ثقافة وفنون

صورة المرأة وتفعيلها في الإسكتش مع الشخوص.. تكوينات تعبيرية المفاهيم المجردة في تجربة التشكيلي اللبناني مصطفى حيدر

كثيرا ما تغرق الفنون في غموضها الموقع على الاستفزاز الذهني وكثيرا ما تراوغ بأسلوبها الحواس للبحث وتشدها نحو منافذها لتتّبعها وهي تحاول أن تندمج مع كثافاتها المُعبرة ولعل هذا الغموض المتناثر في مجموعة من أهم أعمال الفنان التشكيلي اللبناني مصطفى حيدر تخترق المساحات الصامتة بصخب مرتّب على افتعال الضجة والحركة رغم ضيق الفعل التشكيلي الذي لا يتكئ على اللون أو الخطوط المعقّدة ولا الظلال والمساحات الضوئية، بل على التسريب الفكري الذي يحتل الصور الأولى يتفاعل ويتجسّد ليركب فكره الواعي على حضور المرأة الرمز والعنصر الباقي من التكوين الفعلي والفاعل المؤسس في اللوحة.

ولد مصطفى حيدر بمدينة بعلبك سنة 1944 هو من خريجي الجامعة اللبنانية للفنون عمل أستاذا للرسم بها لسنوات نال جوائز عدة وعرض أعماله الفنية دوليا يميل في تركيز أعماله إلى التجريد التعبيري والشفافية الرومنسية الممزوجة بالتمرد الحر على الفضاءات بالألوان أو الخطوط او توظيفات الأبعاد الأسود والأبيض في محاولة لترسيخ الشكل الاولي لشخوصه ومداها التفاعلي فيما بينها.

في أسلوبه المتغيّر حسب حالاته التعبيرية يندمج التنوع وينعكس على تقنيته التي تختلف عن أي فنان تشكيلي لبناني آخر سواء في مسك الفرشاة والريشة أو في تدريب القلم على احتواء المفهوم أوفي تحضير ألوانه من خلال إيقاعاته الخاصة وموسيقاه التي تغوص به في عوالم من العزلة المختارة والتبحر الفني الصاخب في بحثه وتغيراته وغوصه في زواياه المضيئة والمعتمة التي تتفجر أعمالا هي الأغنى في إبداعاتها المثيرة.

يتمازج التصوير التخطيطي مع الطابع الاولي الذي يعتمده حيدر في توظيف الرسم التحضيري مع الفكرة، حيث أن هذا المنهج الفني يعتمد التخطيط المتسع على الفكرة أكثر من التركيز التلويني الذي بدوره لا يلغيه بل يتنقل إليه كمرحلة اكتمال تحاول التمرد عليه بنضج واع بالعلامة وبسيمياء الدلالة التي تخلق حلقة وصل حسية مع المفاهيم.

وتوظيفات التقنية يحاول حيدر أن يركّز فيها على جمالية اللااكتمال في الإنجاز والتوافق في التركيب المكتمل في الخيال وبالتالي فهو يركّز فيها على صورة المرأة ودورها في التقمّص وحضورها من خلال الطيف والخطوط حيث وجهها يكاد يتلاشى وحضورها يخترق الأطر الضيقة في الخط فحضورها يكاد يبدو غير مكتمل أو عفوي شبيه بعملية الصقل الأولي لفكرة الوجود والحياة والتوافق الخيالي في ذهنيات الفكرة من خلال الاسكيتش الذي يقترح على الشخوص أن تحرّر أنفسها من الشغف وتتواصل في صخب محكم التعديل ومرتكز على بداياته في مواضيعه التي تحاكي التجريد المتماهي مع المساحات وهندستها الداخلية وحركة الأشكال والشخوص التي تسقط في عمق جسدها وحضورها بكثافة أقرب إلى ترتيب الفراغات المقصودة في الفكرة الصاخبة فهو ينجزها بقلم الرصاص وكأنه يحفر في تكوينها الأولي ويثير فيها حياة التحوّل نحو حالاته المقصودة في التعبير ليتحوّل معها تدريجيا في أفكاره.

حمل مصطفى حيدر نضجا فنيا يتمازج بين الفكرة وتعبيره عنها من الحركة إلى الاتقاد الحسي فيها ومن صخب الفراغ إلى التعبير البسيط في الاسكتش فهو يستفز حواسه ويطوّع ذهن متلقيه ليتشكل مع كل تجسيد بكثافة علامات وبرمزية محكمة الجماليات الخام والتصورات الأولية العميقة في شكلها الأسطوري او الملحمي، فهو يثير العلامة حسيا ويستقبلها بصريا ليتمكن من تجسيد الاكتمال الخصب في الخيال، ولعل هذا التصور الفني حملها إلى ترويض رمزية المرأة وفق مقاصده البحثية.

بين خيالات صور غير مكتملة والتعبيرات الواقعية تنبعث المشاهد البصرية من صياغاته المتفردة لتكون مشبعة بالذاكرة والأحاسيس مع اختلاطات انفعالية تتراكم لتتركب داخل الصياغة السردية الغارقة في جمالياتها الثنائيات الذاتية في الذوق والجماعية في التذوق والتمعن وتأمل أولي لفكرة يجيد ترتيبها وتحضيرها.

فالمرأة أو الأنثى هي المنطلق الأولي للحياة والتكوين بعناصرها الوجودية والفلسفية هي الأرض والرحم والخصوبة والتكوير هي الشكل والخط والانبعاث والمحبة وهي مصدر الإحساس والانفعالات والحركة، وهي تبدو في كل اسكتش طبيعية وتفصيلية جامدة ومتحركة صاخبة ومثيرة محتوية ومنفصلة مزدحمة ووحيدة وبين الكل والفرد والضد والتلاقي تتفجّر الخطوط مع عمق الأداء التشكيلي وحركة التوفيق الداخلي بين العناصر لتتجاوز انفعالاتها وتتحكم في الاكتمال الجزئي للعمل.

خاض حيدر التجريب والبحث من أجل النبش بنضج في تحولات الواقع ومخالجاته النفسية التي استوعبته من الواقعي إلى التعبيري والتجريدي بحثا عن ذات لمشاعره المتناقضة والمبعثرة مع تطرف انفعالاته من الفرح إلى الحزن من الالتحام إلى الانفصال، حيث خلق منفذا تجاوز المرئي في تناقضات الواقع،
فتوظيف الاسكتش للتعبير الانثوي بصدق التحويل الفكري للمعنى الفني يحمل مرونة جمالية في خلق الموضوع الجمالي الذي يتلاقى تقنيا وتعبيريا مع حركة العين واليد فتبدو وكأنها أيقونية تجتاح الذاكرة البصرية.

الأعمال المرفقة:
متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية
Farhat Art Museum Collections

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى