تقارير وتحليلات

خاص|| وكأن العائلة كانت منظَّمةً تماماً منذ البداية.. من مذكرات سكينة جانسيز (الحلقة 25)

تركّزَت علاقاتي بالأكثر مع جميلة وكابرة وسيفيم ونورحياة وتوركان وقيمت. غالباً ما كنتُ ألتقي “قيمت” في أوقات العطلة، نظراً لأنها كانت تُدَرِّس. وكانت عائلتها التي تتقبل وجودنا وفيرةَ البنات: نعمت وماناكشة وبريخان. لذا، كنا نراهم جميعاً في الندوات والاجتماعات. أما منزلهم الفسيح والمتعدد الغرف، فيقع على أعلى قمة في الجزء العُلوي من قرية “آنافاطمة” النائية. لذا، لم يُشكِّل الذهاب مراراً إلى هناك أي خطر. بل إن أمها مثل تلك “الأم” التي في رواية غوركي. وقد أحببناها وعظّمناها كما أمّ “بافل” في تلك الرواية. هي أيضاً كانت ممنونةً من وفرةِ أبنائها وبناتها! وكأن هذه العائلة كانت منظَّمةً بكل شؤونها منذ البداية. فكيف وصلَت هذه العائلة إلى ما هي عليه؟ يالَسعادتهم! تأثرنا بهم كثيراً، فكانت تتبدد كل همومنا الأخرى هناك. فتلك “الأم” كانت تنادينا جميعاً “بُنَيّ” أو “بُنَيّتي” بمحبةٍ جيّاشة، بل وتشارك أحياناً في النقاشات السياسية أيضاً.
لجميعهم تقريباً خصائص مشتركة وجوانب متشابهة. فالكل منفتحون على المعارف النظريةِ ومهتمّون بذلك. كان “علي” لوحده نشازاً عنهم، ويُلَقّب بـ”تشولو”. وقد استغرقَ تَذكُّري لقَبَه ذاك ثلاثة أيام أثناء الكتابة، ربما لأنه لَم يَكُن مهماً بالنسبة لي. لكنه من الضروري بمكانٍ سردُ كل ما يتعلق بهذه العائلة كما هو، لأنها عائلة متميزة تماماً، ويتسم كل فرد من أفرادها بدور خاص. وعليه، ما كان لي أن أصفها من دون التطرق إلى “تشولو”! فأياً يَكُن، لم تَكُن أخواتُه يحبّذن استذكارهنّ بالتوصيف “أخواتُ تشولو”، لأنهن يرَين هذا اللقب استصغاراً وإهانة لهنّ. إنّ “تشولو”، أو لنَقُل “علي”، هو الابن المشاكس الطائش. وطالما وصفَته العائلة بالسيئ والأرعن، بل وتشكّ حتى في أن البوليس يستفيد من رعونته تلك. لذا، لم يثق أحدٌ به. بل ويطغى الكتمان والسرّية في الأوساط التي يتواجد فيها. وعلى الرغم من كل هذه المقاربات، بقيَ “تشولو” لغزاً محيّراً.
أما “الأخت قيمت”، فهي أكثر أفراد أسرتها تميُّزاً وعقلانيةً. وأخوها “موسى” يدرس في أنقرة. وعلى الرغم من أنه أصبح من الرفاق، إلا إن قيمت كانت بارزة الحضورِ أكثر منه، لدرجةِ أن الأسرة باتت تُستَذكَر بها. وغدَت مواقفُها معياراً وكلامُها أساساً في عائلتها. بالتالي، وبناءً على ما انعكس علينا، أَولَينا قيمةً مميزةً لها، وتقبَّلنا مقارباتها بصورة عامة.
الجانب اللافت والبارز في أفراد هذه العائلة، هو فتحُهم منزلَهم إلى هذا الحد الكبير لأجل تسيير نشاطاتنا، على الرغم من أنهم ليسوا أغنياء. فما من عائلة أخرى منفتحة علينا أو تقدم لنا الإمكانيات بهذا المستوى. فكيف لهذه العلاقات الفردية حتى أقصاها فيما بينهم أن تلعب دورها كتنظيم أو كدولةٍ مصغَّرة؟ علاوةً على أنه ما من جاذبيةٍ جماليةٍ عموماً لدى بنات العائلة. بل إن كل واحدةٍ منهنّ تمتلك مظهراً “استرجالياً”.
فـ”قيمت” تتسم ببنية جسدية فظةٍ وببشرة سوداء. شعرها قصير، وحواجبها حادة وغليظة، وتعابير وجهها عصبية وباردة. أما شفتاها، فحالَ لونُهما إلى البنفسجي من كثرةِ التدخين. و”ماناكشة” هي نموذج مصغَّر عنها. أما نعمت وبريخان والأخوات الأخريات، فمتشابهات جسدياً. مع ذلك، فقد تميزن جميعاً بجاذبية مثيرة. فجميعهنّ محنّكات نظرياً، ويتمتّعن بذكاء عالٍ في نقاشاتهن ووعيهن. كما يُجِدن إكرام الضيوف عموماً. لكنّ قيمت بوقفتها كانت بمثابةِ “خاتون” المنزل، أو أقرب ما تَكُون إلى زعيمِ عشيرةٍ أو تنظيمٍ ما. ومن أبرز خصائصها هو إفراطها في تدخين السجائر واحتساء الشاي، وإكثارها من الكلام. حقاً، إن حُكمها نافذ في العائلة التي تسير وفق نظامٍ أسَّسَته هي لها. فرغم راتب التقاعد الذي يتلقاه الأب، إلا إن راتب “قيمت” من التدريس، ومزاولتها السياسة، قد كرّسا نظاماً متمحوراً حولها هي.
أثّرَت ثوريةُ هذا النمط من النساء في محيطهنّ الخارجي أيضاً. إذ تستطيع “قيمت” الذهاب إلى كل الأماكن، وعقد الحوار مع الجميع. فهي معلّمة. وعلى الرغم من ثقافتها “الكمالية” ، إلا إنها اكتسبت خاصية تنظيم الأشخاص. وقد فرضَ مستوى محيطها الاجتماعي الوعيَ السياسي. إذاً، لا يمكن الاستخفاف بالأوساط العائلية والأوساط الأخرى في تشكيل شخصية المرء. فقد أبرزَها وضعُها هذا ضمن مجموعتنا التدريبية أيضاً. ذلك أن وفرةَ “مجموعةٍ تدريبية نسائية جاهزة” في عائلتها، ونشاطها في مجموعتنا، قد جعلاها “شخصية مهمة”. فهِمَّتُها العالية وفاعليتها الدؤوبة، أثَّرَتا للغاية في المجموعة والمحيط على السواء.
من جانب آخر، فإن توركان ونورحياة وآيتان وسيفيم أيضاً كنّ يتطوّرن بنحو ملحوظ. وانطلاقاً من انخراط المرأة في الثورة، كنا نناقش بإسهاب في محاضراتنا حول المرأة الكردية ومكانتها في النضال التحرري الوطني. هذا بالإضافة إلى إعداد مختلف البحوث والمقالات بشكل مشترك مع الرفاق. وبالرغم من تأثير بعض الخصائص الطبقية، إلا إن المقاربات الناقصة أو السطحية أو المتخلفة لم تَعُد من المُسَلَّمات. بل، وانطلاقاً من النقاشات الأيديولوجية المُخاضة منذ البداية، برزَت روح المشاركة الجماعية، وتَحمُّلُ عبء القضية جماعياً، وأداء مهامّها بجهود جماعية مشتركة.
وتتحطم وتتلاشى سريعاً وفجأةً المقارباتُ التقليديةُ من خلال فهم الأيديولوجية قليلاً، والدفاع عنها، وتأييدها بعزم، ومناصرتها، والانتساب إليها. وبدلاً من النقاشات المطولة أو نشاطات الدعاية والتحريض الطويلة المدى، اعتمدنا منذ اللحظة الأولى الانخراطَ في صفوف هذا التيار، والتدفق معه لحظةً بلحظةٍ ويوماً بيومٍ تحت ضغوط الحياة العملية. لاشك أن للوعي دور بارز في ذلك. فالنضال الأيديولوجي يقلب كل شيء رأساً على عقب.
فالوصول إلى الحقائق النظرية والأيديولوجية، والجزم في ذلك، قد اشترطا المطالعةَ وخوض النقاشات من جوانب عدة. إن قبول الحقائق الأساسية والإيمان بصحتها خطوةٌ مهمة للغاية. وما تَبَقّى يأتي تباعاً وطبيعياً. ذلك أنّ النقاشات الداخلية، والاهتمام الكبير بالتدريب وعَدّه نشاطاً رئيسياً، وخوض النقاشات المستفيضة خارجياً مع مختلف المجموعات اليسارية؛ كل ذلك قد سرَّع من وتيرة تطورنا النظري والأيديولوجي. إذ لم تَكُن نقاشاتنا اعتيادية، بل كانت صراعاً ضروساً بكل معنى الكلمة. إذ رحنا نبحث عن وجود الكرد وكردستان بين طيّات الكتب.
كان لا بد لنا من إنهاض ماركس ولينين وأنجلز من قبورهم، لحَثِّهم على إعادة كتابة أفكارهم. أما الآخرون، فكانوا يدفنون عقولهم بصورة دوغمائية بين الأفكار الكلاسيكية، بل ويقَيِّمون ويفسّرون الحقائق العامة أيضاً على هواهم. إلا إن الروح الوطنية، والثورية، والاشتراكية، والأممية كانت أساس كل شيء. لكنهم كانوا يتلاعبون بنحو فظيع بهذه الظواهر، ويحرّفونها بصورة سيئة للغاية، ويبدّلونها ببعضها بعضاً. إن بُعدَهم عن واقع كردستان قد شدّ مستوى نضالهم الأيديولوجي أيضاً إلى الوراء، فانزلقوا بذلك نحو أرضيات سلبية.
ترجمة: بشرى علي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى