تقارير وتحليلات

خاص|| يذكّر اسم تونجلي بالتقدمية والثورية!.. من مذكرات سكينة جانسيز (الحلقة الحادية عشر)

 

ذات يوم، قال لي أخي الأكبر أثناء الفطور: “اذهبي واغسلي قميصي الذي خلعتُه، ثم تعالي واجلسي!”. لقد خلعَ قميصه للتو. وكنتُ سأغسله أصلاً، لولا أننا جلسنا إلى الفطور. اغتاظ أبي من محاولته إنهاضي وتوبيخي على حين غرّة. كان أبي يعمل على نوبات. لذا، فهو يشاركنا الفطور أسبوعاً واحداً في الشهر، ثم تتبدل ساعات نهوضه في الأسابيع الأخرى. ونادراً ما كنا نفطر نحن الثلاثة معاً.

في الحقيقة، كانت لأخي الأكبر مشاكل أخرى. وينزعج أبي من نمط حياته. وعلى الرغم من عدم إعرابه عن ذلك علناً، إلا إنه يُشعِره بذلك بتصرفاته. كان أخي يعي ما يفعله. إذ يأتي إلى المنزل في ساعة متأخرة، أو لا يأتيه أحياناً، ويستهلك مصروفه سريعاً. وهذا ما يُفيض من صبرِ أبي، إلى أن انفجر غاضباً في ذاك الصبح. فرَدّاً على كلام أخي لي، قذفَ أبي منفضةَ السجائر الزجاجية من على الطاولة قائلاً: “أيها الحمار ابن الحمار. أليس عندك ضمير؟ إنها تقوم بكل شؤون المنزل، وتخدم أصدقاءك وأصدقائي، ولا تتوقف دقيقةً واحدة. ففيمَ العجلة؟ لقد خلعتَ قميصك تواً. انتظر حتى تُنهي فطورها ثم تغسله لك”. ونهض.

مرت منفضة السجائر بجانب رأس أخي، لترتطم بالجدار وتنكسر. ولولا أنه حنى رأسه بمرونة، لحطّمَت جمجمته بالتأكيد. لم يتوقّع أخي موقف أبي هذا على الإطلاق، فتأثر كثيراً، وبدأ يجهش بالبكاء، ثم نهض من المائدة. وبقيتُ لوحدي غير قادرةٍ بأي حال من الأحوال على بلع اللقمة التي كنتُ أمضغها. تركتُ الفطور ونهضت. لكن، ماذا سيحصل الآن؟ فقد خرج أبي من المنزل. وأنا غير قادرة على الذهاب إلى عند أخي. “كل هذا حصلَ بسببي”. شعرتُ وكأنني أنسحق. لم أتحمّل بكاء أخي. وعندما ذهبتُ إليه ورجَوتُه ألاّ يبكي، لم يَغضب مني. استغربتُ حقاً. لم أدرِ لماذا يبكي أصلاً. كما إن أبي كان على حق. فقلتُ بيني وبين نفسي: “كان من الأجدر به ألاّ يرمي منفضة السجائر تلك”. ثم قلِقَ أخي على أبي، وطلب مني أن أبحث عنه في الحديقة، التي تمتد على طول القناة المائية الموجودة في الحي. وفي إشارةٍ إلى أبي، عبَّر أخي عن قلقه قائلاً: “قد يذهب هذا الغريب الأطوار، ويجلب البلاء لنفسه”.

إن أبي بالغ الحساسية، ولا يتحمل موقفاً كهذا تجاه ابنه الذي “يحبه كثيراً”. خرجتُ سريعاً من البيت، وتوجهتُ نحو الحديقة. سررتُ كثيراً عندما لمحتُ والدي جالساً على مقعد في الحديقة. رحتُ أتجول فرِحةً في الحديقة لبرهة، ثم تأبّطتُ ذراعَه وعُدنا إلى المنزل. قبَّلَ أبي أخي وسامحَه، واعتذر أخي من أبي، وتبدّل الجو فجأةً، طِرتُ فرحاً، فشمّرتُ عن ساعديّ، وغسلتُ قميص أخي. وما عدتُ أترك أي شيء وسِخاً على الإطلاق. فالشجارُ في المنزل هو جُلُّ ما أخافه، وأراه أمراً مروّعاً. كانت أمي تتشاجر مراراً مع أخي الأكبر، بل وتضربه. أجل. كانت تضرب هذا الابن الضخم الجثة. فيتقدم أخي نحوها قائلاً: “حسناً! اضربيني إذا كان هذا يُريحك!”.

فهو يحاول عدم استفزاز أمي عندما تكون حانقة. لكنه كان يدفعها في بعض الأحايين، فلا تنسى أمي ذلك، وتظل لأشهر عديدة تسرد كيف تمرَّدَ ابنها عليها. كانت أغلب تلك الشجارات بسبب المال. لذا، قال أخي ذات مرة: “وعدٌ عليّ عندما أصبح صاحب مهنة، أن أحوِّل أول راتب لي إلى نقودٍ من فئة الخمس أو العشر ليرات، لأرشّها على أمي، ولتَسبَح هي بين النقود”.

إن اهتمامَه الزائد بالمال كان يضرّ بعلاقاته. لذا، كنتُ أنفر من المال. ومع ذلك، فغالباً ما كان أبي يكلفني بأمور الشراء، لثقته المطلقة بي فيما يتعلق بالمال. ونظراً لأن أخي ينفق كل مصروفنا قبل حلول منتصف الشهر، حتى في ألمانيا أيضاً، فإن أبي كان يُسلّمني صندوق المال، ويتركُ راتبه في عهدتي قائلاً: “خذيه وافعلي به ما تشائين. ولكن، لا تفعلي مثل حيدر!”.

وأقومُ أنا بإرسال المال إلى العائلة في ديرسم، والذي يصل عموماً إلى 300 مارك، ونادراً ما يبلغ 500 مارك، وذلك في حال ازدياد عدد الأولاد، أو عندما يعمل أبي مناوباتٍ إضافية. ثم أعطي مصروفاً معيناً لأبي وأخي، وأشتري الاحتياجات الأسبوعية، وأحاول ادّخار بعض النقود في الحصّالة أيضاً. وغالباً ما نفعَتنا مقاربتي الحذرة في صرف المال. لكن زوّارنا كثُر. فلكلٍّ منا أصدقاؤه. وبعضهم يزورنا مِراراً بالإفادة من تواجدنا الدائم، أنا وأخي، في المنزل. إذ نادراً ما نذهب للتنزه. وهباءً كان أملنا في أن يفهمَنا الآخَرون في هذا الشأن. كانت عائلة “غون غور”، التي من مدينة “ناظمية”، هي أكثر مَن يزورنا. وهي عائلة معروفة ببُخلها. لذا، نادراً ما يبقى أفرادها في منزلهم. كان لديهم أخ متزوج من امرأة ألمانية، بالإضافة إلى طفلَين آخرَين.

أصبحتُ في رأس السنة الجديدة في الخامسةَ عشر من عمري. وقد سجَّلنا أبي، أنا وأخي الأكبر، لتعلُّم اللغة. كانت الألمانية هي لغتي الأجنبية في المرحلة الإعدادية، بينما الإنجليزية هي لغة أخي الأجنبية. لذا، كان أمره أصعب نسبةً إليّ، إلا إنه يتعلم في الحياة اليومية. إذ له أصدقاء ألمان، ويذهب مراراً إلى برلين في ألمانيا الشرقية. أما أصدقاؤنا في المدرسة، فهم من مختلف المدن: من إستنبول وتشاناكاله وقيصري وسيواس وديرسم. كنتُ أصغرهم سنّاً. كان أخي يجذب الأنظار، ما جعل الفتيات يهتممن بي بسببه. إذ ظنّت البعض منهن في البداية أنني صاحبتُه، فنَبَذنني. ولكن عندما علِمن أنني أخته، بدأن يهتممن بي.

كان بعضُ أصدقاء أخي من اليساريين والثوريين يهتمون بي بالأكثر لدى زيارتهم لنا. ويستقطبني حديثهم عن الاشتراكية وعن ظواهر الطبقة الساحقة والطبقة المسحوقة. كانوا يُعَلّمونني الأناشيد الوطنية. وأول نشيد وطني تعلمتُه هو:

“نحن اشتراكيون أيها الدرك

نحن فقط أصدقاء لك

خلاصك سيكون بنا

فمُدّ يدك لنا”

مَن علَّمَني هذا المارش هو شابٌّ من ألازغ، أكبر قليلاً من أخي الأكبر، ويقول أنه من “الحزب الشيوعي التركي”. كان أخي يزور الجمعيات هناك أيضاً.

سمعنا أصوات شعارات تتردَّد ذات مساء في الحي الذي نسكن فيه. كنتُ آتيةً لتوّي من التسوق وبَيديّ الأكياس. رغبتُ معرفةَ ما يجري، فتركتُ ابنةَ الجيران وركضتُ متحمسةً وأنا أقول في قرارة نفسي: “لا بد أنهم الثوريون”. لم يخطر ببالي شيء آخر. ولدى اقترابي من الحشد، سمعتُهم ينشدون المارش الفاشي “يهتاج البحر الأسود من رؤية العلم التركي”. تأثرتُ وغضبتُ جداً.

كان أحد المتقدمين يحمل مُلصَقَ الذئب في يده، بينما الجميع يحملون ملصقات عليها رمزُ فم الذئب، ويَصنعون من أجسادهم أشكالاً ترمز إلى وقفة الذئب. ندمتُ كثيراً على حماسي وركضي، فدمدمتُ بصوتٍ خافت “أيها السفلة!”، ورجعت. لدى عودتي إلى المنزل، حدّثتُ أبي عن مسيرةِ “التوركيشيين”. فذكَرَ لي أن لهم جمعية في ألمانيا، وأن الدولة التركية تدعمهم.

كنا نتلقى بعض الأنباء في الرسائل القادمة من ديرسم، مع أنها لم تَكُن بلغةٍ فصيحة علنية. أما صحيفتا “حرييت” و”يني عصر” اللتان كنا نقتنيهما بين الحين والآخر، فكانتا تَكتبان عن اشتباكاتٍ في قرية “فارتينيك” التابعة لإحدى محافظات ديرسم، وعن وجود قتلى وأسرى. فطلاب المدرسة الثانوية ومدرسة المعلمين الداخليتين هناك هم من الفاشيين عموماً، وقد أتوا إلى هناك من مدن شتى مثل أرزروم وألازع. كانت تلك المدارس أيضاً تشهد الشجارات والنزاعات. فيقول أبي قاصداً أخي: “جميلٌ أن ابني بجانبي”. فحسبَ قناعته، فأولاده الآخرون ما يزالون صغاراً، ولا يمكن أن يختلطوا بهكذا أحداث.

وتضاعفَ فضولنا في الغربة لسماع أخبار ديرسم، واستصعبنا الرد على تساؤلاتنا بشأنها. إذ قلّما تنعكس الأنباء على الرسائل. والشباب في ديرسم متحمسون وعنفوانيون، لدرجة أن اسم “تونجلي” بذاته كان يُذَكّر بالتقدمية والثورية. إذ يكفي أن تَقول: “أنا من تونجلي”، لتَسودَ القناعة بإمكانية “الحظي بك”. وهذا ما طَوَّر التيار اليساري والثوري لدينا بطبيعة الحال. فعلينا أن نَكون يساريين وثوريين حتماً، ولا يمكننا بأي شكل آخر أن نَكون من تونجلي.

علِمنا من أحد أصدقاء أخي أن إحدى الجمعيات في برلين ستنظّم أمسية فنية. ذهبنا ثلاثتنا: أنا وأخي وأبي. كانت القاعة تعجّ بالحضور، بينهم أجانب وغرباء. وقد زاد الفضول والاهتمام بالأمسية، بسبب حضور شخصيات ألمانية ومن الشعوب الأخرى. كان أخي ينهض من مكانه بين الحين والآخر، ليذهب إلى عند أصدقائه، الذين يتجولون في القاعة أو يقفون عند الباب للاستقبال. وهذا ما جعلني أغتبطُ مقتنعةً في قرارة نفسي أن “أخي أيضاً منخرط سراً في هكذا أعمال، وهو يخفي ذلك عنا”.

شهدنا في الأمسية عرضاً مسرحياً: شابٌ مقيَّد بالسلاسل، ويئنّ مضرَّجاً بالدماء نتيجة الضرب المُبرح والركل المتواصل على يد جنود أتراك. تأثرتُ في الصميم، فرأيتُني أنهض على حين غرّة وأصرخ:

“اضربوا ما حَلا لكم… فأنا لا أموت بسهولة…

جمرتي مُتّقدة في الموقد

وكلمتي ملتهبة في حلقي

لمَن يفقه الأحوال!”[1]

التفتَ الجميعُ إليّ مذهولين ومعتقدين أن تلك الأبيات الشعريّة هي جزء من العرض المسرحي. حتى أبي وأخي التفَتا إليّ مصدومَين، وحاولا فهمَ ما يجري والبسمةُ تعتَلي وجهَيهما. داعبَ أبي شعري وربَّتَ على رأسي وكتفي، ثم مازحَني قائلاً: “هل شربتِ شيئاً أَثمَلَكِ دون عِلمنا؟” جاء بعض أصدقاء أخي في الاستراحة ليُبارِكوا ردةَ فعلي، فأعطَوني عنوان جمعيتهم، وأكدوا عليّ ضرورة زيارتهم. لكني لم أستسغ مقاربتهم تلك، والتي هي أَشبَهَ بمَن “ينتهز الفرصة للاستحواذ على شيء ما”. إنها مقاربة ساذجة ومنفعية.

كنتُ غريبةً عن جوهر الروح الثورية، وعن أبعادها الفكرية والنظرية، وعن آلياتها التنظيمية والعملية. إذ تأثرتُ ببعض الحقائق العامة، مع افتقاري للوعي والمعرفة بها. كنتُ أقول: “لن أصبح ثورية، ولن أنخرط في أي مجموعةٍ بناءً على الطلب، ودون قناعةٍ ذاتية”. لم تَصدرْ مقاربتي هذه عن وعيٍ أو خطة مدروسة، لكنها كانت ميولاً بارزة لديّ منذ البداية. وهذا ما زادَ من ثقتي بنفسي.

تميَّز الوسط العائلي والمحيط وحياتنا الاجتماعية بالانفتاح على هكذا انفراجات، ما شكَّل أرضية خصبة لها. إذ ثمة ارتباط عائليّ وطيد ونظام أُسَرّي واضح من جهة، وهناك رَصدٌ لخصوصيةِ كل شخصٍ من جهة أخرى. ولشخصيةِ أبي المتميزةِ بالديمقراطية الفظةِ وبالإنسانية المخملية دورٌ كبير في ذلك. وبإضافةِ امتيازِ أخي الأكبر بكونِه الابنَ البِكر للعائلة، فإنه يغدو مستقلاً في قراراته وإقامة العلاقات مع محيطه. لم أُعانِ من التمييز الفظّ أو القمع أو الحظر بسبب كوني أنثى. فعلى النقيض من أمي، كان أبي يُبرِزُني إلى المقدمة، ويُعَبِّرُ عن محبته لي، ويُقدّرني. كنتُ أشعرُ بذلك في الصميم.

على الرغم من التسهيلات التي توفرها حياةُ أوروبا، إلا إن العيش هناك لم يجذبني. فالمدن هناك عملاقة، والأبنية ضخمة، والشعب مختلف كل الاختلاف. كنتُ أستغرب بعضَ الأمور بدايةً. فمثلاً، لَمّا خرجنا تواً من المطار، ووقفنا ننتظر في المحطة، رأيتُ بعض أزواج العاشقين يُقَبّلون بعضهم بعضاً، فطأطأتُ رأسي خجلاً، سيما وأن أبي وأخي يقفان بجانبي. كما كان هناك مطعمٌ خاص بالكلاب، على الطريق المتجهة نحو متجَر البقّال التركي. فكلما قصدتُ ذاك البقّال، كنتُ أراقب بحنقٍ واغتياظٍ أولئك العجائز من الرجال ومن النساء ذوات الشفاه المَطلية بالأحمر الفاقع، مُعتَمِرين جميعُهم قبّعات الفرو، لابسين المعاطف الثمينة، حاملين المِظلاّت، ومصطحبين كلابَهم إلى المطعم. جميل أن يكون هناك دُورٌ خاصة برعاية العَجَزة. لكن، لا أحد عندنا في ديرسم يرغب أن يَشيخ. بل يظل يتوسل من “بابا دوزجون” أن يمدّه بشبرٍ مباركٍ من التراب، قبل أن ينهار جسده أو يحتاج أحداً.

كنتُ على عتبة سن المراهقة، فأتصرف حسب معاييري، ولا أُحاكي أحداً. بل غالباً ما أحب مخالفةَ الآخرين، وأميل إلى فعلِ ما أنا مقتنعةٌ به وما هو مختلف، على الرغم من مسايرة الآخرين ومراعاة أذواقهم وميولهم. فلم أحبذ المكياج، ولا الألبسة غير المحتشمة. لكنني استخدمتُ أحياناً باروكة شَعرٍ مستعارٍ منسدل، لأنني لم أحبّ بأيةِ حالٍ من الأحوال شعري المجعد. لم يَعرِفني أبي عندما رآني بشَعري المستعار لأول مرة، فسألَني: “أهلاً بك يا بنيّتي، لكن، أين هي سكينة؟”. وعندما انتبَه إليّ وعرفني، ضحكنا كثيراً. كان أبي وأخي والكثيرون من أصدقائي مُعجَبين بشعري الأجعد، ويؤكدون على جمالِ طبيعته. لكني استخدمتُ الشَّعر المستعار، بل وذهبت به حتى إلى ديرسم.

[1]  أبياتٌ من قصيدة “33 رصاصة” للشاعر الشهير “أحمد عارف”، والذي أعلَنَته السلطات التركية إثر ذلك عدواً لها، فطاردَته واختطفَته وقتَلَته ونكّلَت بجثته.

 

ترجمة: بشرى علي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى