولّدت لديّ ردود فعل معاكسة. وصرتُ في أغلب الأحيان أغضب من متين، وأتهمه بلا سببٍ بأنه السبب فيما أصبحتُ عليه. والحال هذه، فما الذي أستمده من نظام الأسرة السائد، الذي يفتقر حتى إلى قوة الإقناع؟ وبالمقابل، ما زلتُ في أكثر مراحلِ ثوريتي طفوليةً وبدائية. وأفتقر إلى التحلي بالصبر وإلى المقاربات السياسية الناضجة. في حين تتسارع وتيرة المستجدات من حولنا، ولا أتحمل إطلاقاً أي أمرٍ قد يؤثر في مواكبة تلك الوتيرة. لذا، رأيتُ نفسي أصارعُ كل شيء: الأم، العائلة، المحيط، التقاليد والأعراف. أجل، أصارعهم جميعاً، مع أنه ليس من السهل أبداً أن أنقذ نفسي بمفردي. ومع ذلك أقول: “سوف أحل هذا الأمر بنفسي”. أفلا تعني الروحُ الثورية تحمّلَ الصعاب؟
كان الرفاق على علم بالأمر، لاسيما الرفاق الذين نُسيّر معاً الأنشطة التدريبية. إذ كنتُ أعكس هذه الأمور عليهم من جوانب عدة. لكنهم، هم أيضاً، لا يحلّون شيئاً. والرفاق الآخرون يلقون صعوبات جمة. إذ لم يَكُن سهلاً القيامُ بأبسط المهامّ، كتحديد مكانٍ للّقاء، أو إرسال خبرٍ أو إيصالُ برقيةٍ صغيرة إلى مكان ما، أو البحث في موضوعٍ ما. ما من أحد بمقدوره إنكار هذه الحقيقة. ثم إن مزاولة المرأة للثوريةِ هو أمر أصعب بكثير. إذ ثمة منع وحظر بشتى الوسائل، حتى في أكثر العوائل التي نصفها بالجيدة والمنفتحة. في الواقع، فالعوائل كانت لا ترغب حتى في انخراط أولادها الذكور في المسائل الثورية.
فالثورةُ بالنسبة لهم تعني التمرد على الدولة. والهزائم السابقة ومخاضاتها ماتزال عالقةً في ذاكرتهم وأذهانهم. ثم إن العديد من الشبان استشهدوا حديثاً على هذه الدرب. كما أُعدِم “دنيز” ورفاقه، واغتيلَ ماهر ورفاقه. لقد كان شبان ديرسم هؤلاء يُستَذكَرون كأيقونات. فكل واحد من هؤلاء أسس لحَيَاة شخصية في المدن الكبرى. لكنهم لم يتحملوا، ولم يَسلَموا. إذاً، فالأمر ليس بهذه السهولة. بل إنه خطير. فالدولةُ قوية، وظالمة، ولا تسمح بهكذا مقاربات. بل وتَعتقل الشبان وتقضي عليهم بلا رحمة. وعليه، كانت النظرة التشاؤمية والمخاوف اللامتناهية هي السائدة بين العوائل.

ترجمة: بشرى علي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى