تقارير وتحليلات

خاص|| إضراب منظّم لتحسين ظروف الدراسة.. من مذكرات سكينة جانسيز (الحلقة الخامسة عشر)

 

زاد الحراك في المدارس، واتّضح الفرق بين “المُدَرّسين الفاشيين” و”المعلّمين الثوريين”. أما مدرّس التربية البدنية، والذي تدرَّبَ على الملاكمة أيضاً، فكان يتباهى بصلافة بقدراته العضلية، ويهدد بعض الطلاب. لكنه، أخيراً، تلقّى الضرب المبرح على أيديهم، مما أَربَكَ المدرّسين الفاشيين الآخرين. ينحدر أغلب زملائي في الصف من قريتَي “هاجري” و”تشوكور” وجوارهما. وينتسب أغلبهم إلى “الحركة الفكرية البروليتارية الثورية PDA”، في حين أن أعضاء “جيش تحرير العمال والفلاحين في تركيا TİKKO” هم قلائل. لا تُذكَرُ أسماء الكتل الحزبية في كل مكان. لكن النقاشات تُجدي نفعاً في معرفة الكتلة التي يدافع عنها أو ينتمي إليها شخصٌ ما. وعموماً، هناك جبهة طبيعية مناهضة للمدرّسين ذوي الميول الفاشية. ونحن جميعاً ننتمي إلى تلك الجبهة، بطبيعة الحال.
مقابل ذلك، سادت حالةٌ من التعقيد والإرباك لظروف الدراسة، على الرغم من عدم بقاء الفاشيين في دُور المدارس الداخلية. كما زادت حصص الفراغ بسبب الشغور في تعداد المدرّسين. إذ سعى المعنيون إلى ملء الشغور بمدرّسين فاشيين، نجحَ البعض منهم في نقل تعيينهم إلى مكان آخر، ورفض بعضهم الآخر المجيء أصلاً إلى مدينة “تونجلي”. كانت نوافذ المدرسة مُكسَّرة، والتدفئة المركزية مُعطَّلة. لقد ضُوعِفَ من سوء الظروف من كل النواحي، بهدف كبح جماح دينامية الشبيبة.
تحوَّلَ درس اللغة الألمانية لمدرِّسِنا “مسعود” إلى مناسبة للَّهو والمرح بالنسبة لصديقنا “زلفو”. ذلك أن مفردة “هارّ Herr” تعني في الألمانية “مع السلامة”، بينما تعني “حمار” في اللهجة الزازائية من اللغة الكردية. بالتالي، كان “زلفو” يقول طيلة الحِصّة “هارّ يا مسعود”، ثم يكرر العديد من المفردات الزازائية تتخللها بعض المفردات الألمانية. ما كان يثير حفيظة المدرّس ويستفزّه. مع ذلك، اتّسم المدرّس بعناده. عادةً ما كان توقيت حِصّة اللغة الألمانية بين الساعة التاسعة والساعة العاشرة صباحاً. وذهابي لمدةِ عامٍ إلى ألمانيا قد ضاعف فضولي نوعاً ما للُّغة الألمانية. كنتُ أحبّ هذه الحصة، وأغضبُ أحياناً من مواقف “زلفو”، وأَجِدُها بلا جدوى، لأنه يكررها في كل حصة تقريباً. فقد كان يرى في الميول اليسارية والثورية ردّةَ فعل على التعلم والدراسة.
أَصدَرَ “زلفو” الذي يجلس على أحد المقاعد الخلفية أصواتاً غريبة، كلما أدارَ مُدَرّس اللغة التركية “بولات إبراهيم” وجهَه إلى اللوح. ولَمّا انتبه المدرّس، حاول الإمساك به بالجرم المشهود. لكنه لم يفلح. أعاد زلفو الكَرّة، فأشرتُ إليه بغضبٍ أن يكفّ عن ذلك. لمَحَني المدرّس آنذاك، فوَجَّهَ سؤاله إلى جميع الطلاب ليَدلّوه على مُصدِر تلك الأصوات. لكنّ أحداً لم يُجِب. اضطرّ المدرّس لإيقاف بضعة طلاب –كنتُ بينهم- إلى جانب اللوح، علّه يَعلَم منا هوية صاحب الصوت. كان يعتقد أن الإفشاء بصاحب الصوت هو دليل الصدق والأمانة. ونحن الواقفون كنا الأكثر عقلانيةً وصدقاً على حد اعتقاده!
لماذا عاندنا في عدم الإفشاء بصاحب السلوك السيئ؟ كنا نحبّ مدرّسنا ذاك عموماً. فهو أيضاً ثوري، بل ومعروف بثوريته التقدمية. كنا نجادله أغلب الأحيان، سواء أثناء الدرس أو في الاستراحة. لكنه في النهاية معلّم. أي إنه موظف في الدولة، ونحن أصدقاؤه الطلاب. كنا في جبهة واحدة. لكنّ الإفشاء بذاك الصديق يعني الإخبار عنه، وهذا خطأ فادح. ضربَنا المعلم بالعصا على أيادينا عقاباً لنا. كنا في الصف الأول الثانوي، وما يزال الضربُ رائجاً! عَزَّ عليّ ذلك كثيراً، فبكيت. تشاجرتُ بحنقٍ مع زلفو في الاستراحة، وأكدتُ له أنْ لا جدوى من سلوكه ذاك، الذي لا يدل سوى على الرعونة. لكنّ زلفو زعَمَ أننا غاضبون لتلَقّينا الضرب، وأن سلوكه اعتيادي جداً. أكد لنا المعلم إبراهيم أسفه لاحقاً، واعتذر منا. لكنّ قلوبنا تحطمَت.
ولَمّا التقيناه ذات مرة بعد سنين، أومأ إلينا بصمت أنه آسف على ما بدر منه، وأنه تألم لحالنا وخجل من نفسه. طلب مني الصفح عنه. إنه إنسان عزيز جداً. لذا، فقد سامحتُه قبل ذلك بكثير. لكنّ زلفو بدَّلَ طرَفَه بعد فترة. وباتت كل سلوكياته وتصرفاته كنايةً عن إشارات تفضح أمره وشخصه. لذا، لم نحبّه يوماً، ولم نعجب به أبداً. بالتالي، افترقَت دروبنا بطبيعة الحال.
بدأَت مَدرَستنا إضراباً منظَّماً بهدف تحسين ظروف الدراسة. كان بالإمكان تخمين المشرفين عليه. لكني لم أكترث لذلك بقدرِ ما ركزتُ على أحقية الإضراب كمقاومةٍ ينبغي المشاركة فيها. انطلَقنا في مسيرةٍ من أمام مبنى المدرسة نحو المبنى الحكومي. لكنّ عناصر الشرطة حاولوا ثَنيَ عزيمتنا منذ اقترابنا من مبنى المشفى. فرَمَيناهم بالحجارة. إذ شُرِحَ لنا قَبلاً كيفية التصرف، في حالِ أَطلَق عناصر الشرطة الرصاصَ الحيّ. لكنّ عناصر الشرطة مُصِرّون على موقفهم. أطلقوا الرصاص في الهواء أولاً، فتخندَقنا وراء الجدران أو السيارات المحيطة بنا. ثم انطلَقنا ثانيةً والشعاراتُ تشقّ عنان السماء، معاندين –نحن أيضاً- على المُضِيّ قُدُماً.
اعتُقِلَ بعض الطلاب أثناء المسيرة، مما أجّجَ ردود فعلنا. ازداد عدد المتفرجين عن بُعد مع اقترابنا من السوق. فأطلَقنا شعار “شاركوا يا أبناء شعبنا!”. نَبَّه البعض مراراً إلى ضرورة الحذر في اختيار الشعارات، وأنه من الأفضل التركيز على المطالب: “نريد نوافذ وأبواباً وتدفئة مركزية للمدرسة! نريد معلّمين لملء الشواغر!”. وبعد ذلك، أَطلَقَ البعضُ شعار “لا لأمريكا، لا لروسيا، نعم لتركيا مستقلة!”. لَم أجزم مدى صحةِ إطلاق هذا الشعار من عدمه. لكني ردّدتُ شعارَ “الموت للفاشية!” بلا تردد، فصدحَ صوتي به أكثر من الشعارات الأخرى. ثم أُضيفَ شعارٌ جديد: “نريد زملاءنا في الدراسة!”.
أطلقنا تلك الشعارات أمام مبنى دار الحكومة. خرج المدّعي العام إلى شرفة المبنى بين الحين والأخرى، متظاهراً بأنه يودّ لعبَ دور الوساطة. ثم قال في محاولةٍ لامتصاص غضبنا: “سيُخلى سبيل زملائكم في أقرب وقت”. لكن، لم يُخلَ سبيلهم رغم مرور الساعات. هزّ الإضرابُ كل أنحاء ديرسم على حين غرّة. إذ وَفَدَ الطلاب من مدرسة المعلمين أيضاً. وعلى الرغم من عرقلة الشرطة لهم على الجسر الكائن في الحي السفلي بالمقابل منا، إلا إن البعض نجحوا في الوصول إلينا، في حين اكتفى الباقون بمؤازرتنا من أماكنهم. وحَلَّقَت المروحيات في السماء لفترة. طالَبَ الوالي هاتفياً بمجيء تعزيزاتٍ من قوات الدّرَك ووحدات المغاوير من مدينتَي “هوزات” و”بولومور”، مشدداً: “ثمة عصيان. لقد تمرد الكُرد!”. واستنفرَت كل قوات الدرَك.
دَبّ القلق والتوتر في العوائل حصيلة هذا الوضع. لمحتُ أبي حيناً وكأنه يبحث عن شيء ما، وهو يَتجول داخل المجموعة. كان قد أتى في إجازته السنوية، التي تزامنت، لسوء حظه، مع أحداث متتالية، فلم يهدأ له بال. هاهو الآن يبحث عني على ما يبدو، مرتدياً بدلة رسمية، حلّيقَ الشارب، ليُشبِهَ بمظهره ذاك عناصر الشرطة المدنية. وقد شكّ به حقاً مَن لم يعرفه. إذ أنذَرَنا البعضُ قبل ذلك بالحذر ممّن نجهله. فقد يندسّ عناصر الشرطة المدنية بيننا، لافتعال الاستفزازات أو لاعتقال البعض منا. لذا، كنا جميعاً نراقب مَن حولنا بدقة. لَمّا رآني أبي، توَجَّهَ نحوي، فاشتَبَه به بعض الطلاب: “لحظة أيها السيد، إلى أين أنت ذاهب؟”.
ردّ أبي: “إلى عند ابنتي. سآخذها معي، فوالدتها مريضة، وقد أُغمِي عليها!”. ومع ارتفاع حدّة مشادّاتهم الكلامية، اضطررتُ للتدخل. وبعد أن انتظر أبي بجانبي قليلاً، همسَ في أذني بحياء وتردد: “لنذهب إلى المنزل! فأمك مريضة. وستموت إن لم تأتِ معي. فلتراكِ ثم ارجعي ثانيةً”. وفجأةً انطلقت الشعارات مجدداً، فالتفتَ أبي إلى أصدقائي محاولاً إقناعهم: “يا ابنتي، يا بني، لا يصلح هذا. إنكم طلاب. نادوا بمَطالبكم بدلاً من هكذا شعارات، كي لا يفعل بكم عديمو الشرف شيئاً. انظروا، لقد طالبوا بالتعزيزات من الأقضية المجاورة! هؤلاء الكلاب أولاد الكلاب لن يفكروا بأنكم شباب أو طلاب أو مُحقّون في مطالبكم. انتبهوا واحذروا، أرجوكم! فما علاقة أمريكا وروسيا بذلك؟ اعقلوا يا أبنائي!”.
وبعدما ساد الهدوء، حاول أبي مجدداً إقناعي بالذهاب إلى المنزل وطمأنة أمي ثم العودة إلى المسيرة. حنقتُ جداً من إصراره. كنتُ أتصرف حتى تلك اللحظة بنحو طبيعي وبنضوج إزاءه، كي لا أسيء إليه. لكنّ إصراره وسط هذه الفوضى، وتركيزه على حزن أمي، وسعيه لإبعادي عن أصدقائي قد أغضبني حقاً. لم أَرضَ بذلك: “أتُدرك ما تفعله يا أبي؟ إني مع أصدقائي وسط إضرابٍ بدأناه سويةً. ولكلٍّ منهم أمه وأبوه. لن أترك الساحة لأجل أمي. ولن أتخلى عن أصدقائي في منتصف الطريق!”. تضايقتُ كثيراً، ولم أستوعب سبب كل هذا الإصرار المناقض للواقع. كنتُ أتصور أبي أكثر وعياً ويقظة. ألا يفكر في مدى سوءِ التخلي عن أصدقائي؟ ذهب أبي مهموماً.
ازداد التوتر في الساحة. ثمة بَلبلة هناك. أصبحنا مُطَوَّقين تماماً أمام مبنى دار الحكومة. إذ أُغلِقَ الطريق من طرَفَيه. وقوات الشرطة والدرَك متأهبة تمتشق السلاح وتنتشر بمسافة خطوة بين كل اثنين. لفتَ أنظارَنا توتّرٌ يتجلى من نافذة دار الحكومة. وفجأةً وجَّهَ الوالي مسدسه من النافذة. وحذّرَ البعض: “قد يحصل استفزاز. لنتحرك جماعياً ولا نتفرق، حتى ولو أُطلِقَ الرصاص!”. انتشر هذا التحذير همساً وعلى موجات. وَفَدَ طلاب من مدرسة المعلمين إلى الساحة في تلك الأثناء، فجذبوا الأنظار فوراً بشعاراتهم وألبستهم.
ولو أنه أُطلِقَت رصاصةٌ واحدة بالخطأ من بين المحتشدين، فسيَرشُّ كلُّ عناصر الشرطة والدرك المتظاهرين بوابل من الرصاص. باتت الأجواء مشحونة ومتوترة إلى هذه الدرجة. تدخَّلَ المدّعي العام في هذه اللحظة، فأخذ المسدس من يد الوالي بالإرغام قائلاً: “أَجُنِنتَ يا جناب الوالي؟ هؤلاء ليسوا متمردين أكراداً، بل إنهم طلاب صغار يركزون على مشاكل مدارسهم! سيبدأ التمرد أساساً في حال أطلقتم النار!”. هذا هو سبب التوتر إذاً. خرج المدّعي العام إلى شرفة المبنى بعد برهة قائلاً: “اصغوا إليّ يا شباب! يا أبنائي الأعزاء! اهدأوا قليلاً! إننا نفهمكم. أعاهدكم بشرفي أن يُخلى سبيل زملائكم خلال ساعة، وأتحمّل مسؤولية ذلك. وإلا، فسأستقيل من منصبي! أُعلن ذلك صراحةً وعلى مسامعكم جميعاً!”.
أُطلِقَت الشعارات رداً على ذلك، دون أن تتكرر أو تنتشر كثيراً. طُلِبَ منا أن ننتظر بهدوء وصمت. وعَمَّ الصمت، تتخلله أحياناً بعض التقييمات للوضع: “المدّعي العام رجلُ دولة. إنه يماطلنا، ولا ثقة لنا به. لنستمرّ بمسيرتنا نحو المخفر”. لقد بَيّنّا صراحةً عدم ثقتنا. لكنّ عدم الانجرار وراء الاستفزازات أيضاً مهمٌّ هنا، دون أدنى شك. ثمة غموض في الرد على الأسئلة: ما الذي نريده؟ ماذا عسانا فاعلون في حال لم تُلَبَّ مطالبنا؟ ماذا سيكون موقفنا؟ لم نستطع البتّ في ذلك، نتيجةَ حصول المسيرة تلقائياً وفجأةً. قررنا في نهاية المطاف أن نتوجّه نحو المخفر، في حال لم يُخلَ سبيل أصدقائنا بعد ساعة. وأُبلِغَ الجميعُ بذلك.
باشرنا بالحراك مجدداً، إثر عدم إخلاء سبيل أصدقائنا بعد ساعة. وحصل بعدها ما حصل. سُمِعَ دويٌّ هائل. ولم نعرف إن كانت قد انفجرَت قذيفةُ هاون أم شيء آخر. وهذا كان كافياً لتفجير الحقد. توجَّهنا كالسيل الجارف نحو شارع السوق، مُطلِقين الشعارات المتواصلة. باشرت قوات الشرطة والدرك بالحراك تزامناً مع حِراكنا. وبدأ الاشتباك. ضربَت قواتُ الدرك كلَّ مَن طالته بمؤخرات البنادق. هاجمنا عناصر الشرطة بالهراوات، فرميناهم بالحجارة. استمر الاشتباك في كل حيّ وكل زقاق وشارع. لم يتدخل الشعبُ في أي شيء. بل اكتفى بالتفرج على الأحداث عن بُعد. وكأن قوات الشرطة والدرك قد بنَت جداراً من اللحم بيننا وبين الشعب.
وعلى الرغم من تكرارنا شعارَ “هيا يا أبناء شعبنا!”، إلا إنه، لا الشعبُ شارك معنا، ولا نحن استطعنا الولوج بين صفوف شعبنا أو الهروب إليه. وذات مرة، أُطلِقَ شعارُ “تكاتفوا أيها الشبان والجيش!”. فبدأ الدرك بضرب أفراد تلك المجموعة بمؤخرات البنادق. سررتُ بذلك في قرارة نفسي، فرحتُ أصرخ: “إن هذا الشعار مجرد هذيان. فأيّ تكاتف هذا الذي سيحصل بين الجيش والشبان؟ ألا ترَون ماذا يفعل الجيش بكم؟”. اغتظتُ جداً من ذلك الشعار. فمنذ الصباح ونحن نطلق الشعارات، التي كان بعضُها مشحوناً بردود الفعل. ولكن، مَن الذي أطلق هكذا شعار خرافي؟ لقد كان شعارَ أعضاء “الحركة الفكرية البروليتارية الثورية”، الذين أتوا من مدرسة المعلمين.
استأنفنا المسيرة وإطلاق الشعارات. لكن الموكب كان مبعثراً، ولا أول له ولا آخر. وصلنا المنعطف المقابل للثكنة العسكرية. قال البعض: “لنذهب إلى مبنى المحكمة. فقد أُخِذَ زملاؤنا إلى هناك”. وأَصرَّ البعض على التوجه نحو المخفر. ما من روّاد للمسيرة. يبدو أن زمام المبادرة قد انفلت. غضِبنا من هذا الوضع. إذ من غير الصحيح النقاشُ وسطَ الشارع، مما يصبُّ في صالح الشرطة. فجميعُ مَن في الجوار يحدق فينا، وكل نوافذ الثكنة تعجّ بالناظرين. والسائرون مستمرون في تظاهرتهم، ويُطلقون الشعارات المشتتة هنا وهناك.
قلِقَ الجميع من انعدام الوضوح والهدف. والأنكى أنه لم يُخلَ سبيل زملائنا، بل واحتُجِزَ آخرون. استمرّ الإضراب بهذا الشكل منذ الصباح وحتى المساء. أما مكانُ تَجمُّعِنا الأخير، فلم يَكُن مناسباً بتاتاً. إذ كان بإمكاننا التفرق، في حال كنا في أزقة الحي. أما تفرُّقنا في هذا المكان، فسيُساعد الشرطة على اعتقالنا عشوائياً، دون أن ندري بأحوال بعضنا بعضاً.
صرَّح البعض عن مخاوفه هذه علناً. وخرَجنا أخيراً نحو الشارع المتجه من السوق نحو المدرسة. وتفرَّقَ الجميع في أزقة الحي ابتداءاً من النقطة المتوسطة بين المدرسة والمشفى، بعدَ التنبيه: “لينتشر الجميع في الأزقة الفرعية، وحاوِلوا ألاّ تُعتَقَلوا!”. اتّفَقنا على ذهاب الجميع إلى المدرسة غداً صباحاً، مع توَخّي الحذر. فقد تسيطر عناصر الشرطة على مدخل المدرسة، وقد يحتجزون البعض.
جرى التحقيق في ذاك اليوم مع كل المحتَجَزين في مبنى دار الحكومة، والذين أتى أغلبهم من مدرسة المعلمين. إذاً، فأنْ تَكون من طلاب الثانوية هو امتياز. وبالأصل، فطلابُ الثانوية هم الذين بدأوا الإضراب. لذا، كان من الأسهل على عناصر الشرطة أن يستهدفوا المشاركين من المدارس الأخرى أو من الخارج. ساد الضربُ والوعيد والشتم في التحقيق. أُخلي سبيلُ بعض الفتيات المُحتَجَزات في نفس الليلة. لكنّ “توركان” و”نورحياة” وأُخرَيات مايزلن رهن الاعتقال. كان هذا تكتيكاً مقصوداً. إذ بدأت تنتشر تحليلات مختلفة للغاية: من المحتمل أن المُخلى سبيلُهم في تلك الليلة قد أخبروا عن زملائهم، سيما وأن الباقين يتعرضون لمقاربات شنيعة للغاية. وقيل أيضاً أنه تم اغتصاب الفتيات وإدخال الخوازيق فيهنّ. انتشرت هذه الأنباء بسرعة البرق. أُخليَ سبيل الجميع بعد أربعة أو خمسة أيام.

ترجمة: بشرى علي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى