تقارير وتحليلات

خاص|| “هُم” حفنة من أناسٍ يثيرون الفضول!.. من مذكرات سكينة جانسيز (الحلقة العشرون)

 

وكأني وجدتُ ما أبحث عنه. لعلي نسيتُ بعض التواريخ والتفاصيل حتى في تلك اللحظة. لكن بعض التشخيصات ماتزال عالقة في خاطري وتتكرر في ذاكرتي: “كردستان مستعمَرة” و”سيخوض الشعب الكردي نضاله التحرري الوطني انطلاقاً من قواه الذاتية واعتماداً على قيادته وتنظيمه الذاتيَّين”، و”ستتأسس كردستانٌ مستقلة وموحدة وديمقراطية، وستنعم بالحرية والرفاه”. أجل، سيقدم الشعب الكردي فلذات أكباده للدفاع عن قضيته هذه. لم يستخدم أحدٌ ما حتى ذاك اليوم هكذا مفردات: “فلذات الكبد، القوة الذاتية، التنظيم الذاتي”.
لقد حاول الضيف شرح مضمون الروح الوطنية والأممية بقوله: “أبناء الشعب التركي ليسوا أعداءنا، بل إنهم أشقاؤنا وأصدقاؤنا. وسنخوض النضال معاً. لكننا سننظم صفوفنا بما يتناسب وظروفنا الخاصة بنا. فعلى سبيل المثال، لا يمكن اتّباع المعالجة نفسها إزاء شخصَين يعاني أولُهما من أمراض المعدة ويعاني الثاني من مرض القلب. ينبغي اتّباع أساليب مختلفة”.
كما تطرق الضيفُ أثناء شرحه لتاريخ كردستان إلى “ليلى قاسم” وإلى بطولة “بسه” في انتفاضات ديرسم عام 1938، مؤكداً أن الثورية ليست حكراً على الرجل، وأن النضال التحرري الوطني سيتكلل بالنصر بتكاتف المرأة والرجل على السواء. وشدد إثر ذلك على أن المرأة أيضاً تعرّضت للاضطهاد والإهانة، وأنها –بالتالي- بحاجة إلى الثورة أكثر من غيرها. كان يركز على ذلك محدّقاً فيّ بالأغلب.
وكأنّ كل ما سُرِد في ليلة واحدةٍ قد قيل في غمضة عين. أصغينا جميعاً بكل دقة، ولم نشعر أن الوقت تأخر، وأن الليل انتصف، إلا عندما قال: “يكفي هذا الآن”! لقد انقلَبَت مشاعرنا رأساً على عقب. إذ شعرنا بالخجل في الصميم، لجهلنا حتى ذاك اليوم معنى أن نكون كُرداً وكردستانيين. لكننا سُعِدنا كثيراً بمعرفتنا هويتَنا الوجودية. إننا كُردٌ، وعلينا أن نخوض النضال لأجل وطننا وشعبنا، وأن نحدد المسار النضالي المشترك لمؤازرة كل الشعوب المضطهَدة. إنها مشاعر نبيلة وجميلة للغاية. لقد شعرنا بالغبطة، وأكدنا لبعضنا البعض على أنه “حسناً فعلنا أننا لم نتأثر بأفكارِ التيارات الأخرى”.
لكن، ظلت بعض الأمور مبهمة في أذهاننا. فمثلاً، باسمِ مَن كان يتحدث؟ ما اسمُ حركته أو تياره؟ ما الذي سنقوله لأنفسنا في هذا الصدد؟ بَيدَ أنه قال: “سيتكفل ثوارُ كردستان النضالَ لأجل هذه الدعوى”. فهل للاسم أهمية بعد ذلك؟ تذكّرنا ذلك بعد رحيل الضيف. لكن الأهم هو تحليلاته التي يُمكننا نَسْبُها إلى ذواتنا أثناء نقاشنا مع الآخرين. سعَينا إلى تكرارِ أحاديثه بالقدر الذي استوعبناه، مفَسِّرين الأمر فيما بيننا كالآتي: “لعله لم يَذكر الاسم لأجل السرية”. فاعتمَدنا ذلك أساساً. كان علينا البدء بالبحث الشامل في النضالات التحررية الوطنية لأجل خوض نضالٍ فكري وأيديولوجي متين، ولفهم الماركسية واللينينية بأفضل صورة. ذلك أن الممارسة الثورية تعني التعلم والفهم والمعرفة.
بدأتُ أجادل بحرارةٍ بارزةٍ أصدقائي في الصفّ والحي حول كل جديدٍ تعلمتُه. وكانت “توركان” و”آيتان” و”فيدان” أولَ مَن جادلتُهم. لكني عجزتُ عن إقناعهنّ. لذا، دعوتهنّ إلى منزلي، على أمل أن يتحسن الوضع. ثم استدعيتُ “هؤلاء” و”ولي” للمجيء. فحصل جدال حار وسجال طويل. بانَت المرونة في تَقَبُّل الفتيات للأفكار، على عكس مواقفهنّ وتشبثهنّ بآرائهنّ وهجومهنّ الضاري عليّ أثناء نقاشي معهنّ. لقد كنّ أكثر اطّلاعاً على السياق النظري، بل ولجأن إلى الديماغوجية أيضاً. كانت فرصة النقاش أوفر في مدرسة المعلمين، ما كان يصقل شخصياتهنّ ويحثهنّ على البحث. هذا عدا عن غياب الضغوط وزيادة حرية التحرك في أجواء منازلهن. آلَ المطاف بهنّ قبل الذهاب إلى تأكيدهنّ على البحث في بعض المواضيع، وعلى ضرورة تَركِ المجال لهنّ للتعمق في الأمر قبل خوض نقاش آخر.
كانت فيدان أكثر تحفظاً من توركان وآيتان، اللتين أكدتا على ضرورة النقاش مجدداً بعد أن تبحثا في بعض المواضيع المثيرة والجديدة بالنسبة إليهما. إنه أمر إيجابي يدل على أننا كسبنا شخصَين. فكل نقاش أو جدال إنما يترك أثراً في النفس. ذلك أن هذه الآراء سديدة، ومَن يتطلع إلى ممارسة العمل الثوري حقاً، سوف يلتقي بهذه الأفكار من دون بد. هذا ليس مجرد أمنية أو مطلب عاطفي. بل إننا نؤمن بذلك انطلاقاً من ذواتنا التي تأثرت بهذه الحقائق في الصميم.
بدأ للتو نقلُ وشرح الأفكار الأيديولوجية. ولكن يكاد لم يَبقَ أحد لم يسمع بها. إذ راجَت توصيفاتٌ مفادها أن “الكُردَويين القومويين” قد ظهروا للميدان. وبدأت المجموعات الأخرى تستهزئ بنا. لكن الفضول بالتعرف على أولئك “الكُردَويين” أصاب الجميع، لدرجة أن السؤال عن اسم تنظيم هؤلاء احتلّ أولويات كل نقاش. فما يتم سرده مختلف تماماً عن المقاربات المألوفة لدى المجموعات اليسارية الموجودة. فهذا التيار ثوري مناقض كلياً لنمط البروباغندة الدوغمائية التي تكتفي بذكر الحقائق العامة، أو التي تعتمد على الشهرة انطلاقاً من اسم التنظيم أو اسم جريدته، أو التي تستند إلى علاقات الخُلّة والمصاحَبة.
والمدافعون عن هذه الأيديولوجيا ليسوا أشخاصاً عشوائيين. بل إنهم “حفنة” من أناس مؤثرين ومثيرين للفضول بكل معنى الكلمة. وقد أصبحوا محط جذبٍ بمقارباتهم العامرة بالعزيمة والثقة والرُّشد والصدق، وبأحاديثهم الرامزة إلى الثبات والجزم. وعلى الرغم من انحياز الشبيبة بنحو ملحوظ إلى هذا التيار، إلا إننا ما نزال في بداية المشوار، وما يفتأ مستوى التأثر بالعمق النظري ضحلاً. مع ذلك، تجلّى تنظيم صفوف الشبيبة بنحو بارز، حصيلة ردود الفعل الجامعة ضد النظام القائم، ونتيجة التعلق بالشجعان دنيز وماهر وإبراهيم كايباكايا وكل الشهداء الذين قضوا في سبيل الحرية، ونتيجة انتشار موجة التأثر بالأفكار اليسارية، ليس في العالم فحسب، بل وفي تركيا وكردستان أيضاً. لقد أضحت ديرسم بصورة خاصة أَقرب ما تَكون إلى مركزٍ لتَسابُق التيارات اليسارية على كسب ولاء الشبيبة.
لكنّ مدرسة المعلمين لفتت الأنظار بالأكثر. فعندما حصلت بعض النشاطات المناهِضة للفاشيين في تلك المدرسة، واتُّخِذت المواقف الصارمة ضد المقاربات الاستفزازية والعدائية التي سلكها أعضاء “حزب التحرير الشعبي” هناك، قامت بعض المجموعات اليسارية بالدعاية المضادة لاستفزاز الشعب، بعد تزويرها مضمون تلك الأحداث. فروَّجَت للإشاعات التي مفادها: “إنهم مجموعة صعاليك أتوا من أورفا ليَخلقوا المشاكل في تونجلي. إنهم ليسوا يساريين ولا ثواراً! بل توركيشيون ولكنهم يدّعون الهويةَ الكُردَوية! وفي الحقيقة، ينبغي طرد هؤلاء من مدرسة المعلمين”. كان إداريو تلك المجموعات من مُعلّمي تلك المدارس تحديداً. بالتالي، حاولوا التأثير على مناصريهم والموالين لهم، سعياً منهم إلى عرقلةِ أو سد الطريق أمام البحث عن أي بديلٍ جديد. إلا إن دعاياتهم المضادة ومقارباتهم التعتيمية والتزويرية أسفرَت في واقع الحال عن حالةٍ معاكسة لدى كثيرين، وذلك بإثارة فضولهم ومضاعفة اهتمامهم بـ”ثوار كردستان”.
كانت الغَلَبة الكمية في المدارس الثانوية لصالح مجموعات اليسار التركي. وغالباً ما ينتهي الجدال المحتدم معهم بالتشاجر والعراك. كنتُ وحيدةً في ميولي السياسية ضمن شعبتي، بالإضافة إلى “زلفو” الذي يميل إلى أفكارنا. إلا إنه، وانطلاقاً من علاقةِ أخيه الأكبر “كامير أوزكان” مع مجموعتنا، فغالباً ما طغى الشجار والقطعيّة على نقاشاته مع الآخرين، بدلاً من التوضيح الحماسي أو الشرح النظري. كانت سجالاتنا مع الآخرين تحتدّ في أوقات الاستراحة. إذ اعتمدتُ أساساً على بعض التشخيصات التي أعرفها في خوض نقاشات عنيدة حتى النهاية. ولم أتحمل اتهامَنا بـ”العصبية القومية”، فردّيتُ بالمِثل متّهِمةً كل مَن يَنعتُنا بذلك أنه “ناكر للقومية، تائه منصهر، ويخجل من هويته الكردية”.
ينتمي معلّمنا عبدالله، الذي يناصر جماعة “المراكز الثقافية لثوار الشرق”، إلى مدينة موش. كانت نقاشاتنا معه إيجابية أكثر، إذ تَشاطَرنا الرؤيةَ بشأن الهوية الكردية والكردستانية. ومع ذلك، فإنه لم يرغب الغوص في النقاش معي، نظراً لأنه معلم. إلا إنه اغتبط في الصميم لاعتزازي بالهوية الكردية، فازداد اهتمامه بي. عادةً ما كانت النقاشات تدور في كل الدروس. لكنها كانت تَحتدّ أكثر في بعضها على وجه الخصوص، مما دفع بعض المعلمين إلى الحضور فيها.
فضلاً عن ذلك، كان معلمّ الفيزياء يستشيط غضباً بسبب عدم استيعابه ردود أفعالنا على تلقّي الدروس في المختبرات، فيُعَقّب قائلاً: “إنكم تفهمون العمل الثوري خطأً. فالفيزياء درس علمي، ولكنكم لا تستفيدون منه، وتخدعون أنفسكم حينما تزعمون أنكم ترفضون التعليم البورجوازي. إذ ثمة إمكانية لعمل الكثير من التجارب. بل وتُفَوِّتون على أنفسكم فرصة تَعَلُّم صنع العديد من المتفجرات نظرياً وعملياً. إلا إن كل ذلك سيصبح بالغ الضرورة لكم لاحقاً”. وجَدنا أنه مُحِقٌّ في هذا الشأن. بل ودخلنا المختبر أحياناً حينما تَكُون هناك تجارب. لكنّ عدم اللامبالاة طغَت علينا رغم ذلك.
لم يَعُد هناك وضعٌ يُعيق النشاط في المنزل. فإنّ وجود أمورٍ تُقارِب بيننا وبين “هؤلاء” أثناء النقاشات، أدى إلى التقائنا بهم في المنازل الأخرى، ودفَعنا إلى حضور اجتماعاتٍ مُصَغّرة. لكنّ منزلنا عُدَّ أفضلَ مكان في هذا الخصوص. إذ قد تظهر المشاكل من ذهابنا إلى منازل أخرى. بدأ عدد الوافدين إلى منزلنا يتضاعف: توركان، آيتان، نورحياة، قيمت، وجميلة، وكابرة ميركيت… وتَحَوّلنا بعد فترة إلى مجموعةٍ باشرت بالأنشطة التدريبية. وأصبحنا نجتمع بضعَ ساعاتٍ لمرةٍ أو مرتَين في الأسبوع. وقد جرى كل ذلك بنحو مخطط وممنهج. إلا إن تلقّي التدريب في منزل مختلف كل مرة كان أكثر أماناً. وهذا ما فعلناه. تضمّنَت تدريباتنا قراءةَ الكتب الكلاسيكية مثل “المبادئ الأساسية للفلسفة” و”الجدلية والمادية التاريخية” و”تاريخ المجتمعات”، ثم النقاش حولها.
تعرَّفَت ديرسم لأول مرة على أبنائها من “ثوار كردستان” في 12 آذار 1975. فلأول مرةٍ التقينا جميعاً: كوادر المجموعة وأنصارها والموالون لها، في مسيرةٍ بدأت من أمام المدرسة الثانوية، مروراً بدار الحكومة فالحيّ السفلي، متجهةً نحو الجسر المؤدي إلى مدرسة المعلمين. استنفر جميع عناصر الشرطة والجنود، وكأن كل ديرسم انتفضت في ذاك اليوم. كانت بدايةُ الموكب موجودةً على الجسر، ومؤخرته في الشارع الذي يمر أسفل دار الحكومة. كانت مسيرة حاشدة تهدف إلى الاحتجاج على الانقلاب العسكري الفاشي الذي حصل في 12 آذار 1971. وأصبحت جملةُ “يسقط 12 آذار!” شعاراً مشتركاً يدوّي بكل تناغم وبكل حنقة ونفور.
فضلاً عن ذلك، ولأولِ مرة، أَطلَقَت مجموعةٌ من الرفاق شعار “الحرية للكُرد ji Kurdan re azadî”، مُلوِّحين بكُوفيّاتهم أثناء ذلك. لكنّ كثيرين منهم ربطوا رؤوسهم بالمناديل. كان أغلب هؤلاء الرفاق من أورفا. كنتُ رأيتُ لأول مرة عند الفلسطينيين أن المنديل يدل على المقاومة والانتفاضة. إذ شاهدتُ في التلفاز والجرائد كيف استخدموا مناديل الرأس قناعاً لإخفاء وجوههم في عملية اختطاف الطائرة. علاوةً على أنه رمزٌ بالنسبة لهم. صرخَ هؤلاء الرفاق بصوتٍ جهور ومُدَوٍّ وعازم للغاية شعارَ: “الحرية للكُرد”.
نحن أيضاً ردّدنا هذا الشعار الذي حسمَ مكاننا تدريجياً ضمن الموكب. كما استطعنا تمييزَ المناصرين لنا من خلال الشعارات. كانت “جميلة ميركيت” بجانبي وتُردِّد الشعار ذاته. لكن مجموعةً من طلاب مدرسة المعلمين على وجه الخصوص ردَّت على شعاراتنا بشعارات مُدَوّية ذات مضامين شوفينية. لن أنسى أبداً كيف ردّت عليّ إحدى الفتيات من أنصار “الحركة الفكرية البروليتارية الثورية” بالدنوّ مني لدرجةِ التصاق فمها بأذني، وبإطلاق شعار “يسقط القومويون!” بصوتٍ صاخبٍ كاد يمزق غشاء الطبل، وتسبَّبَ بالطنين في أذنيّ لمدة. لكني صرختُ رداً عليها: “أيها المتملقون! أيها الناكرون للقومية! إنكم تهجمون بلا حياء!”، وعُدتُ أردد الشعار الأساسي “الحرية للكُرد”. ولولا وجود عناصر الشرطة حولنا، لَهَوَت قبضةُ يدي على وجهها في تلك اللحظة.
كان هذا النمط من المواقف الشوفينية الاجتماعية يحزّ في نفسي كثيراً. فمِن أين لهم كل هذا الإنكار والتبرؤ من الهوية الذاتية؟ مع ذلك، اكتفيتُ بأنْ قلتُ لها: “لن أنسى لكِ هذا”، دون أن يَصدر مني أي سوء، تقديراً مني لهذا النشاط المشترك الذي يجمعنا. والأنكى أن أمثال هؤلاء لا يعلمون حتى مَن وماذا يمثّلون. لم أستوعب إطلاقاً سببَ كل هذا الحقد والنفور اللذين كانا يختلجانها.
كلما أُطلِقَت الشعارات، كلما اتّضَح الوضعُ الكمّي لكل مجموعة بنحو أفضل. كنا بجانب رفاقنا. لكنّ بعضاً منهم انتشر بين الآخرين. ولعلهم فعلوا ذلك عمداً. ذلك أن المسيرة ليست كل شيء، وينبغي ألاّ ينكشف أمر الجميع. أما الناكرون للقومية من امتدادات المجموعات اليسارية التركية، وعلى النقيض من ذلك، أَولَوا الأهمية الكبرى لضخامة العدد، وصَبّوا جُلّ طاقاتهم في المسيرات والمظاهرات. لذا، كلما كانت حشودهم غفيرة، كلما عَدّوا أنفسهم أقوياء وأصحاب حق.
كانت مخططاً أن تنتهي التظاهرة أمام مبنى مدرسة المعلمين. إذ، وبعد الوقوف دقيقة صمت، تم إيضاح أهمية هذا اليوم. وقد تمكَّن أحمد من إلقاء كلمة قصيرة باسمنا باللغة الكردية. انفضّت المجموعات وانتشرت، وذهبنا نحن إلى دار التلاميذ دون أن نلفتَ الأنظار.
كان “مظلوم دوغان” موجوداً هناك. لأول مرة أراه فيها عن قُرب. إذ لَم أَرَه أبداً في ذاك المنزل الموجود في “حي الجبل”. تمكَّنّا من النقاش قليلاً بعد التعارف. ولمعرفة الأجوبة الصحيحة، طرحتُ عليه بعض الأسئلة، لاسيما حول البنية شبه الإقطاعية في كردستان، وحول مصطلح التعديلية المعاصرة، وحول فحوى شعار “الحرية للكُرد”. فرَدَّ عليّ: “إن إطلاق هذا الشعار ليس خطأ، لكنه يتّسم بالقوموية الضيقة. إذ لا تكفي المناداة بالحرية للكُرد فحسب! بل ينبغي احتواء كل الشعوب القاطنة في كردستان!”.
بدَّد هذا التوضيحُ الغموضَ الذي انتابني فيما يتعلق بالجدل حول شعارنا. كما إن سماعَ شعاراتٍ أخرى من قبيل: “لا لأمريكا ولا لروسيا!” و”الإمبريالية السوفييتية الاجتماعية!” دفعَنا لمعرفة رأي “مجموعتنا” بشأن السوفييتات. إذ أشار الرفيق مظلوم إلى أنه “بإمكاننا نعت النظام السوفييتي بالتعديلية المعاصرة”، معزِّزاً رأيَه ذاك بالعديد من الأحداث الجارية هناك. لقد حَمَّسَنا هذا الفاصلُ الأيديولوجي المنشِّط بعد تلك التظاهرة. ثم استأنَفنا هذه النقاشات فيما بيننا باستفاضةٍ حتى منتصف الليل. كنا تعرَّفنا في ذاك اليوم على العديد من الأصدقاء من مختلف مناطق كردستان، مثل: نورحياة، وأحمد من مدينة أورفا، وجمعة طاق، وسليمان من جنوب كردستان. وقد مدَّتني رؤيةُ هؤلاء الأصدقاء المختلفين مجتمِعين بالمعنويات والعزيمة.

ترجمة: بشرى علي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى