تقارير وتحليلات

«علينا مغادرة الشرق الأوسط على الفور».. الأمريكيون يطالبون بإعادة التفكير في عقيدة «الحرب إلى الأبد»

بعد ما يقرب من عقدين من انهيار برجي مركز التجارة العالمي والهجوم على البنتاجون، ما زالت القوات الأمريكية تشن الحروب في العراق وأفغانستان وأماكن أخرى أقل شهرة في جميع أنحاء العالم. وها هو الرئيس ترامب قد افتتح جبهة أخرى الشهر الماضي عندما صدّق على أوامر اغتيال القائد العسكري الأبرز في إيران قاسم سليماني. يقول إدوارد وونغ، الكاتب بصحيفة The New York Times الأمريكية.

«الحرب إلى الأبد»

الأسبوع الماضي، صوّت الديمقراطيون وبعض الجمهوريين في الكونغرس الأمريكي لإلغاء تفويض إجازة الحرب الذي ساعد في تبرير كل أنواع العمليات العسكرية الأمريكية في الخارج. وقد كان ذلك تحدياً ليس فقط لقدرة ترامب على القيام بعمل عسكري ضد إيران، وإنما أيضاً لطريقة التفكير التي انتهجتها واشنطن وأفضت إلى استمرار القتال والحروب منذ هجمات 11 سبتمبر 2001.

لأكثر من 18 عاماً، استُخدم شعار الحرب على الإرهاب، «الحرب إلى الأبد» أو «الحرب التي لا تنتهي» كما يسميها كثيرون، أساساً لمجموعة واسعة من الأعمال العسكرية: غزو العراق الذي، وفقاً لإحدى الإحصائيات، خلّف ما يقرب من 300 ألف قتيل؛ والغارات الجوية في أفغانستان، التي أسفرت في بعض الأحيان عن مقتل عشرات في حفلات زفاف؛ وكذلك هجمات اغتيال قادة تنظيم القاعدة؛ والآن الضربة الجوية بالطائرات بدون طيار والتي أفضت إلى اغتيال سليماني. ويقول ترامب إن الجنرال، الذي سبق أن ساعد في تسليح الميليشيات المعادية لأمريكا في حرب العراق، كان يخطط لشنِّ «هجمات وشيكة وشريرة» جديدة على أهداف أمريكية.

وبعد أسابيع من التصعيد الذي أوشك أن يفضي إلى إشعال الحرب بين الولايات المتحدة وإيران، ما زال كثير من الأمريكيين يرغبون في معرفة ما إذا كان ثمة هجوم قد كان «وشيكاً» بالفعل، وهو السؤال الذي ما انفك يوجه إلى الإدارة الأمريكية.

«علينا المغادرة على الفور»

ويتساءل نقاد عما إذا كان يتعين على الولايات المتحدة أن تستمر في خوض تلك الحروب على الإطلاق، في الوقت الذي يشعل وجود القوات الأمريكية وأفعالها العداوات، علاوةً على أنه يزيد في بعض الأحيان من المخاطر بدلاً من أن يحدَّ منها أو يردع الأعداء.

وقد أبرز الاستمرار المطلق للصراعات وطولها أمام العديد من الأمريكيين سؤالاً أخلاقياً صارخاً: هل أي من هذه الحروب ما يزال مبرراً بالنظر إلى الخسائر النفسية والجسدية والروحية التي تطلَّبتها وفرضتها على الولايات المتحدة وعديد من الدول الأخرى.

لقد جاءت المخاوف من طرفي الطيف السياسي. فقد قال تاكر كارلسون، وهو المذيع المحافظ بقناة Fox News، خلال انتقادات وجهها للإقدام على اغتيال الجنرال سليماني، إن الوضع الذي خلقته حرب العراق كان وضعاً «غير أخلاقي»، وإن «الولايات المتحدة عليها أن تغادر على الفور». أما السيناتور الديمقراطية إليزابيث وارن من ماساتشوستس، فقالت في مناظرة تلفزيونية في يناير/كانون الثاني: «يجب أن نتوقف عن مطالبة جيشنا بحل المشكلات التي لا يمكن حلها عسكرياً».

وقالت فيما يتعلق بالشرق الأوسط: «قواتنا القتالية الباقية هناك لا تساعد في تحسين الأوضاع».

مبررات الحروب التي لا تنتهي

على الجانب الآخر، فإن معظم السياسيين في واشنطن الشهر الماضي بدلاً من مناقشة تبرير الاغتيال بهجمات «وشيكة»، أخذوا يكشفون عن الإجماع المتين والدائم على سياسة خارجية تبرر الحروب. فالفرضية الأساسية لديهم هي أن التدخل العدواني في الخارج ونشر القوات ومكافحة الأعداء المتصورين «هناك» يحافظ على الولايات المتحدة آمنة. وإلى جانب حماية الأمريكيين، كما المفترض، فإن هذه السياسات ضرورية للولايات المتحدة لتنفيذ مهمتها بوصفها درعاً لمواجهة الشر في العالم.

وفي توضيحات صرّحت بها وزارة الخارجية الأمريكية الشهر الماضي حين سئلت عن الأسباب التي دفعت الولايات المتحدة إلى عدم مناقشة أي انسحاب لقواتها من العراق –كما طالب القادة العراقيون الغاضبون من غارات الطائرات بدون طيار على أراضيهم- التفتت الخارجية الأمريكية إلى هذا الأساس المنطقي، قائلة: «أمريكا قوة تعمل من أجل الخير في الشرق الأوسط». وفي خطاب ألقاه مؤخراً حول السياسات الأمريكية تجاه إيران، استحضر بومبيو الاستثنائية الأمريكية، قائلاً: «أمريكا مكان فريد حقاً».

ومع ذلك فإن عدداً أكبر من الأمريكيين بات يعتقد الآن أن المغامرة العسكرية التي خاضتها البلاد بعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول قد أحدثت مخاطر أشد على الشعب الأمريكي.

أقل أماناً

في استطلاع للرأي أجرته صحيفة USA Today الأمريكية بالشراكة مع شركة «إبسوس»، قالت الصحيفة إن 52% من المشاركين ذهبوا إلى أن اغتيال الجنرال سليماني جعل الولايات المتحدة أقل أماناً. وارتفعت عمليات البحث عبر شبكة الإنترنت عن «الحرب العالمية الثالثة» و «التجنيد الإجباري» خلال الأيام التالية للاغتيال. كما تلقى المواطنون الأمريكيون في جميع أنحاء العالم رسائل بريد إلكتروني من سفاراتهم تحذرهم من مخاطر أكبر.

وتقول داليا داسا كاي، خبيرة الشؤون الإيرانية في «مؤسسة راند»: «من المحتمل أن التصعيد لم ينتهِ بما جرى خلال الشهر الماضي، خاصة أننا الآن قد عبرنا الخط الفاصل من الصراع بالوكالة إلى مواجهة مباشرة بين الولايات المتحدة وإيران. نحن الآن في قلب حلقة مفرغة من العنف المتبادل، إذ يفضي التصعيد إلى مزيد من التواجد بالقوة، وفي الوقت نفسه فإن مزيداً من التواجد بالقوة قد ينجم عنه زيادة في التصعيد، وهكذا».

ومن ثمَّ في يناير/كانون الثاني 2020، وبعد أكثر من 16 عاماً من إصدار جورج بوش أوامره بغزو العراق بناءً على معلومات مزيفة، ها هي وزارة الخارجية الأمريكية تجدد نشر تحذيراتها من السفر إلى البلاد خشية التعرض «للأعمال الإرهابية أو الخطف أو الصراعات المسلحة»، وهذا في وقت ما يزال نحو 5200 من القوات الأمريكية موجودين هناك.

كوارث الحروب الأمريكية

كثير من الأمريكيين الذين كانوا في العراق عشية الحرب عليها كان بإمكانهم رؤية تلك النتيجة التي أسفرت عنها الحرب قادمة. فقد أفضى الاحتلال إلى تأجيج التمرد والمقاومة، وأشعل حرباً أهلية في البلاد. حتى إن بعض المؤرخين وخبراء الأمن القومي باتوا الآن يعتبرون غزو العراق أكبر كارثة سياسية أقدمت عليها الولايات المتحدة منذ حرب فيتنام: وذلك بعد أن شهدت الحرب مقتل مئات الآلاف من المدنيين العراقيين وما يقرب من 4500 جندي أمريكي، وما أنفق فيها من تريليونات الدولارات، علاوة على ما أعقبها من زعزعة تامة لبنى الاستقرار في الشرق الأوسط وهو ما أفضى إلى كل من تقوية إيران وميلاد تنظيم القاعدة في العراق، وخليفته تنظيم الدولة الإسلامية (داعش).

قبل عقود مضت، تحولت حرب فيتنام إلى صراع موسع في غمضة عين، لتثير بعد ذلك جدلاً هائلاً عمَّ جميع أركان المجتمع الأمريكي. وفي غمار اشتداد الحرب في أواخر الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، اتخذ القادة الأمريكيون قرارات بقصف لاوس وكمبوديا وتعذيب واغتيال قادة الفيتكونغ الفيتناميين باسم هزيمة الشيوعية. لكن، وبسبب التجنيد الإجباري، ولّدت تلك الحرب نقاشاً أخلاقياً في الولايات المتحدة يغيب عنها اليوم. إذ في خطاب ألقاه عام 1967 عن فالحرب في فيتنام، قال مارتن لوثر كينغ الابن: «إذا تمكّن السم من روح أمريكا، فلا بد أن جزءاً من بقايا تشريح جثتها سينطق قائلاً (فيتنام). وهذه الروح لا يمكن إنقاذها ما دامت الحرب آخذة في تدمير أعمق آمال البشرية جمعاء».

كان من المفترض أن تكون أفغانستان «حرباً من أجل الخير»، لأن أسامة بن لادن وتنظيم القاعدة كان لهم قاعدة هناك، وتحميهم طالبان. ولكن المفارقة هو أنه بعد 18 عاماً من إطاحة الولايات المتحدة بنظام طالبان، فإن أفغانستان ما زال فيها 13 ألف جندي أمريكي يدعمون حكومة أفغانية محاصرة، وذلك بعد مقتل أكثر من 2400 من أعضاء الخدمة الأمريكية، وأكثر من 38 ألف مدني أفغاني، في حرب كلفت الولايات المتحدة ما لا يقل عن تريليوني دولار.

في سبتمبر الماضي، أوقف ترامب محادثات السلام التي كانت جارية مع إيران، مقلّصاً من آمال الانسحاب، رغم أن المفاوضات استُؤنفت بعد ذلك.

وعلى الرغم من إدانته للحروب التي لا تنتهي، فإن سياسات ترامب وأفعاله سارت في الاتجاه المعاكس. فقد أمر الرئيس الأمريكي في ديسمبر/كانون الأول الماضي بإرسال نحو 4500 جندي إلى الشرق الأوسط، وذلك إضافة إلى 50 ألف جندي ينتشرون بالفعل هناك. وخلال العامين الأخيرين، ألقى الجيش الأمريكي قنابل وصواريخ على أفغانستان بوتيرة قياسية.

وفي أبريل/نيسان، استخدم ترامب حق النقض (الفيتو الرئاسي) بحق مشروع قانون من الحزبين الجمهوري والديمقراطي يقضي بإنهاء التدخل العسكري الأمريكي في الحرب الأهلية المدمرة في اليمن.

ولعل الأمر الأبرز هو أن ترامب انسحب في عام 2018 من صفقة احتواء بارزة للقوى النووية مع إيران وأعاد فرض العقوبات عليها، وهو ما أعقبه سلسلة من الأحداث التي أفضت إلى اغتيال الجنرال سليماني والضربات الصاروخية التي انتقمت بها إيران، والتي تسبب في إصابات دماغية مؤلمة لما لا يقل عن 64 من أعضاء الخدمة الأمريكيين.

السياسات الأمريكية تزداد سوءاً

يذهب ستيفن فرتهايم، وهو مؤرخ ومؤسس مشارك في «معهد كوينسي لفن الحكم المسؤول»، الذي يعد أحد المراكز البحثية الجديدة في واشنطن بتمويل من مليارديرات بارزين –منهم جورج سورس الليبرالي، وتشارلز كوخ المحافظ- ويدعم تقييد التدخلات العسكرية الأمريكية في الخارج، إلى أن «السياسات لا تتغير، بل هي على نحوٍ ما، تزداد سوءاً».

إذ على الرغم من كل شيء، فإن بعض الجهات تشهد تراجعاً عن فكرة أن انخفاض عدد القوات يفضي إلى قدر أكبر من الأمن. وبات مؤيدون لسياسة الحرب إلى الأبد يشيرون إلى انسحاب الرئيس باراك أوباما من العراق في عام 2011 باعتباره خطوةً مهدت الطريق أمام صعود تنظيم الدولة الإسلامية في عام 2014.

ومع ذلك، فإن هذه الرؤية تتجاهل مجموعة كاملة من الظروف، ومنها الاتفاق الرسمي بالانسحاب الذي توصل إليه بوش من قبلها مع الحكومة العراقية لأن العراقيين أرادوا خروج الأمريكيين من بلادهم، إضافة إلى دور الحرب الأهلية السورية في قيام تنظيم الدولة الإسلامية، والأهم من ذلك إنها تغض الطرف عن تقلص الإرادة السياسية الداعمة لاستمرار الحرب بين المواطنين الأمريكيين.

يحاول بعض المشرّعين إبطال تفويضات الحرب التي استخدمت في عامي 2001 و2002 –الأولى التي استخدمت لمحاربة الإرهاب المتصل بأحداث 11 سبتمبر/أيلول، والثانية لغزو العراق- كما يبحثون عن طرق أخرى لتقليص قدرة ترامب على إطلاق وتوسيع أعمال الحرب. وفي يناير/كانون الثاني، قال أعضاء في مجلس الشيوخ الذي يتزعمه الجمهوريون والذين يرعون الدفع بتشريعات تحد من الأعمال العسكرية ضد إيران، إن لديهم أصواتاً كافية لتمرير مشروع القانون، «قرار سلطات الحرب» [وهو قانون فيدرالي أمريكي يرمي إلى التحقق من مدى سلطة الرئيس باتخاذ قرار دخول الولايات المتحدة في نزاع مسلح دون موافقة من الكونغرس]. وأقر مجلس النواب الذي يقوده الديمقراطيون إجراءً مماثلاً الشهر الماضي.

يقول فرتهايم: «أعتقد أن اغتيال سليماني والتصعيد مع إيران قد أوضحا حجم المخاطر لبعض الأشخاص الذين لم يكونوا يعيرون اهتماماً كبيراً لتلك الحروب المستمرة وآثارها. وقد كانت الولايات المتحدة على وشك الدخول في حرب كبيرة أخرى في الشرق الأوسط لا تبررها المصالح الأمريكية، وما زالت كذلك».

الهوس بمنطقة الشرق الأوسط

وقد بلغ الأمر أن بدأ بعض المسؤولين الذين كانوا عادةً ما يتبنون سياسات خارجية متشددة، في الدعوة إلى الانسحاب من الشرق الأوسط ومنطقة آسيا الوسطى بسبب ما يسمونه بالتكاليف غير المتكافئة لقيام الولايات المتحدة بمهمتها في العالم.

ويقول إلبريدج كولبي، وهو مسؤول كبير سابق في البنتاغون في إدارة ترامب، إن «أحد الأمراض الغريبة في واشنطن ومؤسسة الدفاع الأمريكية هو ذلك الهوس بمنطقة الشرق الأوسط، رغم أنها ببساطة ليست بتلك الأهمية. فقد أصبحت أمريكا مستقلة وبإمكانها الاعتماد على احتياطيها فيما يتعلق بالطاقة، علاوةً على أننا لا نحقق نجاحاً كبيراً فيما يتعلق ببلوغ النتائج المرجوة لنا في الشرق الأوسط».

كان كولبي هو المؤلف الأساسي في دليل «استراتيجية الدفاع الوطني الأمريكي» لعام 2018، والذي أوصى بأن تحوّل الولايات المتحدة تركيزها العسكري لتتمحور حول «القوى التقليدية العائدة»، والمتمثلة في الصين وروسيا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى