ثقافة وفنون

الرموز الأسطورية والشعبية وتجلياتها الإنسانية في التجربة التشكيلية لإبراهيم الحميد وعبد الحي المسلم

كان الانسان ولا يزال بتفاصيله الحاضرة والماضية عنصر بحث وتشكّل فكرة وقلق وحيرة وعاطفة واستفسار تعبيري في الفنون التشكيلية بمختلف الثقافات، ما خلّد أثاره وبنى انطباعات الوجود وتحولات التاريخ والجغرافيا في ارتسامات الرموز بتفاصيلها الأسطورية المرتبطة بالطبيعة والأرض والحضارة أو الشعبية التي تستقرأ الحضور والواقع والاسترجاع والتذكر والممارسات اليومية والعادات والتقاليد.

*عبد الحي المسلم

وهو ما بنى لغة الفنون وطوّر مداها وهندساتها وانفعالاتها وأسّس لها، لتثير من منطلقها قضايا الانسان وتعبّر عنه من زوايا مختلفة وظّفتها الأساليب المتنوعة لتستفز الذهنيات البصرية وتتبع أثر الانسان في فضاءاته من خلال السرد البصري التعبيري والواقعي، وهو ما استغلّه التشكيلي السوري إبراهيم الحميد من حيث توظيف الأسطورة في أعماله لخلق صلة بينها وبين الأرض والواقع والمعاش، وتجربة الفلسطيني عبد الحي مسلم في توظيف الشعبي لمحاكاة الواقع والتشبّث بالانتماء في رحلة من البحث الصامد بالأثر المتبقي من الأرض والانسان كمقاومة أصيلة تتشبّث بالهوية وتجسّدها في الاعمال باختلاف الحالات والحضور.

تستمد أعمال الحميد مفاهيم التطوير التشكيلي من عمق الأرض ورموزها الحضارية البعيدة وتستثير فيها الهدوء العميق لتدمجه بصريا مع التماثل اللوني ما يخلق في التصورات حركة تشغل الفراغ وتحاكي عمقه وتوازناته بجدال يمتلأ بالثقة والتصور والانطباع.

 

*إبراهيم الحميد

يرى الحميد في تصوراته البصرية حكمة التراب في الخلق ليعبّر عن الأرض وأبعادها وتلاحمها الحضاري الفلسفي والفكري الذي يظهر بين ضفتي التاريخ بمختلف عناصر الطبيعة ومسخراتها فالعلامة تستجمع الخرافة والغرابة وتسلّط الذاكرة على الحكمة الغابرة وكيف ترتّب طقوس البقاء بهدوء قادر على تحويل صخبه إلى أسطورة لها حكمة خلودها، فهي كل لا تنفصل عن واقع الانتماء، ففي أعماله يراوغ الترقب القلق بالانتظار المتحرّر في حواس تنطلق وتنعتق من تدرجاتها الداكنة نحو الفضاء المفتوح على النور والضوء من خلال الخطوط التي تحاول اختراق العمق والتمازج مع الذاكرة لاكتساب النضج التعبيري والتفاعل مع العناصر وفي اكتساب طاقة التجريب والأداء والرمز في التراب والعلامة واللون والملامح الأسطورية في انتمائها الحضاري العميق.

يركز الحميد على الأداء ويتقمص شخوصه ويتفق معها في الحركة والانفعال والمواجهة التي تفرضها العتمة المتدرجة في اللون والمنفلتة من توليفات الخطوط والتراكمات التي تحتوي فراغ المساحة بتبادل عميق بينها وكأنها ترتب طقوس الخلود وعراقة الحضور والتفاعل الجمالي الممتع مع الخرافة ومدى تلاقيها مع العلامة في محاكاة ذهنية لا تنفصل عن الواقع في تأثيره المرحلي وتعبث به في التفعيل التماثلي ليعبر التاريخ بحكمة الذاكرة القادرة على فتح مساحات النور والأمل، فرغم غموضها إلا أنها تبدو مريحة للعين ومستفزة للبحث أبعد في ماورائياتها.

 

*إبراهيم الحميد

تركيز الحميد أحيانا على عنصر الانثى في الشخوص والملامح له تصور الأسطورة الخارقة في الفعل والخصوبة في الحلم والأمل والتكوين والاستمرارية فهي تثير العلامة لتلازماتها مع الأسلوب الذي يطوّعه مرة في التصنيف السريالي للمشهد ومرات في التجريد الداخلي للمشاهد والتلاوين التي تحكي قصصها في التشكل الطبيعي والمساحات وترابيات اللون وهوية الحلم ومجازات العناصر وانعكاس حنينها على الذاكرة.

 

*إبراهيم الحميد

 

أما في التجربة التشكيلية لعبد الحي المسلم وتوظيفه الرموز الشعبية فإن الإيقاع التشكيلي حمل التراث واستلهم منه علاماته عاداته وتقاليده بتفاصيلها المرحلية من بيئة وطبيعة وحضور وانسيابية كمالية مع فكرة الانسان والهوية للتعبير عن الذاكرة الحية والمستمرة في الأثواب والأفراح والتفاعلات مع مواسم البقاء الثابت فيها رغم مرارات الإبعاد والإقصاء والنهب والتهميش فالمدلول الفهمي في اختيارات المسلّم حفر تأريخي في العلامة واستخراجها من جمودها وتحريكها في الذاكرة لتبدو حقيقة في التشكيل فهو يقصد اتباع الأثر والألوان بألفة ممتعة مقصودة تحاول البحث عن ذاتها في ثنايا الملامح والمعايشات في العادات والتقاليد في سيكولوجيا المجتمع في الزخارف في الهندسة والعمارة في الأثواب وتغيرها بتغير الأمكنة في ملامح النساء وعوالمها وما تنشر من حكايات لها رمزياتها وتوافقاتها التعبيرية بما يضمن للفكرة جمالياتها ومتعة الانتقال فيها من موسم إلى موسم ومن حدث إلى آخر لتكوّن فضولا واكتشافات مستمرة فقد أجاد الحراسة في التصور في حفظ التفاصيل والقبض عليها حتى لا تنفلت ولا تتغير ولا يمسّها التشويه إنه يتحكم في الحنين ويستوقف الزمن في كل منجز وعند كل رمز وعلامة.

يجادل المسلم الرمز التعبيري الشعبي في الحفر والنحت في الخامة في الألوان في تقنية التطريز والتصميم التي تُطلع المتلقي على أبسط تفاصيل الأثواب ودقة التعامل مع الأرض والطبيعة بروح إنسانية تنطلق أبعد في الصورة فهو ينصرف في الصورة أبعد من تجسيد انسان في زي فلسطيني وما تعنيه التصورات من بساطة وكونها مجرد نقل فطري وشغف بالفن ولكنه يحاكي فيها روح الأرض وعلامة الشعب فيقتلعها ويستخرج منها الحكاية ويضع ثقة السرد في لوحاته التي تستمر في ذلك السرد بصريا.

يبدو المنجز التعبيري عند المسلم واثق التصور عميق الحركة يكاد يخترق اللاوعي في الحواس والفكرة لذلك يصل شامل الرؤى الجمالية فهو قصيدة ولحن ورواية تكاد تسمع شخوصها وهي تؤدي أدوارها أمامك خاصة وأنه يقصد اعتماد العلامة الخطية في الجمل والأمثلة الشعبية وكأنه يجعل لشخوصه أصواتا تحمل أهازيجها وهمهماتها لتخترق أشباحها الماضي فتأخذ معها المتلقي حيث المكان والزمان يحملان ألفة التصور والامتداد الداخلي.

إن علاقة الرمز والعلامة البصرية لا تستثير الوقع التأثيري في المتلقي بقدر ما تستنطق المفاهيم الراسخة فيه وفي مدركاته فهي لا تكتفي بأن تكون مجرد مشاهد وأعمال منجزة تُرى وتُنسى بل تؤسّس لغة بصرية حقيقية الانفعال داخلية التصور طاقتها عميقة وقادرة على محاكاة الإنسانية بلغاتها وهو ما استطاعه إبراهيم الحميد بفلسفته الغارقة في الحضارة دون أن تبالغ في الغموض الذي قد يفصل المتلقي عن زمانه بأسلوب يسترد الوعي بالواقع بشكل طريف وعميق، أو في تجربة عبد الحي المسلم التي تستدرج المتلقي نحوها وتفتح على ألوانها ذاكرته لتترك له تفاصيل الحضور والمشاركة والأداء والتعبير دون أن تُغرقه في الشجن بل تدفعه إلى الفرح وهو يبحث عن تفاصيل أعمق وحكايات يقرأها ويحفظها.

 

*الاعمال المرفقة:

متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية

Farhat Art Museum Collections

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى