تقارير وتحليلات

ماذا فعلت الحرب في سوريا؟.. سرقة مليون قطعة آثرية.. جرفت الأراضي.. مئات المواقع تضررت

كما كان من غير الممكن أن تحصر آثار سوريا في مادة صحفية واحدة، كذلك صار الحال بالنسبة لآثارها المنهوبة أو المخربة: “تقديري أن نحو مليون قطعة سُرقت” يقول مدير الآثار والمتاحف.

مفارقة عايشها كثير من العاملين في قطاع الآثار في سوريا، فمنذ بدأت الأزمة تتجه نحو التصعيد العسكري، صار عملهم يتركز حول إخفاء الآثار، وليس كشفها، ثم نقلها إلى أماكن آمنة:

“أكثر من 400 تمثال ومثلها من القطع الأثرية كانت في طريقها من تدمر إلى دمشق، ساعات قليلة وصارت المدينة بيد داعش”. في أكثر من محافظة ومتحف تم الأمر ذاته، يتابع مدير المباني والتوثيق الأثري أحمد ديب، “كنا نخبئ أمهات القطع الأثرية، ونضعها في أماكن آمنة” لهذا يؤكد ديب أن “أكثر من 90% من مقتنيات المتاحف تم إنقاذها خلال الأزمة”، أما الخسائر الكبرى فتركزت في المواقع الأثرية أو المناطق التي خرجت عن السيطرة.

تخريب مئات المواقع

أكثر من 10 آلاف تل أثري مكتشف في سوريا، كثير منها تعرض للتخريب والتنقيب غير الشرعي، وتجريف التلال الأثرية وهو ما سبب تخريبا للسويات الأثرية (التي تحدد الأزمنة والحقب التاريخية المختلفة).

ووثقت المديرية العامة للآثار والمتاحف 710 مواقع ومبان أثرية تعرضت للتخريب، وتراوحت الأضرار بين التخريب الجزئي، والاندثار أو التهدم الكامل، كما في تل مقداد الكبير في درعا، والجامع الأموي بحلب.

وكانت عمليات الحفر والتنقيب غير الشرعي من أكثر التعديات، خاصة في المواقع التي خرجت عن السيطرة، ومن تلك المواقع استخرجت لقى أثرية لا يعلم أحد نوعها وعددها، إلا عبر توقعات تستند إلى قرائن.

ويقدر مدير الآثار والمتاحف في سوريا محمود حمود عدد القطع التي هربت خارج البلاد “بما لا يقل عن مليون قطعة، وذلك قياساً إلى توثيق وتحليل الصور التي تم توثيقها والتقاطها للمواقع الأثرية بعد تحريرها” ويؤكد حمود أن “عشرات الهكتارات نُقبت وكان الحفر في كل مكان، ومن كل موقع خرجت آلاف القطع الأثرية”

مكتبة إيبلا

إضافة إلى ذلك يتحدث حمود عن القطع التي نهبت من بعض المتاحف كمتحف الرقة وبصرى الشام، ومعرة النعمان وحمص.. ويتوقف عند متحف إدلب الذي “كان يحوي إضافة إلى عشرات آلاف القطع، أرشيف إيبلا العظيم الذي يعود للألفية الثالثة ق.م” ويصف حمود الأرشيف الملكي في إيبلا، (نصوص كتبت على ألواح من طين)، بأنها من أهم ما اكتشف في علم الآثار، ومن أقدم المكتبات في العالم، وكانت على شكل مكتبة تحوي ألواحاً مصنفة حسب المواضيع، تؤرخ للحياة في الألفية الثالثة بعدد من جوابنها: السياسية والاقتصادية، والدينية، والزراعية.. إلخ.

يضيف حمود: “علمنا أن رجال أعمال قطريين أشرفوا على نهب ونقل محتويات متحف إدلب، وآثار المدينة، وهي بعشرات الآلاف، ونحن لا نعلم مصيرها حتى الآن”.

حلب .. آثار حية

حين تسأل عن “أبرز أو أهم القطع الأثرية التي فُقدت سرقة أو تخريباً” ستلقى إجابة شبه واحدة من الباحثين الآثاريين: صمت غير قصير .. قبل إجابة مختصرة “كله مهم”.

يصنف ديب أبرز الخسائر بين: القطع التي سرقت من المتاحف، وعمليات التخريب التي طالت المواقع الأثرية، وخاصة المدن التاريخية، ويقول “أعتقد أن الحالة الكارثية الأكبر هي مدينة حلب القديمة، رغم أن الاهتمام الإعلامي تركز على مدينة تدمر التي تعرضت أوابدها لتخريب وهدم، وتحطيم بعض التماثيل الجنائزية الكبيرة والأسرة الجنائزية في المتحف، وقد قمنا بنقل المحتويات، إضافة لثمثال “أسد اللات” الذي حاولوا تدميره، وهو الآن معروض في المتحف الوطني بدمشق.

رغم ذلك هناك خصوصية لمدينة حلب، كما يقول ديب، فهي إضافة إلى أهميتها التاريخية ما زالت مسكونة، وهناك تفاقم في الأضرار، يحتاج حلولاً إسعافية”

مديرة آثار حلب إيلين كيلو، تقول إن “الإمكانات المادية متواضعة، وأن التمويل الذي تقدمه بعض المنظمات من الدول الصديقة لا يكاد يكفي حتى الحلول الإسعافية”

وتؤكد كيلو أن الآثار المنقولة (اللقى والقطع القابلة للنقل) لم تتعرض لأي أذى في حلب، إذ تم نقلها إلى أماكن آمنة، وحماية ما يصعب نقله، وإن ما تعرض للضرر هي المدينة القديمة التي تشكل ثلث مدينة حلب.

تحتاج المدينة تمويلاً لإعادة ترميمها خاصة في الأحياء المسكونة، وهناك مواقع كاملة “صارت على الأرض”.

وتقول كيلو إن أكبر الخسائر بالنسبة للآثار هي التي نتجت عن التنقيب في المنطقة التي وصفتها بأنها “تسبح فوق بحر من الآثار” كريف حلب، وريف إدلب إضافة إلى المدينة، وفي تلك المناطق تمت عمليات تنقيب سري واستخراج قطع أثرية “ليست مسجلة لدينا، ولا نعرف عنها شيئاً، وهذا يجعل استعادتها صعبة”

توثيق ما تبقى

مشكلة توثيق الآثار لا تقتصر على ما يتم استخراجه عبر التنقيب السري بل إن التوثيق لم يكن يشمل كثيراً من الآثار، يقول ديب إنه ومع خروج الرقة عن السيطرة “واجهتنا مشكلة كبيرة، كان في متحفها نحو 6 آلاف قطعة أثرية، وقد تم السطو عليها إضافة إلى السطو على القطع التي كنا خبأناها في مكان آمن، من أمهات القطع، وفي هذه الحالة كان علينا مخاطبة الإنتربول لأنها قطع مسجلة لدينا، وحين راسلناهم، طلبوا منا صورا وبيانات للقطع، ولم تكن لدينا صور وبيانات دقيقة، وعلى ذلك تم إطلاق مشروع التوثيق الأثري في 2013، وحتى في المتحف الوطني لم يكن لدينا بيانات لأكثر من 120 ألف قطعة، وقد تم توثيق نحو 60% من مقتنيات المتاحف”

تتحدث الباحثة في دائرة آثار اللاذقية خزامى البهلول عن حرص كوادر مديرية الآثار على إنجاح المشروع والشعور بالتحدي في إنجازه رغم افتقار كثير من المحافظات للمعدات اللوجستية البسيطة كالكاميرا الرقمية، وقد استخدم بعض فرق التوثيق كاميراتهم الخاصة، وتضيف أن من أهم التحديات في المناطق الآمنة استمرار العمل الميداني بهدف تدريب طلالاب الآثار على مناهج التنقيب، ومساعدة المجتمع المحلي على تأمين فرص عمل، كما كان لذلك المجتمع أثر قوي في حماية الموقع.

وعن صعوبات التنقيب خلال هذه الفترة تقول إنها تتركز في ندرة اليد العاملة، وخاصة الذكور، نتيجة التحاق معظمهم بالخدمة العسكرية، وتشير البهلول إلى أن “وجود العاملات في التنقيب الأثري أو في تنظيف الموقع (تعشيب) أعطى العمل قوة وحياة أخرى، وكان لها معان مهمة، لذا استرعت تلك الظاهرة الانتباه وأحدثت ضجة وأثراً كبيرين ضمن الأوساط الأثرية العالمية”

تباع في المزادات

إلى جانب الآثار العراقية، يمكن أن تجد الآثار السورية تباع بالمزاد في الأسواق العالمية:

“في تركيا وحدها هناك 20 إلى 25 ألف قطعة تمت مصادرتها حسب السلطات التركية” يقول حمود، ويضيف إن العرض الهائل من الآثار السورية في الأسواق أدى إلى هبوط بورصة الآثار عالمياً”

“كل مافيات العالم اشتغلت في سوريا”، يقول ديب، وهو يتحدث عن تهريب الآثار السورية، ويقول إن “البيع غير الشرعي يقابله أيضاً اقتناء غير شرعي في بعض متاحف العالم، إضافة إلى المزادات العلنية والبيع عن طريق المواقع الإلكترونية”

ألم يكن ممكنا أن تفعلوا شيئاً لوقف ذلك؟

يجيب: كنا نحاول وقف عمليات البيع، نجحنا مرة، إذ أوقفنا بيع قطعة أثرية لنصب آشوري في لندن، ولكن مازالت القطع تباع حتى الآن في الأسواق العالمية، والمشكلة أن معظمها ليس لها “داتا” (قاعدة بيانات) إذ تم تهريبها بعد تنقيب غير شرعي.

لائحة حمراء

أمام ذلك، وفي محاولة لتمييز القطع الأثرية السورية، أعدت مديرية الآثار “لائحة حمراء” تحوي نموذجاً للقطع الأثرية السورية بحيث يمكن أي جهة أن تستدل على جغرافية الأثر عبر اللائحة، حتى لو لم يكن موثقاً لديها، ويقول حمود إن المديرية أرسلت تلك اللائحة إلى الإنتربول “بحيث يمكنه التعرف على أي قطعة مهربة تعود للحضارة السورية، رغم أن ضبط تلك القطع ليس سهلاً فهي لا تمر عبر القنوات الرسمية”

ويتحدث حمود عن سوريين قاموا بشراء قطع أثرية كانت معروضة للبيع ثم أعادوها إلى بلدهم، كما فعل رضوان خواتمي، وكذلك أحد السوريين في رومانيا.

“لبنان هو الدولة الوحيدة التي تعاونت معنا في هذا الشأن” يقول حمود، ويضيف إن لبنان أعاد مئات القطع إلى سوريا و”الآن هناك المئات من القطع في متحف بيروت، وتمت مصادرتها في لبنان، وخلال أيام سيذهب فريق من سوريا لدراسة إعادتها”

وفي الداخل تمت استعادة ما يزيد عن 20 ألف قطعة أثرية حتى الآن.

وتزوير

إضافة إلى كل أنواع التعديات، بين الحفر، والتجريف، والتنقيب غير الشرعي، نشطت في الأزمة ظاهرة “تزوير” القطع الأثرية، وبعض المزورين كانوا يبيعون تلك القطع على أنها أصلية، ويحدد ديب نسبة القطع الأثرية المزورة (بين ما تمت مصادرته) بما يتراوح بين 50 إلى 60 في المئة.

ويقول ديب إن ذلك يشوه أيضاً في الإرث الحضاري السوري.

تنقيب بالآليات

مع استعادة بعض المناطق الأثرية يظهر حجم التخريب فيها، الذي لا يقتصر على النهب والمتاجرة.

في مدينة أفاميا بريف حماة، “كانت عمليات التنقيب غير الشرعي تتم باستخدام الآليات الثقيلة” كما يقول مدير آثار حماة عبد القادر فرزات الذي يصف ذلك بأنه “إجرام بحق التراث” ويضيف أن استخدام تلك الآليات في حفر الشارع الرئيسي للمدينة (طوله 1850 مترا) أدى إلى تخريب السويات الأثرية، وهذا يصعّب معرفة تاريخ المنطقة بالضبط، وأدى أيضا إلى طمس المعالم الأثرية الحضارية.

ويؤكد فرزات أن المتحف (الذي يحتوي عدداً كبيراً من لوحات الفسيفساء) تعرض أيضا للتخريب وتكسير قاعات العرض، ومحاولة تحطيم الأوابد الموجودة في باحته، من تيجان وأعمدة، وخاصة “العمود الزمني” الذي يقيس المسافات، (بين مدينة أفاميا ومدينة الرفنية).

ويؤكد أن ثمة “قطعاً مفقودة من المتحف لكن لم يتم حصرها وعمليات جردها بعد”

ويقول فرزات إن مسلحين دخلوا بشكل سطو مسلح وقاموا بسرقة خمس قطع، إلا أن ما تم استخراجه عبر التنقيب غير المباشر فيبقى غير معروف: “لا نعرف شيئاً حول اللقى الأثرية التي تم استخراجها، وصلتنا صور عبر الإنترنت ووسائل التواصل، وأرسلناها إلى المديرية، ثم إلى الإنتربول” يقول فرزات الذي يشير إلى أن الدائرة كانت قد قامت بإجراءات وقائية واحترازية، ومنها تمويه المقتنيات وحفظها في مناطق آمنة، وهي مازالت هناك. ويقول إن الدائرة نحجت في ذلك وهذا ما أدى إلى حماية أكثر من 90% من مقتنيات المتحف.

بتكثيف

“تعرضت آثارنا إلى انتهاكات خطيرة جداً .. كارثة حقيقية، ومهولة، لم يشهد التاريخ مثلها” يختصر مدير عام الآثار والمتاحف، حين نسأله عن أبرز الخسائر.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى