تقارير وتحليلات

خاص|| اتَّخذتُ الأمل والحنين والحقيقة درباً!.. من مذكرات سكينة جانسيز (الحلقة 22)


هي حلقة خاصة من مذكرات سكينة جانسيز التي ننشر ترجمتها مسلسلة عبر ترجمة الزميلة المبدعة بشرى علي.. اليوم وفي يوم المرأة العالمي نترككم مع هذا السرد النسوي الممتع من المرأة وعن المرأة وللمرأة

 

انخرطَت النساء والفتيات بكثافةٍ في هذه الفترة، فأصبحت المدارس منبع الثورية، ليبدأ الانخراط منها وينتشر في المحيط تدريجياً. ونظراً لأن مشاركة المرأة برزَت منذ البداية، فإن أحداً لم يستغرب ذلك، لاسيما في منطقة ديرسم، التي لا تقمع المرأة، ولا تميّز بينها وبين الرجل. بل حتى إن الفتيات كنّ مُحبوبات أكثر. لكنّ هذا العمل مختلف. فبما أن مزاولة السياسة تُعَدُّ أمراً خطيراً حتى بالنسبة إلى الرجل، فإنّ أحداً لم يتصورْ أن تغدوَ المرأةُ ثورية. هكذا بدأت التصدعات الجدية تطال التقاليدَ الاجتماعية في هذا السياق. أو لنَقُل: لقد فُكَّت العقدةُ إن جاز التعبير. لكنّ العشاق والمخطوبين والأزواج والأشقاء اجتمعوا هذه المرة في نفس المجموعات الأيديولوجية، فسادت العلاقات الإقطاعية الرائجة في تلك الحركات، التي لم يبذلْ أيٌّ منها الجهود اللازمة لتقويم الوضع. أما حركتنا، فانفردت برفضها للعلاقات الإقطاعية، وبكفاحها ضدها، ليَقلَّ بذلك خطرُ هذا النمط من العلاقات، ويزدادَ بالمقابل تأثرُها بالأواصر الثورية الصاعدة لتوّها. إلا إن غياب المعايير فيها يسفر عن مخاطر جمة.
من حينها بدأت مجموعتنا الثورية، التي نُعِتَت بألقابٍ عديدة مثل “القوميين” و”التحرريين الوطنيين”، تجذب أنظار العدو إليها. وبدأ الشعبُ يدرك نقاطَ اختلافها عن غيرها. فانطلاقاتها الثورية الراديكالية تجاه عناصر الشرطة، وعزيمتها الصارمة في النضال الأيديولوجي، وحماسها الجياش والجذاب؛ كل ذلك ضاعفَ من مؤازرة المجموعة والانجذاب إليها، دون الاهتمام حتى باسمِها أو بمدى شهرتها. بل وبات التشهير بها أو كَيل الشتائم لها محفِّزاً لاندفاع الكثيرين نحوها. كما كان الكثير من الحركات والأوساط التي تدّعي الثورية، تقوم بالدعايات المضادة لـ”التحرريين الوطنيين”، وتَصِفُهم بأنهم “أنكى من التوركيشيين”. ولكن، كم هو أمرٌ مُقنِعٌ أنْ تُساوي بين انبثاق الروح الوطنية الثورية من رحمِ أوساط الإنكار الفظيع، وبين العصابات الإجرامية التي لا وظيفة لها ولا هدف سوى القضاء على أنبل قيم الشعوب والإنسانية بسياساتها الرجعية والعرقية؟ حتى الذين يدّعون ذلك هم غير مقتنعين بأقوالهم. إن هكذا هجمات لا أساس لها من الصحة، ولا تنطلق من أرضية نظرية أو أيديولوجية قويمة، ولا تندرج في إطار الثورية أو اليسارية، ولا تؤدي إلا إلى التسريع في كشف النقاب عن جوهر تلك المجموعات.
تسارَعَ اتحادُ جميع تلك المجموعات، التي تطرح أموراً مختلفة اعتماداً على بعض التعاريف النظرية، في وجه المدافعين عن الأيديولوجية الوطنية التحررية. لكنّ اتحادها اتّسم بالرخاوة وعدم الثبات داخلياً. إذ طغَت عليها العلاقات اللحظية واليومية واللامبدئية. بالتالي، فإنها تلجأ إلى مهاجمة بعضها بعضاً بكل سهولة. أما سباقُها على التشبث بأسماءِ “دنيز كزميش” و”ماهر تشايان” و”إبراهيم كايباكايا”، فقد نَمّ في جوهره عن الهجوم على تقاليد هؤلاء أيضاً. إذ دلّ في حقيقته على البُعدِ عن نهجهم، وعلى تشتيت القيم الثورية وبعثرتها.
شاركنا جميعاً من المدرسة الثانوية في المراسيم التي أُقيمَت في المدارس، والتي تضمَّنَت عرض لوحاتٍ لـ”دنيز” ورفاقه، في ذكرى إعدامهم في السادس من أيار. إلا إن قناعة تلك المجموعات بأنها -هي فقط- مَن يدافع عن هؤلاء الأبطال الأشاوس، ورغبتها في احتكار تلك المناسبة، لم تَكُونا مقبولتَين بتاتاً. فالالتزام بنهج هؤلاء العظماء يعني الدفاعَ عن حقيقة الشعب وعن القيم الثورية، ويعني تَبَنّي نضالاتهم. أما الجواب الأمثل والأنبل لشعارِ “يحيا النضال المشترك للشعبَين التركي والكردي!”، فقد تجسَّدَ في البنية الأيديولوجية والفكرية لـ”ثوار كردستان”، وفي نمطِ تنظيمهم، وفي انطلاقتهم التاريخية. وعليه، ما كان ممكناً استذكارُ هؤلاء الأبطال، ولا فَهمُهم، ولا حتى تطبيقُ نهجهم، إلا بهذا النحو.
بدأَت المراسيم في المدرسة الثانوية. أعقَبَها الوقوفُ دقيقةَ صمت، ثم إلقاء الكلمات. وقبل أن نتفرق، أطلقنا شعاراتٍ من قبيل: “لن ننسى 6 أيار!” و”دنيز وحسين ويوسف خالدون!” و”تسقط الديكتاتورية الفاشية!”. لكنّ “حزب التحرير الشعبي” أراد استعراض قوته، فحشَدَ مؤيديه في “حي الجبل” حيث تركّزَت احتفاليتهم هناك. بل إنهم يُسَمّون ذاك الحي بـ”حَيّنا”. إلا إن تنظيمَهم لمراسيمَ أخرى عدا تلك التي في المدرسة الثانوية، تسبَّبَ في إغضاب الجميع. فنظراً لعدم بُعدِ أحياء ديرسم عن مركز المدينة، يغدو بالإمكان سماعُ هتافاتِ مجموعةٍ غفيرة من المحتشدين من كل الأماكن. وعليه، فلدى إطلاق الشعارات في مراسيم “حي الجبل”، سُمِعَت الهتافات، فطَوَّقَ عناصر الشرطة الحي. وبمجرد وصول عناصر الشرطة، فرَّ أولئك الذين ينبغي أن يكونوا روّاداً للشعب، وبقيت النساء والأطفال عُرضةً لهجمات الشرطة الساعية إلى تفريقهم للتمكن من مطاردة الشبان. وأثناء مطاردتهم أحد الشبان، بات عناصر الشرطة بالمقابل منا. إذ كنا ذهبنا إلى الشارع العُلويّ لتَقَصّي الوضع. كان ثمة البعض من نساء الجيران والغجر يتفرجون، بالإضافة إلى المتفرجين من شرفات أو نوافذ منازلهم.
هناك نساء يغضبن من الشباب، وأخريات يشتمن عناصر الشرطة بحنقة، ما جعلهم يهاجمونهن. وقد أمسكوا بامرأة فجَرُّوها جرّاً. إنني أعرفها. فهي جارتنا “أليف”. تدخَّلتُ فوراً لإنقاذ الخالة أليف من قبضتهم. فهاجمني البوليس. تمسَّكَت بي الخالة أليف والنساء الغجريات من طرف، وأخواي التوأم من طرف آخر، جاهدين لعرقلة البوليس من اعتقالي. وأجهَشَ أخواي التوأم بالبكاء، في حين صرخَت الخالة أليف ممسكةً بي: “خذوني أنا، ماذا تريدون من هذه الفتاة الشابة؟ فهي لا علاقة لها بأي شيء!”. تظاهرتُ بالاهتمام بشقيقَيّ التوأم، وتذرّعتُ بإسكاتهما متراجعةً بخطواتي نحو الوراء. وانهمك البوليس بالخالة أليف والغجريات، مذهولين أمام ردود أفعالهنّ.
إنّ الخالة أليف أرملة. ويعيش أولادها الكبار في ألمانيا. إنها امرأة شرسة. فبعد أن طاردَت البوليس، تشاجرت معي قبل أن تتوجَّهَ إلى منزلها: “اذهبي فوراً إلى منزلك. فأنت مخطوبة. فلا تتجولي في الشارع في هذه الساعة”. لكنني لبَّيتُ دعوةَ الغجريات، وذهبتُ مع شقيقَيَّ التوأم إلى منزلهن. أعددنا مائدة الطعام سويةً، وبدأنا نقاشاً حامياً ومطوَّلاً بعد تناول الطعام. وقد ذكَرن أنهنّ دافعن عن الثوار في حيِّهنّ أثناء اشتباكهم مع عناصر الشرطة في “أرزنجان”. كما عبَّرن عن استيائهنّ من الرجال: “كل رجل يتفرج من شرفة منزله هو جبان. مَن هم هؤلاء الكلاب حتى يقولوا أنهم سيُكررون تجربة عام 1938 عليكم؟”. ثم أكّدن: “إنهم يستمدون الجرأة من جُبنِ الرجال. أما نحن فقرّرنا فيما بيننا مهاجمَتهم في حال اعتقلوكِ. حمداً لله أنهم لم يفعلوها”.
ثم تركَّزَ حديثنا حول ثورية المرأة ومدى قدرتها على فعل الكثير في حالِ نظَّمَت حقدها تجاه العدو. واستأنفنا الحديث بعد ذلك عن شراسة النساء الغجريات وعن روح المبادرة لديهنّ. وأكدتُ لهنّ مدى إعجابي بالغجريات منذ الماضي. إذ كنّ يَنصبنَ خِيَمَهنّ في السهول الخضراء الخلاّبة القريبة من قرية جدتي، وبالتحديد بين أشجار الحور والصفصاف على ساحل نهر منذر. كان رجالهنّ يعملون في تبييض الأواني النحاسية لأهالي القرى المحيطة، قبل أن يحطّوا الرحال في مكان آخر.
أما نساؤهم، فكنّ يضَعن أطفالهنّ الرّضّع في الحمّالات على ظهورهنّ، ويتجوّلن بين البيوت ليَجمعن ما يَجُودون به عليهنّ من طحين أو قمح أو زيت أو غيره. وكنّ يحدّدن مطالبهنّ حسب الحالة المادية لأهالي المناطق التي يحطّون فيها. إذ يتدبّرن أمور حياتهنّ ممّا يجمعنه. كانت جدتي تمنحهنّ منزلها الفارغ في القرية ليأوينَ فيه حين يكون الشتاء قارساً. وبذلك تعجّ قرية جدتي بالسكان شتاءً، مع العلم أنها كانت كذلك في الربيع أيضاً بطبيعة الحال، إذ ينتقل القاطنون في المدن إلى قراهم للتصييف فيها. لطالما نظرتُ إلى حياة الغجر على أنها حياة حرة، لأنهم يجولون كل الأماكن على هواهم، دون أن يستقروا في مناطق محددة. لكني بالمقابل كنتُ أتأسف على فقرِ حالهم، وعلى احتقار الغير لهم. فكنتُ أستضيفهم دوماً في منزلنا.
استضفتُ غير ذات مرة مجموعة من الغجريات في منزلي، وأعددتُ لهنّ مائدة طعام غنية. وبينما كنا نتناول الطعام، عادت أمي إلى المنزل، فأقامت القيامة عليّ، وأنَّبَتني بكلماتٍ شنيعة أمامهن، مؤكدةً أن استخدامي للمنزل بهذه الصورة يعني انتهاكاً لحَرَم المنزل. بل وتجاوزَت الحدّ بقولها: “لنُعطيَكِ لهنّ ما دمتِ تحبّينهنّ إلى هذا القدر!”. لقد قالت ذلك حانقةً ليغدو قولها لاحقاً موضوعَ مزاح. لكني كنتُ أردّ عليها في كل مرة: “بإمكاني الذهاب إليهن”. إذ كنتُ تعرفتُ على بعض الغجريات اللواتي كنّ يَزُرننا مراراً. وقد انتهزتُ غياب أمي ذات مرةٍ لأهديهنّ عدة قطعٍ من ملابس أمي، بالإضافة إلى ملابسي وملابس شقيقاتي.
إن النساء والفتيات الغجريات جميلات. بل إن جمال بعضهنّ خلاّب حقاً، على الرغم من فقرهنّ وملابسهنّ الرثة. لكنهنّ يعتَنين ببَناتهنّ الصغيرات بصورة خاصة. إذ يضَعن العشرات من مشابك الشَّعر الملوّنة على طرفَي ضفائرهنّ الثنائية المَجدولة بعناية. أما بَشَراتهنّ السمراء الداكنة، وخدودهنّ المتشققة أحياناً من البرد القارس، فتُضفي عليهنّ جاذبية مختلفة. لكنهنّ طبيعياتٌ في جميع سلوكياتهنّ. وهذا ما يلفت الأنظار فيهنّ. لقد قُلن لي: “إننا معكم دائماً”. وفي ذلك مصلحةٌ لهنّ بالطبع. إذ لا يمكنهنّ جمعُ الهِبات من المنازل إلى الأبد كقدَرٍ محتوم. ربما لم يَكُنّ يفكرن ببصيرة نافذة، إلا إنهن يَعتقدن أنهنّ سيأخذن أماكنهنّ في “كردستان المستقلة”. وهنّ بذلك لا يشبهن غيرهن من الغجر.
كنتُ رأيتُ الغجر الذين في ألمانيا، وأدركتُ أنهم مختلفون. فأوضاعهم المادية ومقارباتهم في المجتمع لم تَكُن متخلفة إلى هذه الدرجة. بل كان لهم نمطهم الخاص في الحياة، والذي يُسهّل على المرء تمييزَهم عن سواهم. كنتُ أحبّ هؤلاء الغجر أيضاً. ولكن، في الحقيقة، حتى الغجر لم يَكونوا أحراراً. فأيّ حريةٍ هذه التي يتمتعون بها أصلاً؟ إلا إنهم بالمقابل كانوا يخرجون على القواعد السائدة في المجتمع، ولا يأبهون بقوانين النظام القائم. بل لهم قواعدهم الخاصة. وفي الحقيقة، هذا تحديداً ما كان يجذبني إليهم. فردودُ فعلي على المسار الذي يحدده النظام أو النمط العائلي الرائج، والذي يُفسِد المرءَ ويكتم أنفاسه، كانت تتحول إلى إعجابٍ بـ”الحرية” الخاصة بالغجر. وما زلتُ أرى هذا الجمالَ في نمط حياتهم، حتى ولو انطلاقاً من هذا الجانب فحسب.
سأفتح قوسَين فاصلَين هنا:
لم أكتب، بل لم أستطع الكتابة، ولم أشعر بالرغبة في ذلك طيلة اليوم. بل أردتُ تذوُّق الماضي وعيشَه بصورته الطبيعية. إذ لا بد من وجود جمالية هذه الروح أثناء الكتابة، وإلا ستتحول إلى أمرٍ إرغاميٍّ وغير مُلهِم. أما الامتداد إلى الماضي بجماليةِ روح الحاضر، وبكل عنفوانه الجيّاش، فيُضفي تدفقَ الحياة على الكتابة عنه. ما زلتُ أدَّعي أنّ التوقيت مهمٌّ جداً لأجل الكتابة، وأنه ما يزال الوقت مبكّراً على تدوين هكذا فترة طويلة عايشتُها. ما كان عليّ البدءُ بالكتابة ضمن أجواء الكآبة السائدة. حقاً، لماذا أكتبُ أنا تحديداً عن ماضي شخصٍ يدور حوله كل هذا السجال، وبات مُخاطَباً رئيسياً لهذا الكمّ من الأحاديث والتعاريف؟ ماذا سيفعل الآخرون بمعرفتِهم ما عايشتُه؟ يدور الجدل اليوم كثيراً حولي ومن أكثر الجوانب سلبيةً!
هل سيَكون ثمة معانٍ مختلفة لاستذكاري غداً بنحوٍ مختلف؟ كلا! وهذا بالتحديد ما لا أستطيع قبوله. لقد دُوِّنَ تاريخي، ودار الجدل حوله. وقد تُقال غداً أو في المستقبل الكثيرُ من الأمور الجميلة أو الإيجابية عني. فما الذي سيتبدل حينها؟ هل سيتغير تأثير ما أعيشه اليوم من مخاضات عميقة؟ هل سيُزيدني راحةً؟ كم سيَكون منطقياً أن أقول: “فلأذهبْ أنا إلى الجحيم، وليتَّعظ الآخرون مني!”؟
إنني لا أقول بتاتاً: “أيتها الإنسانية! أيها التاريخ! أيها الرفاق الرائعون! هاأنذا. وتاريخي موجود ضمن هذا التاريخ العظيم النبيل، وليس منفصلاً عنه. قد تَكون لدي جوانب خاطئة، بل وقد أَكونُ مذنبة. لكنني أسير مع هذه الثورة. وقد عشتُ الكثير من الأمور الجميلة. فاستذكِروني بهذا الشكل”. ولكن، ينبغي ألاّ نُقَلّل من قيمة الحقائق. فكم هو منطقيٌّ أن أتركَ نفسي خارج السرب حين أسعى إلى كسبِ ودِّ الآخرين أو إفراحهم أو الوصول بهم إلى نتائج معينة؟ كم سيَكون صحيحاً أن أجرِّد نفسي من الواقع؟ كم سيُسعَد الآخرون حقاً بتَقَبُّلي لكلِّ ما يُقال عني أو ما أُنعَت به كما هو؟ هل بذلك أُبَرِّئُ نفسي؟ أم تُراني بذلك أحقق “الانطلاقة” على حدّ تعبير الآخرين؟ على النقيض تماماً. لا يمكن لأي شيء لا أحياه ولا أشعر به ولا أحبه أن يَكون أمراً طبيعياً أو أرضيةً للسَّداد!
والحال هذه، فهل تاريخ الفرد كنايةً عمّا يُكتَبُ أو يُسرَد؟ لكن، ثمة الكثير الكثير مما دُوِّنَ أو سُرِد، أكان رسمياً أم غير رسمي. بالتالي، فمن الصائبِ القولُ أنّ لي تاريخاً غنياً ومثيراً. لكنّ ما أدوِّنه ليس كلّ ما عايشتُه، ولا كما عايشتُه. فعلى الرغم من أنّ ما أكتبُه يتضمن قدْراً وفيراً من الحقائق والمحاسن أو الهجاء والمساوئ، إلا إنه ليس الحقيقة كلّها ولا كما هي.
هذه نقطة بالغة الأهمية: إذ قد لا تُعبّر حياة الفرد أو تفاصيل جزءٍ معيَّن عن أيّ شيء، في حال فصلِها عن الإطار العام. ولكن، ينبغي تناولها كما هي ضمن ذاك الإطار، الذي ترتبط به، والذي يحتويها، ويُعَدُّ بالتالي سببَ وجودها، ويُعبّر عنها في آنٍ معاً. كما ينبغي صون الخصوصية والخاصية ضمنه بنفس المنوال، واستشفاف العام أيضاً ضمن ذاك الجزء من دون بد. علينا تناول الأمر بكِلتا وجهتَي النظر هاتَين، ما دمنا سنَعقد الروابط الدياليكتيكية بين الأمور. بمعنى آخر، فإذا كانت الأحداث المُعاشة ستغدو موضوعاً أدبياً، وإذا كنا سنعبِّر عن الحياةِ بالمهارات الأدبية، فلا مفر حينها من تناولها من جميع النواحي. وهذا ما يستدعي وجود وجهة النظر الطبقية بالتأكيد. إذ لا يمكن تقييم الأحداث الاجتماعية بنحو سديد بفصلها عن ذلك. ومن ناحية أخرى، يتوجب موضعة الواقع الاجتماعي على مساره السياسي، كي تستطيعَ حقيقة الفرد من أداء دورها. وإلا، فسنصل في النتيجة إلى نفي النفي.
سأسعى لكتابة ما عشتُه. لكنّ جانبي الذي يحيا فيّ متمزقٌ ومليء بالتناقضات. إنه تاريخ معقّد! حسناً، ضد مَن أو ضد ماذا نخوض هذه الحرب؟ وما الذي سننقذه أو نحرره في نهاية المطاف؟ هل حسمنا كل ذلك؟ إذ وصلَت الأمور حداً لم أستطع -حتى أنا- أن أُبدي الفضيلة اللازمة لإنقاذ بعض الأمور. هناك حكمةٌ لدى محاربي الساموراي اليابانيين تقول: “إن الحفاظ على تلك الفضيلة، والارتقاء بها هو مجرد حظ”. لكنني عجزتُ حتى عن استخدام ذاك الحظ. في الحقيقة، من عظيم الأهمية استخدام حقي في فعل ذلك، وفي تحديد اللحظة الصحيحة في المكان والزمان المناسبَين لإنقاذ الكرامة. ذلك أني وُضِعتُ وجهاً لوجهٍ أمام أسبابي الوجودية. فكل سبب من تلك الأسباب التي جعلَتني من نواحٍ عديدة على الجبهة المضادة لدعواي ونضالي، اللذَين أوجداني ومدّاني بقوة الحياة، إنما كان بمثابة الخنجر. وقد عرَّضتُ نفسي وبكل سهولةٍ لجميع تلك الضربات. فتخرّشَت وتصدّعَت العديد من القيم الأساسية، وأُقحِمَت في حالة هُلامية للغاية. ولم أتمكن من سد الطريق أمام وصول الأمور إلى هذه النقطة. وبعد هذه النقطة تحديداً، أدركتُ أنني لستُ جديرةً بالتقاليد ولا بالحركةِ التي تُبدي الموقف المشرّف والنبيل وقت الحاجة وقدرَ ما تستطيع.
أما الآن، فعلى النقيض تماماً، أتميز بمزاجٍ مليءٍ بالإيمان بضرورة التسلح العتيد في صراعي ضد عادةٍ جديدةٍ غريبةٍ وعجيبة، ولا تتناغم مع معايير حزبنا، ولا مع طرازه. وأشعر بأن تحَوُّلَ الحياةِ ذاتِها إلى حالة صراعٍ ضروسٍ يمدّني بالحيوية القصوى. وإلى جانب ذلك، فحين قيلَ لي، أنا التي لم أختلط بأي شيء: “اكتبي رواية. اكتبي حياتكِ وانقلي للآخرين غناها”؛ فإني أَجِدُني أضحك بمرارةٍ أحياناً.
لستُ متشائمة رغم كل ذلك. بل أركّز بقوةٍ على كل الجوانب الحيوية في الحياة، وأفتحُ فؤادي وعقلي ووعيي وأحلامي على جمال الحياة وعظَمَتها، وأتشبث بها بكل جوارحي. وهذا ما يمدني بالحياة. إني لا أتخلى عن عالَم أحلامي. بل أطوِّره أكثر فأكثر. وأشعر بأني اليومَ في ماراثون عالميّ. وقد ضحكَ رفاقي من الأعماق حين قلتُ لهم ذلك. واعتقدوا أني فعلتُ ذلك حقاً، فطرحوا الأسئلة المتتالية. إني أجُول وأحيا لدرجةٍ تعوِّضُ عليّ آلامَ العجز عن الكتابة. وقد كانت هذه رغبةً خفيّةً وطموحاً قديماً لديّ في الحقيقة. إذ طالما خطّطتُ لذلك سابقاً، لكنه بقي مجرد خيالٍ أو فكرةٍ أو رغبةٍ بالتجول في جميع أرجاء العالم، والتواصل مع كافة الحركات النسائية، ومتابعة أنشطتها ومساراتها، والكتابة عنها. وتمتدّ أحلامي إلى النساء في أفريقيا ونيوزيلندا والأمازون.
تسألني مزكين: “وكيف كان زيّ نساء الأمازون؟”.
– “إنهن رائعات الجمال، وغالباً ما تَكون بشَرَتهنّ الطريّة سمراء وأقرب إلى اللون البرونزيّ. هنّ شبه عاريات. إذ يلتحفن مختلف أنواع القطع القماشية، البسيطة منها والمزركشة. فهناك مَن تتدلى القطع القماشية حتى خاصرتها، وهناك مَن تغطي صدرَها بها، وأخرى تلتحفها بحيث تغطي أحد كتفَيها بها. وأغلبهنّ صدورهنّ عارية. قد يَكون هذا منظراً مثيراً بالنسبة للآخرين! إلا إن الأثداء مقدّسة لديهم في حقيقة الأمر، ولا تُذَكِّرهم بالجنس. أو لنَقُل أنهم لا ينظرون إلى الأمر هكذا. بل إنهم بسطاء للغاية، ويرَون أن ذلك من الخصائص الدالّة على جمال المرأة وخصوبتها”.
تقاطعني “بهار” قائلةً: “كانت النساء يُرضِعن أطفالهنّ علناً في قريتنا أيضاً، ولا أحد ينظر إليهنّ بسوء”.
– “إن المرأة الأمازونية مبدعة وتتقن كل الأعمال. ولذلك، لها مكانتها البارزة في المجتمع. إذ يحبّها ويقدّرها الجميع”.
وتنعكس حيويةُ “مزكين” فوراً على كل تصرفاتها، محاوِلةً التخلص من الجوانب المُمِلّة في هذا اليوم: “إذاً، لهذا السبب يركّز القائد مراراً في تحليلاته على نساء الأمازون، ويقول (كنّ مثل نساء الأمازون على الأقل)”.
ثم أردفَت بنبرةٍ وكأنها لم تَعُد تطيق الحرّ: “لا يعنيني هذا أو ذاك. ليت أن أزياءنا أيضاً مثل أزيائهنّ المُريحة والزاهية. فألبستنا هذه تخنقنا. كم جميلٌ أن نكون حرائر مثلهنّ. فماذا عسانا نفعل كي نصبح أمازونيات؟”. وأضفَت بذلك جواً من المتعة على صحبتنا.
أطلقتُ العنان لنفسي، واستأنفتُ السرد، وكأنني عايشتُ كل ذلك بصورةٍ حية. أو كأنني تجوّلتُ حافيةَ القدمَين أو منتعلةً الصندل، مع تلك النسوة الرائعات بين قصب الخيزران الخاص بتلك المناطق، أو داخل الغابات الكثيفة أو على الرمال الكثيبة، أو بين أشجار النخيل الباسقة. ثم أردفتُ قائلةً:
– أما نساء الهند وباكستان، فلم أَذكُرهنّ لكُنّ بَعدُ. إذ ثمة أَوجُهُ شبَهٍ بيننا. فهنّ يشبهن نساء كردستان جسدياً إلى حد كبير، أو ربما نحن نشبههنّ. إلا إنني حقاً أحبّ “أنديرا غاندي” وأحترمها، وما زلتُ معجبةً بها. فهي أكثر مَن خلقَ لديّ انطباعَ المرأة السياسية. فملابسها وأحاديثها وثَباتُها أصبح عُرفاً بحدّ ذاته. وللأسف، كانت نهايتها مأساوية. وقد أثّرت وفاتُها فيّ كثيراً. أما “بينازير بوتو”، فهي امرأة مختلفة نوعاً ما. فعلى الرغم من تمثيلها بعضَ الميول ظاهرياً، إلا إنها مدرسةٌ للتواطؤ. وأنتنّ تعلمن أن المرأة المتواطئة غير محبوبة”.
تقاطعني “مزكين” مرةً أخرى: “إن “ليلى زانا” تشبه “بينازير بوتو” قليلاً. أليس كذلك؟”.
تردُّ عليها “زلال”: “ما كان لشخصية “ليلى زانا” أن تبرز أو تُعرَفَ إلى هذه الدرجة، لولا “حزب العمال الكردستاني PKK”. أجل، لها خصوصياتها. إلا إن نضالنا هو الذي أبرزَها وأعطاها القيمة”.
في الحقيقة، طرحَت “مزكين” هذا التوصيف دون وضعِ الحسابات السياسية في الحسبان. فهي قصدَت الشَّبَه الجسدي، دون أن تأبه بالأمور الأخرى. وعيون الجميع تشعُّ بالفضول لمعرفةِ نهاية سياحتي الخيالية هذه.
– “ذهبتُ إلى كوبا وبالتحديد إلى مدينة هافانا. والتقيتُ “كاسترو” العجوز البهيّ، واحتضنتُه، وقبَّلتُه من لحيته. لقد انعكسَ عشقُه للاشتراكية، وصفاءُ ذهنه وفؤاده على قوامه الجميل. إنه ما يزال قويّ البنية وحيوياً”.
علَّقَت بهار على ذلك: “لكنّ كاسترو رجل أرعن”! وانفجرَ الجميع ضاحكين.
– “وما علاقةُ رعونته وطيشه بسياحتي؟”.
ردّت بهار مُحرَجةً: “همممم. وما أدراني. هكذا فهمت”.
ألا يُقال: “إن الأصمّ لا يسمع، بل يُلَفِّق”؟ ورفيقتنا “بهار سمَعُها ثقيل. لذا، فإنها تُلهِبُ الجوّ كل مرةٍ بتلفيقاتها المثيرة. و”مزكين” هي أكثر المتحمسين للردّ عليها بحنقة: “ما دام سمَعُك ثقيل، حاولي الفهم قبل التكلم. وإلا، فستبقين ترتكبين الأخطاء في كل مرة”.
أجل. كانت نزهةً خيالية شيّقة. فالتفكير في هكذا أمور جميلةٍ ممكنةِ التحقيق، وتَصَوُّرها، ولو بهذا النحو، إنما يمدنا بالقوة. فخيالُ -أو حقيقةُ- الوصول إلى كل شيءٍ جميل بنكهة الحياة والحرية، هو أمرٌ رائع. أما الأروع، فهو عيشُ الاثنين معاً. قد لا يَجِدُ البعضُ أي معنى لهكذا أمور. وقد يَنعتونها بالأزمة الروحية أو المرض النفسي. ولكن، لا! ليست أياً من ذلك. فبدلاً من الغرق في الآلام وتجميد عنفوان الحياة وحماسها وتدفّقها بأسوأ الأشكال، فإن الأفضل هو الغوص في الأحلام التي تُحوِّل الآلام إلى جماليات الحياة، وإحياؤها ولو من خلال العواطف البسيطة الساذجة. هذا هو، إلى حدّ ما، لغزي في التشبث بالحياة.
فجماليات الحياة كثيرة وفيرة. وما من أحد يستطيع تطويقها جميعاً. من بالغ الأهمية التحلي بقوة الحياة والقدرة على الثبات، نكايةً بكل المعايير التي تشدّنا إلى الخلف، وبكل الأنماط الخطيرة التي تزرع الضبابية والغموض، وبكل الأوساط التي تَسودها التجاذبات والتعقيدات. وأنا أتشبث بإحدى تلك الجماليات دون بد، ساعيةً إلى الوصول إلى الأخريات. ربما أبقى ضيقة الأفق أو منحصرة في المستوى الفردي. إلا إن الشعور باللذة، ولو بهذا القدر، يمدّ المرء بقوة مذهلة لأجل التحدي. هذا أيضاً نوع من الصراع. ولا بد من الحفاظ على التوازن فيه. قد تطغى الآلام أحياناً. لكنّ الانزلاق نحوها، ولو لِلَحظة، يُلحِقُ بي الكثير من الأضرار، فينفجر رأسي، وتَحمَرّ عيناي! لكني لن أكرر ذلك بعد الآن. فقد وجدتُ الأسلوب الصحيح لمعالجة الأمور.
تُحاول الرفيقة “زلال” معرفةَ هذا السر. لكني أتدلل عليها، ولا أبوح به لها. خرجتُ للمشي، ووطأتُ بقوةٍ على التراب. اتّخذتُ من الأمل والحنين درباً أسير عليها، محاوِلةً الربط بين الخيال والحقيقة: عندما يصبح الصراعُ نمطَ حياة، فسينتصر دون بدّ كلُّ ما هو صحيح وجميل.
أُغلِق القوسَين الآن، وأستأنف الكتابة عن الأصل.

ترجمة: بشرى علي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى