ثقافة وفنون

الواقع العربي وتجارب ما بعد الحداثة في الفن التشكيلي من الصورة إلى المفهوم

ما بعد الحداثة في الفنون التشكيلية والبصرية هي المرحلة التي غيّرت نظرة التعبير القيمي وتفاعله الجمالي وحوّلتها إلى الفكرة والمفهوم والتصور الداخلي الذي تجرّد من الخيال المباشر في طبيعة الأشياء والمشاهد ليُكسبه غرابة الرمز في الانسان والمكان والتاريخ والبحث في العلوم والوجود والفلسفة والتقمص والأداء في الذات الإنسانية والتعبير عن واقع الأرض، سواء في اللون والدمج ومحاكاة الفراغ والسطح وعمق الابتكار أو بقراءة الجوانب الغرائبية والتركيز على رؤاها الجمالية، وهو ما أثّر على المدارس الفنية والتجارب التشكيلية التي تأثّرت بواقعها فانطلقت بذاتها من ذلك الواقع نحو تصورات معاصرة مكّنتها الرؤى والتقنيات ومدى مرونة تقبّل الغرابة والخيال من الابتكار والتطور في التقديم والعرض والأداء والتنفيذ والإنجاز.

وهو ما يمكن رصده بالخصوص في بعض التجارب التشكيلية العربية التي مكنها الواقع من أن تتعايش مع الغرابة الصادمة في أحداثها وتسلسل تبعاتها وتأثيراتها عند التلقي ومكّنتها التقنيات المعاصرة من أن تكتسب مسارا جماليا بخصوصيات ما بعد الحداثة في السرد البصري بكل ما يحمله من تأمل تمكّن من التحول من المشهد إلى المفهوم ومن الصورة إلى فكرتها اعتمادا على عناصر التشكيل وقيمه وتوازناته بخفّتها وثقلها بتوتراتها وبهدوئها الأمر الذي أعلى من القيمة الفهمية في الأسلوب، حيث اكتسبت الأساليب صفتها المعاصرة مثل الواقعية المفرطة والسريالية المعاصرة والمفاهيمية والتجريد المعاصر والبوب آرت.

حملت التجارب خصوصيات ما بعد الحداثة في التشكيل العربي فانعكس تعبيرها في قضاياها والتزمت بها بعيدا عن المباشرة بل بحثت فيها أبعد على مستوى الفكرة والرمز والتصور والابتكار والتجريب.

ففي تجربة التشكيلي اللبناني علي حسون كان التصور البصري سردا فكريا لواقع الازدواج وثنائية الانتماء لعالمين الشرقي والغربي ومدى التأثر الرمزي بهما وقد اختار التصور المعاصر في التجريب بأسلوب “البوب آرت” الذي استثار فيه البساطة والقرب والألفة والألوان وكل ما يعبّر عن العصر في تناقضات الاستهلاك والتحوّل الاجتماعي انقلاب القيم الفنية والجماليات المتعوّدة فالأسلوب لم يكن مجرّد منفذ تعبيري عن الواقع فقط بل رؤية تطويرية ومكسب تنفيذ بصري لذلك الواقع الذي شحن ذاكرته بالحرب في وطنه وبتفاصيل الهجرة واختلاف أطيافها، فحمل الفكرة من واقعها وقام بانتشال المشاعر العميقة في نوستالجيا التذكر، ما ساهم في توظيف الفكرة فيها كرؤية تصوّر بنائي اعتمده حسون الذي تماهى مع عالمين ليصل ذاته بهما ويؤسّس روح الابتكار بفنه.

*علي حسون Ali Hassoun

أما العراقي نديم كوفي فلا يختلف ظرفه الانتمائي المزدوج عن علي حسون إلا أنه ركّز على الذاكرة بجوانبها المتعبة في البحث عن ملامح الماضي وشخوصه حيث تعمّد نبش الذاكرة بتغييب تفاصيلها في الفوتوغرافيا ليلغي من الأمكنة الأشخاص تلك التي كان يوما ما فيها من خلال أسلوبه المفاهيمي حيث عبّر عن واقعه الفردي وواقع العراق في العموم وتذكّر الماضي في الأمكنة بروح الأشخاص في المكان رغم غيابهم.

*نديم كوفي Nedim Kufi

وفي تجربة خالد ترقلي أبو الهول كان التصور الدمجي متعدد الوسائط والأفكار والذهنيات مرتبطا بعالم من القضايا تمحورت فيها المرأة كعنصر أساسي وانشغل فيها تطويع الخط كأسلوب معاصر يستثير واقعا اجتماعيا بتفاصيل تبدأ من العنف المادي إلى المعنوي في صراع الواقع والمجتمع بين التابع والمُهمش المُعنف والمُضطهد ليختلف في تصوراته الجمالية عن الصورة المُتعوّدة للمرأة العربية والشرقية.

*خالد ترقلي أبو الهول Khaled Terikli Aboalhol

وفي تجربة الفيديو التوثيقي والفيلم اعتمدت ليلى حطيط الواقع التعبيري مع التصور التجريبي وسريالية الصورة في غموضها ورمزياتها في أفلامها التي عبّرت عن تأثير الحرب الأهلية اللبنانية وتبعاتها وصداماتها، برمزية جمالية في الصورة والتصوّر انطلاقا من فكرة التعايش والاندماج إنسانيا، وعن الأسرى الفلسطينيين وحكاياتهم حملت الدمج البصري في اللغة التصويرية لربط الصورة التي تعبّر عنها بالواقع دون مباشرة بل بطرح رمزي مع الأداء والاسترجاع والدمج والمؤثرات ليكون قادرا على تكوين موقف بصري حسّي وذهني.

*بسام كيرلس   Bassam Kyrillos

أما في التعبير المعاصر من خلال النحت فقد حمل بسام كيرلس التعبير عن الواقع بالتماهي الذهني والفلسفي للفكرة  والتصور الماورائي لأبعاد مفاهيمها المعاصرة التي حوّلت الخامة إلى أداء والتصور في النحت الى عمل أسطوري يتحداه على عدة مستويات من حيث الاحتواء البعدي العمق الفراغي التصور الغرائبي في تجربة الهندسة وتدمير العمارة في صدمة البنايات المدمرة وتأثير الحروب فيها ومدى قبح الخراب ليحيل تلك الصدمة إلى ذهن المتلقي الذي ينفر منها جماليا ولكنه يتواصل مع فكرتها مفاهيميا فيبحث في أسبابها وتبعاتها، وكذلك في تجربة دمج الرموز الدينية والأسطورية مع الواقع ليعبر عن مفهوم التناقض في المبادئ، كما في تصور نحت الأقنعة ومداها التعبيري الذي يغوص في الذات الإنسانية من خلال ما تحمله الأقنعة من أفكار وتصورات وخفايا وأسرار.

 

ليلى شوا  Laila Shawa

Ayman Baalbaki أيمن بعلبكي

لقد انتصرت الفكرة مع المفهوم على الصورة في تقديم الواقع وتجاوز سطحياته حسيا حيث تفاعل مع المشهد بعمق السرد البصري الماورائي وهو ما أنضج اللغة الجمالية فما تمّ تقديمه عربيا في تجربة ما بعد الحداثة لم يكن استعراضا تناقض مع كلاسيكيات الجماليات المألوفة وتصورات التجريب الحداثي بل كان منفذ تعبير وبحث داخلي عن منطق الأشياء اللامعقولة في الواقع وهنا كانت للأحداث السياسية والاجتماعية والاقتصادية تبعاتها في بثّ تلك التناقضات البصرية والتصورات التعبيرية والحث على التعبير عنها من خلال الفكرة قبل الصورة وعن طريق المفهوم.

Adnan Yahya عدنان يحيى

فعلى غرار ما قدّمه عدنان يحي في التصور السريالي المعاصر وأيمن بعلبي وليلى شوا في المفاهيمية ورمزياتها باختلاف التوجهات وتتابع الأحداث وتغيّرها حسب كل منطقة بتطرفها ودمويتها بعنفها وصداماتها الفكرية والأيديولوجية والمذهبية الداخلية، فان ما انعكس في التصورات الفنية كان الأفكار الجمالية الجديدة التي اندمجت مع عناصر التشكيل في الكتل واللون والفراغ فتعمقّت وتماهت وانشغلت وتقمّصت الدور الفعلي للتعبير، فكانت رغم قتامتها وغرابتها وحضورها المشوّه والمرح والساخر، عبّرت واستقرأت كل مرحلة وكل حدث بوقائعه وعالجت تبعاته فكريا وذهنيا.

 

 

*الأعمال المرفقة:

متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية

Farhat Art Museum Collections

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى