منتدى الفكر الاستراتيجي

كيف تحولت درنة مدينة الشعراء إلى مركز للجهاديين؟

لا صوت يعلو في ليبيا الآن فوق صوت طبول الحرب التي تدق في مدينة درنة ومحيطها، بعدما أعلن المشير خليفة حفتر، الرجل القوي في شرقي ليبيا، الإثنين 7 مايو 2018، بدءَ عملية عسكرية لـ”تحرير” مدينة درنة، الخاضعة لسيطرة الجماعات الجهادية منذ سقوط نظام معمر القذافي عام 2011.

وقال حفتر: “نبشركم بأن ساعة الصفر لتحرير درنة قد دقَّت، وأن قواتكم تدكُّ الآن معاقل الإرهاب”، في هذه المدينة، التي تبعد أكثر من 1000 كم شرقي العاصمة طرابلس.

لكن درنة لم تكن أبداً في السابق كما هي الآن، طبيعة المدينة لم تكن تسمح بانتشار فكر متشدد أو جهادي، بسبب تركيبتها الاجتماعية المميزة، التي جعلت منها مركزاً للتحضر والإبداع، وميل أكبر نحو التمدن والرقي.

لكن نظام الرئيس السابق معمر القذافي استطاع تحويل هذه المدينة من قبلة للثقافة والموسيقى والإبداع والتصوف، إلى حاضنة جاهزة لاستقبال الفكر الجهادي المتشدد، ليقع الصدام بين الطرفين، وتسوء الأمور يوماً بعد يوم، فكيف حدث هذا؟ وما الذي تغيَّر في المدينة؟

الأوضاع على الأرض الآن

حالياً تدور معركة كبيرة في تخوم المدينة بين طرفين، الجيش الليبي التابع لمجلس النواب، والذي قال آمر غرفة عمليات “عمر المختار” التابعة له، اللواء سالم الرفادي، في أول تصريح له بعد بدء المعارك فعلياً في محيط مدينة درنة ضد مقاتلي “مجلس شورى مجاهدي درنة”، الإثنين 7 مايو، إن معركة “تحرير درنة” ليست ككل المعارك، وإن الجيش يسير بتكتيك عسكري راق ومنظم، وفق تعليمات عليا من القيادة العامة للجيش، على حد تعبيره.

هذا من جهة، بينما في الطرف الآخر يقف “مجلس شورى مجاهدي درنة”، الذي تشكَّلَ في ديسمبر 2014، من تحالف لـ”ميليشيات إسلامية” بينها أنصار الشريعة وميليشيا جيش الإسلام وكتيبة شهداء بوسليم، التي كان لها دور بارز في العمل العسكري ضد نظام القذافي في 2011.

ويرى خبراء أن هذه المعركة هي تكرار لما حدث عام 1996، بعد حصار المدينة من قِبل قوات الجيش الليبي، إبان حكم الرئيس السابق معمر القذافي ضد معارضيه، الذين نقلوا المعارك إلى الجبال المتاخمة للمدينة بتضاريسها الوعرة، مما أطال عمر الصراع رغم القدرات العسكرية الكبيرة للنظام آنذاك.

الصدام المسلح.. بداية الحكاية

ويحدد الخبير في شؤون الجماعات الإسلامية عبدالمنعم الشوماني، في حديثه لـ”عربي بوست” بداية حكاية هذه المعركة بمطلع تسعينات القرن الماضي، حينما شنَّ القذافي حملته على “الفكر الجهادي”، الوافد الجديد للمنطقة، الذي تطوَّر مع القبضة الأمنية للعقيد، لينشطر فيما بعد إلى جماعات أكثر تطرفاً.

وبدأ الصدام المسلح لهذه الجماعات في منتصف التسعينات مع النظام، وهو التاريخ الذي يرى الشوماني أنه امتداد طبيعي لما تشهده مدينة درنة من موجات لـ”الفكر المتطرف”، حتى أصبحت “مصدّرة للتطرف بعد أن كانت مصدرة للجمال”، على حد تعبيره.

وأضاف أن هذا يأتي رغم ما شهدته المدينة، التي اشتهرت بريادتها للفن والثقافة لعقود، من عودة لبعض مظاهر الحياة المدنية غداة خروج تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) قبل أكثر من عامين.

بداية الفكر الجهادي

الخبير والأستاذ الجامعي يتابع حكاية ظهور التشدد في المدينة، التي كانت قبلة المثقفين والشعراء في شرقي البلاد قبل ثمانينات القرن الماضي، حينها كانت ليبيا لا تزال على المذهب المالكي، ويغلب على أهلها طابع التصوف.

استمرَّت الأوضاع هادئةً حتى وقع الصدام بين التصوف ونظام القذافي، بداية من هدم زاوية الجغبوب واستخراج جثمان الإمام السنوسي الكبير، وإغلاق الجامعة السنوسية “فأصبح البلد جاهزاً لاستقبال أي فكر بديل”.

وفعلاً ومع تزامن ذلك بما يعرف بـ”الصحوة” التي كانت تنشر للفكر الوهابي عبر توزيع مطويات وكتيبات وأشرطة كاسيت لخطب مشايخ هذا الفكر. ورغم أن درنة كانت متأخرة عن بقية المدن الليبية في احتضان “الفكر الوافد”، إلا أن تزامن حرب النظام على التصوف مع حملته على الفن والموسيقى باعتبارها ثقافة غربية، جعل المدينة خالية من جناحيها (التصوف والفن)، فلم ينته عقد الثمانينات “حتى ارتدت درنة وشاح السواد”، على حد تعبير الشوماني.

قبلة المثقفين ومركز التحضر

من جهته يرى أستاذ علم الاجتماع بجامعة عمر المختار، رمضان بن طاهر، أن درنة عبر تاريخها وبفضل موقعها الجغرافي، كانت مدينة مفتوحة دون قيود على العالم وعلى محيطها الاجتماعي، وتميّزت بالتنوع الثقافي والعرقي، حيث إن سكانها الحاليين هم  خليط من مختلف سكان ليبيا.

وأضاف أن هذه الخصائص كانت من الممكن أن تلعب دوراً في نشر الحياة الحضرية والصناعية، وبروز ملامح إمكانية تشكل برجوازي تجاري يساهم في تنمية المجتمع الليبي، مثلما لعبت درنة دوراً حيوياً في الحقبة العثمانية، ولاسيما فترة حكم الأسرة القرمنلية، حين هيمنت على كل من مدينتي بنغازي والمرج، المدينتين الرئيسيتين في تلك الفترة، بوصفها مركزاً إدارياً وتجارياً مهماً، بفضل أراضيها الزراعية الخصبة، ومينائها الاستراتيجي الذي خلق حركة تبادل تجاري، إدارياً وثقافياً مع المغرب الأقصى والشرق الأدنى على السواء.

لكن الممارسة السياسية لمختلف نظم الحكم والاستعمار التي مرَّت على ليبيا، بدءاً من العثمانيين إلى الإيطاليين، مروراً بالحكم الملكي، لم تسمح باكتمال النمو المدني والحضري للمدينة، نهاية بحكم القذافي.

قال بن طاهر لـ”عربي بوست”، إن القذافي استثمرَ في درنة البنيةَ القبليةَ من أجل السيطرة والحكم، مما أسهم بشكل مباشر في اختفاء كل عناصر التجديد والإبداع في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، بل أدى ذلك إلى خلق سمات واتجاهات عقلية على المستوى الشعبي والفردي، أدت إلى تعميق التقسيم بين الناس والشك في الآخر على مختلف  المستويات  الثقافية والاجتماعية.

ظاهرة التطرف

أستاذ علم الاجتماع يرى أن درنة عبر سياقها التاريخي والثقافي كانت من الممكن أن تكون نواةً لمدينة تجتمع فيها كلُّ عناصر الثقافة المدنية، لكن نظام القذافي لم يعمل على تعزيز الثقافة المدنية، من خلال التنمية وإنشاء المسارح ودور السينما والمراكز الثقافية والاجتماعية.

وأضاف أن النظام “ركَّز على بناء المساجد، لدرجة أصبحت تشوه المدينة بدلاً من أن تكون زينتها”، وبدلاً من أن يكون الدين عاملاً من عوامل تنميتها، أصبح يمثل عائقاً أمام تقدّمها كما أراد له النظام، فأغرقت مدينة درنة في التقليدية الدينية والقبلية، فكان التطرف هو البديل أمام فئة الشباب، خاصة من يعانون من البطالة والفراغ، على حد وصفه.

وذكر أن الحرمان من العمل ومن عناصر الحضارة التي كان الناس قريبين منها ولا يستطيعون الوصول إليها، نتج عنه ردة فعل جعلت المناخ السائد قابلاً للردة في التفكير، واللجوء إلى أفكار تصنع التطرف، بدعوى أنها تمثل قارب النجاة.

التطرف الذي يصفه بن طاهر، مع بداية ثورة فبراير 2011، بالواضح والجلي، تمثل في مظاهر فرض الضوابط والأحكام الدينية بالقوة على الناس، اتخذ لنفسه تنظيمات دينية متعددة، عُرفت بين أبناء المدينة بالمتطرفة والمتشددة والإرهابية.

وأوضح أنه “وبسبب طول فترة الثورة وغياب مؤسسات الدولة، خلق فراغ سمح للمتطرفين، خاصة أنصار تنظيم القاعدة الذين كانوا في أفغانستان والعراق، بالرجوع  إلى المدينة وملء هذا الفراغ، مستغلين في ذلك هذا المناخ المناسب لجرِّ الشباب إلى التطرف الديني والغلو في مسائل الشريعة”.

أفكار وأهداف يراها تتناقض كلياً مع  سياق المدينة التاريخي، وطبيعة المجتمع الليبي وثقافته.

وركزت الأفكار الجديدة على أنماط سلوكية هدفها إلزام الآخرين، وعلى الأخص النساء، وبصفة أكثر تحديداً الجامعة، ومن هذه الأنماط الملزمة منع الاختلاط بين الجنسين، والمطالبة بتوحيد الملابس للفتيات، كا ذكر ناشطون بالمدينة لـ”عربي بوست”.

ويضاف إلى ذلك غلق المحال التجارية التي تعرض واجهاتها الملابس النسائية، وغير ذلك من السلوكيات، وتطوَّر الأمر إلى جرِّ المدينة والمناطق المحيطة بها إلى حالة من الفوضى والتفكك، وفقدان الأمن، من خلال تهديد المخالفين لهم دينياً من المثقفين والكتاب، وقتل الأفراد المنتمين للجيش والشرطة والقضاء، خاصة الأفراد الذين يخشون منهم على تطبيق مشروعهم السياسي والديني.

يضاف إلى ذلك أنه لا يمكن استبعاد وجود قوى خارجية في دعم مشروعهم، وذلك  للتأثير في الأحداث التي تجري في ليبيا منذ الإطاحة بنظام القذافي قبل 7 سنوات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى