ثقافة وفنون

“Henry Ossawa Tanner” تجربة التأثر بالمدن المقدسة في الشرق رؤى الخيال في التعبير عن الوجود والإنسانية

كتبت.. بشرى بن فاطمة

اختلفت دوافع التأثير التي أدت بالرسامين الغرب للتنقل بين مدن الشرق لينهلوا من رؤاها ومن غموضها الساحر وتنوع العادات والملامح والمعيشة، ولعل أهم دافع ميّز هذه مدن هو حضور الطابع الديني وتنوع الرؤى القداسية بطقوسها التي أضفت على المكان رهبة ذات انعكاسات جمالية.

فقد توثقت تلك المدن في ذهنية الغربي باعتبارها رمز الإيمان والتعاليم المقدسة وأرض الأنبياء التمازج الديني خاصة وأن المدن احتفظت بكل تفاصيلها من الحضور المسيحي في البناء والكنائس والألوان والتميز في الطابع الإسلامي الغارق في زخرفاته وهندساته وخطوطه فكانت فلسطين ومصر والمغرب العربي أبرز مدن الشرق التي انعكس حضورها ألوانا وأفكارا وتعبيرا في لوحات المستشرقين.

ويعتبر الرسام المستشرق الأمريكي “هنري أوساوا تانير” أبرز الرسامين الذين تأثروا بالمدن المقدسة حيث استوعبها في مخيلته ونقلها باختلاف التفاصيل التي تحدث عنها الانجيل فترك لوحات عبرت عنه كانسان وعن تلك المدن بقداستها كما ظهر في خياله الذي عكس هدوء إيماني في وصف الحالات والأشخاص فتألق وسطع اسمه خاصة في فترة التسعينات حين أعيد عرض أعماله وطرح تجربته من جديد في فرنسا.

بين الفن والرؤى المقدسة

إن الحديث عن أعمال وتجربة تانير يمكن تناولها من عدة زوايا وأبعاد فنية أولا بوصفه رائد التجربة التعبيرية الواقعية في الفن، ثانيا بوصفه فنان أمريكي من أصول إفريقية تعرض في مسيرته للتمييز العنصري والتهميش والاقصاء وثالثا باعتباره اختار مدن الشرق للتعبير والرسم ومزج فكرة الاستشراق بالقداسة الدينية.

“هنري أوساوا تانير”  (1859-1937) أول أمريكي من أصول افريقية يكسب شهرة عالمية في الفن التشكيلي والرسم، فقد تربى في وسط ديني مبني على الطقوس الايمانية والعلامات الكنائسية ولم يمنعه رفض والده لفكرة أن يكون ابنه رساما من أن يمارس شغفه بالألوان والأفكار والتصوير، فمنذ سن 13 نشأ على الرسم وأنضج أسلوبه وتطويراته التقنية والمنهجية خاصة وأنه دعّم ذلك الشغف بالرسم والتجدد الدائم في ابتكار الفكرة والصورة ودمجها مع الاحساس، كما ساعده الترحال والتنقل بين المدن من الولايات المتحدة الأمريكية إلى أوروبا ثم إلى الشرق شمال أفريقيا مصر وفلسطين على تنويع المشاهد الطبيعية التي كان يرسمها وتدعيمها بالحكايات والشخوص التي تحاكي الإحساس.

 

لقد لامس تانير المشاهد المتنوعة في الشرق وتعرف عن قرب على المدن المقدسة وربط بينها وبين الصور التي تضمنها الانجيل والتي كانت تخلق في رؤاه خيالات وحكايات وزّعها على مسطحات لوحاته أشكالا ومشاهد طالت المكان والشخصيات المقدسة مثل السيد المسيح والسيدة مريم، الملائكة، بكل حضورها المفعم بالإحساس، فصمم من خلالها روائع فنية اختزلت رؤيته المختلفة في تصوير الشخوص الدينية حيث ربط بين الديني الايماني وبين الواقع وما يختزن من مشاعر، لكل العناصر الدينية والرموز التي ذكرها الانجيل.

فقد عرف منذ بداياته الفنية بنقل الصور والمشاهد المتخيلة من الكتاب المقدس الانجيل وتصوير الطبيعة، وهو ما قاده إلى تجسيد لوحاته التي تميزت بطابعها الإنساني في التحول بالمكان والفكرة والقصة والرمز حتى يحقق فكرة إثبات التساوي بين البشر ونبذ التمييز العنصري وتجاوز فكرة استنقاص الآخر فقد أعانه استقراره في باريس على تجاوز التمييز الذي عانى منه في بلاده وقد تطور عطاؤه الفني ولامس ما كان يشعر به وغاص في عمق إحساسه ليقدم أعماله بتوازن طبيعي بين الانسان ومحيطه بتعبيرات مشحونة بالأحاسيس.

في اللوحة الاستشراقية التي يقدمها يظهر التداخل التعبيري المكثف العناصر في الأسلوب الواقعي  والمرتب المعاني ودلالاتها كما يظهر أيضا العمق الداخلي عند تاينر في وصف مشاهد قبول الآخر والتنوع الذي كان يميز تلك المدن التي كان ينقلها معبرا عن التداخل البشري والتمازج العقائدي، فبين المكان والرؤية بين الواقع والخيال بين الفكرة والمادة بين الجسد والروح بين الدنيوي والمقدس، يفرض انعكاس التراث والميزات في الرموز الهندسية والمعالم والعمران في الملابس والحضور عند الشخوص، خاصة في مدن المغرب العربي الجزائر والمغرب فقد نقل صور الساحات والأسواق والمعمار.

فالألوان  والتقنية التي يعتمدها تحيل على الطبيعة والانتماء والعلاقات المتباينة في الأبعاد الضوئية بين الخطوط التي تتصادم وتنحني في حدة اللون في دفئه وبروده ليقدم انتماء شرقيا للفكرة في المساحة التي تحاكي عمق حالة الفنان وتأثره بالمنطقة ورغبته في التعبير الدقيق عن الواقع بلمساته الحالمة التي تخترق الاحساس.

 

*الأعمال المرفقة:

متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية

Farhat Art Museum Collections

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى