تقارير وتحليلات

كيف اقتحم قصر البشير؟

انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي فيديو يصور مجموعة من المواطنين يقتحمون مبنى على أنه مقر إقامة الرئيس السوداني المقتلع- وفق تعبير البيان الأول للمجلس العسكري الانقلابي- عمر البشير، والعبث بمحتوياته، والتجول في أرجائه، وفقاظً لقناة “أر تي” الروسية.

وتسمع أصوات تندد بساكني البيت الهاربين فيما يهتف أحدهم صارخا” حقنا. حقنا” وينطرح آخر على أحد الأسرة منتشيا، في غرفة متواضعة الأثاث.

مع صعوبة التأكد من صحة الفيديو، وعائدية المبنى إلا أن ما يتم تداوله، لا يتضمن حرقا أو تخريبا أو نهبا، خلافا لما جرى في بلدان أخرى سقطت أنظمتها فنهبت الدهماء المباني والقصور والبنوك والمشافي والبنوك والمصارف وكل ما وقع أمام الأعين الهائجة.

ليس غريبا على الشعب السوداني الطيب الكريم، أن يتصرف بعقلانية، وحكمة في المنعطفات التاريخية فقد قاوم الانتهاكات، والظلم، والعسف بأناة وصبر عجيبين، حتى ظنوه يعيش سباتا عميقا على مدى عقود ضاعت خلالها الثروات في حروب أهلية الى حد الانفصال وذهاب معظم ثروة البلاد النفطية إلى دولة جنوب السودان التي تفشت فيها هي الأخرى آفة الفساد والاقتتال الأهلي ونهب الموازنات وتدني مستويات المعيشة والفقر والفاقة وغياب الحريات.

أتيح لنا مرتين دخول” القصر الرئاسي” السوداني لإجراء مقابلة مع ساكنه الرئيس السابق عمر البشير.

المرة الأولى صيف العام 2014 والثانية خريف العام 2017.

وفِي المرتين لفت نظرنا تواضع المبنى. وأن تسمية “القصر الرئاسي” مجازية قياسا إلى القصور الرئاسية والملكية التي مررنا بها خلال عملنا الصحفي.

المبنى المتواضع محاط بحراسة محدودة، ويمكن لمن يضمر شرا أن يقتحمه  بسهولة. كما “اقتحمناه” نحن فريق “RT” دون تفتيش أو تشديد.

يقول فيودوردوستويفسكي، الكاتب الروسي العظيم، إن البيوت تشبه ساكنيها. ولعل هذه المقولة تنطبق تماما على قصر البشير.

لا يبدو على أثاث المنزل، أو في الأقل صالة الاستقبال، والمرافق الملحقة بها الفخامة والثراء، بل يمكن القول إنها رثة وبألوان غير معتن بها، على العكس من الأناقة المميزة للسودانيين رجالا ونساء باختيار الألوان وتناسقها في الملبس وفِي الحركة الوئيدة المتراخية.

لقد صادف قبل يومين من إجراء المقابلة مع الرئيس البشير، أن حضرنا بالصدفة عرسا سودانيا في أحد البيوت دون معرفة سابقة بأصحاب الحفل. وهذا تقليد في السودان، إذ يمكن لأي عابر سبيل أن يلج البيوت المفتوحة على احتفال أو وليمة أو الإفطار في رمضان.

أدهشنا أن أكثر من مئة شابة وسيدة في العرس، كن يرفلن بألوان زاهية لا تشبه بعضها من الفساتين والأثواب أو “التٌوب” كما ينطقه السودانيون.

التٌوب ملفوفا على الأجساد الرشيقة لا يتكرر لا في الخيوط، ولا في التطريز، وليس متشابها في الرسوم ونوعية القماش.

ويعبق الجو بالعطر السوداني المحضر منزليا والمعد خصيصا لليلة الدخلة؛ خلطة من المسك والصندل والقرنفل والمحلب وغيرها من الروائح اللينة.

إنها فلور دي مور، تنسب إلى “بنت السودان” وفِي العراق يسمونها “أم السودان”.

أما الوشم على الأقدام والأيادي؛ فإن المرأة السودانية تتفنن في نقشه على الكف والكاحل والزند.

زند يشعل الرغبة!

وكأن السودانية تقتدي بأبي العلاء المعري في ديوانه سَقْطُ الزَنْدِ كناية عن عود النار الملهب لخيال الشاعر النبي.

 

في قصر البشير لم نلحظ  مظاهر البذخ. كما أن مساعديه، غاية في البساطة والتواضع ليس بينهم من يرتدي الزي السوداني ويكتفون بملابس أوروبية يلوح عليها القدم.

وكذلك بدلة الرئيس عمر البشير الذي كان يجتمع بزوار في القصر فيما كانت أصوات أطفال ونساء يتسامرن تأتي من الباحة المفتوحة على حديقة ليست كبيرة.

دخل الرئيس إلى الصالة متأخرا بحوالي الساعة عن الموعد المقرر كان، مساعدوه خلالها يعتذرون بأن زوارا طارئين على غير موعد دخلوا على الرئيس.

في هذه الأثناء جرب فريق التصوير مد الأسلاك الكهربائية لتغذية الإنارة. ولم يعثر إلا على مقبس واحد صالح بين المقابيس الكهربائية المركبة منذ سنوات طويلة كما يبدو أسفل جدران الصالة المغبرة بفعل القدم وأغلبها عاطلة.

اعتذر الرئيس عن التأخير وقال باللهجة السودانية المحببة؛؛

“دول جماعة جابيين عندهم غصة وأخروني عليكم”.

ألقى نظرة سريعة على ورقة الأسئلة التي أعددناها مسبقا بطلب من السكرتير الصحفي، وكانت في الواقع محاور عامة.

لم ينزعج الرئيس من الأسئلة غير المتفق عليها ولم يعاتبنا مساعدوه لأنا لم نلتزم بالمكتوب.

بدا الرئيس البشير، واثقا في إجاباته، ويعتقد أن المشاكل الاقتصادية التي تواجه البلاد، عابرة، ومفتعلة. وأن هبوط سعر الجنيه السوداني يعود إلى استمرار الحصار والعقوبات التي كان يتوهم أنها ستزول.

وأن الجنوب المنفصل سيضطر للعودة إلى أحضان الشمال.

وأن السودان لن يكون رأس حربة في أي تحالف ضد طرف ثالث بما في ذلك ضد إيران.

ونفى أن يكون نظامه يقمع الصحافة، وحرية التعبير، بينما كنا نعلم أن السلطات تلاحق عددا من الصحفيين وتزج بهم في السجن، وتلاحق صحف المعارضة في المحاكم، وتسعى لإسكاتها.

أكد الرئيس البشير أنه حامي التيار الإسلامي في السودان، وأنه لن يسمح بتقليم أظافر الإسلاميين الذين تتهمهم المعارضة بتخريب البلاد وسبي العباد.

وأن حكومة الإنقاذ التي يقودها، أغرقت البلاد في الأزمات، وعزلت السودان عن العالم، وعرضته لشتى العقوبات وأفقرت الشعب وأقفرت الزرع وأهلكت الضرع!!

أبلغنا الرئيس البشير، أنه اطلع على خطط احتلال العراق حين كان في دورة عسكرية بالولايات المتحدة. وعبر عن أسفه لأن نظيره العراقي صدام حسين لم يستمع إلى التحذيرات.

كان حيويا، ودمثا ولم ينزعج حين سألته عن العصا التي يحملها أهي للاستعانة على الطريق أم لقمع الناس!؟

أجاب ضاحكا إنها جزء من تقليد شعبي سوداني.

لم يطلب مساعدوه منا حذفا أو تعديلا في المقابلة.

كانت زيارتنا الأخيرة إلى القصر الرئاسي السوداني، خريف العام 2017 عشية قمة روسية سودانية عقدت بعد أسبوع في منتجع سوتشي.

وأعقبتها بعام تقريبا قمة أخرى. وتسربت معلومات عن أن البشير أبدى لبوتين استعداد السودان لاستضافة قاعدة بحرية روسية؛ ومنح الشركات الروسية امتيازات في التنقيب عن الذهب والمعادن الثمينة الأخرى التي تزخر بها أرض السودان.

أرض الثورات والانقلابات والطيبة والن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى