ثقافة وفنونكتب ودراسات

وزارة الثقافة.. أدوات الفعل والواقع الفعلي (1 -4)

تبدو دراسة الوضع الثقافي لمجتمع ما أمراً غاية في الصعوبة، يحتاج إلي مجهود مؤسسي أو علي الأقل إلي مجهود جمعي، يتمتع بروح الجماعة وتنوعها البحثي، ويسبح في اتساع الوقت الذي يسمح بعمليات الجمع والاحصاء والتحقق والمراجعة، وليس مجهوداً فردياً ومخنوقاً بالوقت والمصاعب، ذلك أن الوضع الثقافي للمجتمع ليس كياناً مادياً يمكن حصره وتحديد أبعاده ومعرفة ماهيته، بل كياناً معنوياً يسبح في وعي المجتمع، وتتباين سماته ومظاهره باختلاف الأماكن وطبيعتها داخل المجتمع، واختلاف فئاته التي تتباين بحسب مكتسباتها من التعليم والصحة والإعلام والمستوي الاقتصادي.

وتزداد صعوبة دراسة الوضع الثقافي للمجتمع كلما ازدادتْ تركيبته الاجتماعية تعدداً وتعقيداً، علي مستوي الأصول أو الجنس أو الدين أو الجغرافيا، ومدي التجانس أو التنافر بينها، وأيضاً كلما تعددتْ المؤسسات الثقافية داخله، ومدي امكانياتها المادية المتاحة لأداء مهمتها، وعلاقاتها ببعضها وبالمؤسسات الأخرى، خصوصاً التي تتقارب طبيعة وظائفها، أو تتكامل، مع طبيعة المؤسسة الثقافية كالتعليم والإعلام والبيئة والمؤسسات الدينية والكيانات السياسية.

وأخيراً تزداد صعوبة دراسة الوضع الثقافي بحسب طبيعة الإرادة السياسية الحاكمة، فإذا كان الوضع الثقافي للمجتمع يمثل المكانة الثقافية للدولة، ذاتياً ودولياً، فإن الطبيعة الثقافية تمثل شكل هذه المكانة وأيديولوجيتها التي تحكم العلاقات الداخلية للمجتمع، وتحدد الشكل الذي تبدو عليه الدولة في وجه العالم، ومن المعروف ـ خصوصاً في المجتمعات التي تحبو باتجاه التقدم ـ أن الطبيعة الثقافية للمجتمع تختلف باختلاف التوجه السياسي الحاكم له، فالطبيعة الثقافية في المجتمع الرأسمالي غيرها في المجتمع الاشتراكي أو الديني، فلكل نظام طبيعته الثقافية التي وإن بدت مرنة وذات نطاق واسع، إلا أنها في جذورها الممتدة في التاريخ جامدة وغير قابلة للتغير أو الاختلاط إلا عبر أزمان طويلة، وتحت ضغط تحولات اجتماعية كاسحة، ولم تخبرنا التجربة الإنسانية بعد بسيادة الدكتاتورية مثلا في المجتمع الرأسمالي مثلاً، أو بتمتع المجتمع الاشتراكي بالحرية الفردية، أو سيادة مبدأ تداول السلطة في المجتمع الديني.

وفي مصر، علي سبيل المثال، تتغير الطبيعة الثقافية للمجتمع دوماً بحسب تغير طبيعة وتوجهات النظام الحاكم بها، فمصر الليبرالية في العهد الملكي غير مصر الاشتراكية في العهد الناصري، غيرها في عهد الانفتاح الساداتي، اختلاف الطبيعة السياسية للمجتمع دائما ما يؤدي إلي اختلاف الطبيعة الثقافية له، واختلاف الطبيعة الثقافية لابد وأن يؤدي أيضاُ ـ وبشكل مباشر ـ إلي اختلاف وتغير الوضع الثقافي للمجتمع، فالوضع الثقافي للمجتمع هو بشكل من الأشكال مقدار الوعي الذي يتمتع به المجتمع ودرجة التزامه السلوكي والفكري به، ومدي الحرية التي تُتيح له الممارسة الفعلية لهذا الوعي، وهو ما يصنع مكانته، ولأن المجتمع كيان منظم وليس عشوائياً فإنه يلجأ دوماً إلي تنظيم علاقاته واحتياجاته وفقاً لدستور يتم التوافق عليه، وتُستخرج من أسسه القوانين الحاكمة، ووفقاً لمؤسسات يتم انشاؤها خصيصاً لتلبية هذه الاحتياجات، ومن هنا نشأت المؤسسات الثقافية، وأضحتْ الكيان المنظم والمحدد للطبيعة الثقافية للمجتمع، والقادر علي تلبية احتياجاته في هذا المضمار ودفعها للأمام بغية الرقي بها، وبمكانة المجتمع.

وزارة الثقافية كيان مهم داخل المجتمع، سواء كان المجتمع مدركاً لهذه الأهمية أو غير مدرك، ليس فقط لأن الإنسان ـ وهو وحدة المجتمع الأولي، وبنيته الأساسية ـ كائن ثقافي بطبيعته، يعتمد اللغة في التواصل ويسعي دوماً إلي فهم ذاته وطبيعته وماضيه وحاضره بغية التحقق في المستقبل، بل لأن المؤسسة الثقافية بكل أبعادها، وبما تخلقه من وضع ومكانة ثقافية، من المفترض أن تكون المحدد الأساسي للصورة الذهنية التي يتم تكوينها عن المجتمع، والتي تتقدم ذلك الإنسان للتعبير عنه لدي الآخرين في كل مكان، والأهم أنها الذراع الطولي للسياسة الحاكمة للمجتمع، التي تُحدد حاضره وتوجهاته المستقبلية، والمنوط بها إقامة التوازن النفسي العام بين فئات المجتمع المتعدد نوعياً وطبقياً، وبالتالي إقامة التوازن النفسي للإنسان الفرد داخل المجتمع.

وهذه الأهمية هي التي تدعونا دوماً إلي النظر إليها باستمرار لا يكاد ينقطع حتى في فترات الميوعة والعشوائية واليأس، وهي الفترات التي تسوء فيها المكانة الثقافية للمجتمع، ويمكن وصفها بفترات القحط مثلما نبدو الآن، يقول د. جابر عصفور ” الثقافة المصرية في أسوأ أوضاعها، وهنا لا أعنى المنتج الإبداعي الأدبي لأن هذا متميز جداً، لكن ما أعنيه هو الوعى المجتمعي، ما يتعلق بالتعليم والإعلام والفكر الديني السائد والعقليات والعادات الاجتماعية، الثقافة هنا بالمعنى الشمولي وليس بالمعنى الضيق الذى ينحصر في الإبداع والفنون، وهى مهمة وزارة الثقافة “(1) وأهميتها التي لا تنقطع أبداً، فالنظر إلي ماهيتها ودورها وامكانياتها وقدرتها علي أداء وظيفتها وتحقيق أهدافها داخل المجتمع، هو ما يحقق تلافي السلبيات وترميم التصدعات للانطلاق الدائم نحو الرفعة والرقي وتحقيق المكانة المرجوة والمستحقة للمجتمع وللوطن، فهي حائط الصد والملاذ الذي يجب العودة إليه دائماً كلما تهنا عن أنفسنا، وأردنا تعديل المسار نحو الأمام.

وزارة الثقافة.. أدوات الفعل

إذا كان تعريف مصطلح المؤسسة محدداً في كونها ” منشأة تؤسس لغرض معين، أو لمنفعة عامة، ولديها من الموارد ما تمارس فيه هذه المنفعة “(2) وتكمن وظيفتها في تلبية احتياجات المجتمع والأفراد بشكل منظم في هذا الغرض. فإن عبد الغني داود يؤكد علي أن الإجابات سوف تتعدد وتتباين بشأن مفهوم الثقافة، ” إذ يمكن أن تكون الثقافة هي مجرد اكتساب درجة من العلم والمعرفة، أو أنها قد تعني الإبداع والابتكار الفني والجمالي، أو أنها السلوك ونمط التعبير الخاص بمجتمع من المجتمعات “(3) وانحيازاً منه للتعريف الأخير، فيما أعتقد، يورد تعريفاً قديماً قدمه البريطاني إدوارد تايلور عام 1871م في كتابه ” الثقافة البدائية ” وهو أن ” الثقافة هي ذلك المركب الكلي الذي يشتمل علي المعرفة والمعتقدات والفن والأدب والأخلاق والقانون والعُرف والقدرات والعادات الأخرى التي اكتسبها بوصفه عضواً في المجتمع “(4) وهو تعريف يقترب كثيراً من تعريفنا للمفهوم العام والشامل للثقافة ” باعتبارها مجموعة من المكونات المادية والمعنوية والذاتية التي تتضافر وتتصارع من أجل تشكيل هوية ثقافية، بحسب قدرة المكونات السابقة علي التأثير، وهذا المنتج النهائي للثقافة ـ الهوية ـ هو الذي يمتلك الخصوصية التي يتم طرحها في الإبداعات الثقافية علي اختلافها، وتتشكل علي أساسها القيمة والمعيار والمكانة “(5) إذن فالثقافة “منتج إنساني اجتماعي تاريخي، يأتي حصاداً لتفاعلات اجتماعية متعددة ومختلفة داخل البنية الاجتماعية للمجتمع، وبين هذه البنية وبيئتها الطبيعية والبُني الاجتماعية الأخرى والعوالم المحيطة”(6).

علي هذا تكون المؤسسة الثقافية هي المنشأة التي تم تأسيسها لغرض الحفاظ علي ثقافة المجتمع المصري، وبالتالي الحفاظ علي هويته، والمختصة بالعمل علي تطوير هذه الثقافة ودفعها دوماً باتجاه التقدم، حتى تحتل مكانتها المستحقة بين ثقافات العالم، كما تختص بتقديم الخدمات الثقافية لأفراد المجتمع لكى يكونوا وقوداً دائماً لها، يحملون مشاعل نورها وينثروه علي العالم من حولهم، إنها الكيان المنوط به ” إكساب الشخصية المصرية تعريفاً بتاريخها وصيانة مقدرات هذا الوطن من تراثه ورعاية مكتسباته الإبداعية الناتجة عن عطاء أفراده “(7) وقد امتلكت المؤسسة الثقافية / وزارة الثقافة في سبيل هذا الغرض الكثير من الأدوات التي سيتم الإشارة إليها في المقال التالي.

يتبع….     

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى