من التاريخ

78 عاماً على نهاية المقاومة الليبية بإعدام قائدها “سيدي عمر”

في 16 سبتمبر عام 1931، تدلى جسد الشيخ الطاعن في السن السيّد عُمر بن مختار بن عُمر المنفي الهلالي (73 عاماً) قائد المقاومة السنوسية الليبية ورائد حرب العصابات البدوية الخاطفة ضد الطليان بعد محاكمة صورية قضت بإعدامه، لتبقى صورته معلقة على المشنقة رمزاً للكفاح الذي انتهى بطرد الاستعمار الإيطالي من البلاد.

لكن الرجل السبعيني الذي ينتسب لبيت فرحات من قبيلة منفة الهلالية في برقة بدأ رحلته قبل ذلك بكثير، وبالتحديد عند اللحظة التي سجلها بنفسه:

كنَّا لا نتجاوز الخمسين شخصاً من المشايخ والعساكر وبينما تجمع هؤلاء حولنا لسؤالنا عن صحة سموّ الأمير، وكنا صائمين رمضان وإذا بسبع سيّارات إيطالية قادمة صوبنا فشعرنا بالقلق لأن مجيئها كان محل استغرابنا ومفاجأة لم نتوقعها، وكنّا لم نسمع عن هجوم الطليان على المعسكرات السنوسيَّة، واحتلالهم أجدابية، فأخذنا نستعد في هدوء والسيَّارات تدنو منا في سير بطيء فأراد علي باشا العبيدي أن يطلق الرصاص من بندقيته ولكنني منعته قائلاً: «لا بد أن نتحقق قبلاً من الغرض ونعرف شيئاً عن مجيء هذه السيارات كي لا نكون البادئين بمثل هذه الحوادث»، وبينما نحن في أخذ ورد وإذا بالسيَّارات تفترق في خطة منظمة المراد منها تطويقنا، وشاهدنا المدافع الرشاشة مصوَّبة نحونا فلم يبق هنا أي شك فيما يراد بنا فأمطرناهم وابلاً من رصاص بنادقنا، وإذا بالسيَّارات قد ولت الأدبار إلى منتجع قريب منا وعادت بسرعة تحمل صوفاً، ولما دنت منا توزعت توزيعاً محكماً وأخذ الجنود ينزلون ويضعون الأصواف (الخام) أمامهم ليتحصنوا بها من رصاصنا وبادرنا بطلق الأعيرة فأخذ علي باشا يولع سيجارة وقلت له: «رمضان يا علي باشا» منبهاً إيَّاه للصوم فأجابني قائلاً: «مو يوم صيام المنشرزام». وفي أسرع مدة انجلت المعركة عن خسارة الطليان وأخذت النار تلتهم السيَّارات إلا واحدة فرّت راجعة، وغنمنا جميع ما كان معهم من الأسلحة.

من القلم للبندقية.. تحول لم يبدأ مع الطليان

تحول المختار من واعظ وشيخ وعالم ديني إلى مقاتل لا يشق له غبار، لم يأت وليد الغزو الإيطالي لبلاده، فقبله بسنوات قاتل جيوش الانتداب البريطاني على الحدود المصرية الليبية، في مناطق البردية والسلوم ومساعد، وخاض معركة السلوم عام 1908، التي انتهت بوقوع البلدة في أيدي البريطانيين.

ولم تقتصر نشاطاته المقاومة على ليبيا فقد قاتل على جبهات في غرب مصر وتشاد فضلاً عن الصحراء الليبية الشاسعة.

وشارك عمر المختار أيضاً في القتال الذي نشب بين السنوسية والفرنسيين في المناطق الجنوبية في السودان، إضافة إلى قتال الفرنسيين عندما بدأ استعمارهم لتشاد عام 1900.

لكن قتاله ضد الطليان غيّر تاريخ وجغرافيا البلاد

أصبح نجم عمر المختار ساطعاً مع إعلان إيطاليا عام 1911 الحرب على الدولة العثمانية، ونشبت حرب بين الطرفين سرعان ما التحق بها المختار بعد أن كان عائداً من مدينة الكفرة (جنوب شرق ليبيا)، ليسارع على الفور إلى زاوية القصور لتجنيد أهلها.

في زاوية القصور نجح عمر المختار في جمع ألف مقاتل، مؤسساً أول معسكرات منطقة الخروبة (جنوب مدينة المرج القديمة) قبل أن ينتقل إلى الرجمة (شرق بنغازي) ويلتحق بالجيش العثماني هناك.

عندما اندلعت حروب البلقان، عام 1912 كانت الدولة العثمانية مجبرة على عقد صلحٍ مع إيطاليا وقَّعته في لوزان.

واضطرَّ نتيجةً لذلك قائد القوات العثمانية التي تقاتل الإيطاليين – عزيز بك المصري – للانسحاب إلى الأستانة (العاصمة إسطنبول) وسحب معه العسكر العثمانيّين النظاميّين في برقة الذين بلغ عددهم نحو 400 جندي عثماني.

أصبح المقاتلون الليبيون وحدهم في الميدان ضد الطليان، وأصروا على الجنود العثمانيين المغادرين أن يتركوا أسلحتهم لكنهم رفضوا تنفيذاً لشروط الصلح، وكاد ينشب صدام بين الأصدقاء فتدخل عمر المختار ومنع النزاع.

ظلَّ عمر المختار في موقع قيادة القتال ضد الطليان بكامل برقة حتى وصول أحمد الشريف السنوسي إلى درنة في شهر مايو من عام 1913 واستلم القيادة وظلَّ عمر المختار مساعداً له، لكن الشريف هاجر وترك برقة، فاستلم القيادة منه الأمير محمد إدريس السنوسي، وكانت بينه وبين الطليان معارك كثيرة وقع فيها قتلى كثر من الطرفين.

وبعد سقوط العاصمة طرابلس في أيدي الطليان اضطر إدريس للهجرة إلى مصر فعاد عمر المختار قائداً للمقاتلين في برقة. ودعا أهالي الجبل الأخضر للقتال وفتح باب التطوُّع للكفاح ضدهم من مختلف قبائل الجبل.

واتَّبع أسلوب الغارات وحرب العصابات، فكان يصطحب معه 100 إلى 300 رجل في كل غارةٍ ويهجم ثم ينسحب بسرعة، ولم يزد أبداً مجموع رجاله عن نحو 1,000 رجل، مسلَّحين ببنادق خفيفةٍ عددها لا يتعدَّى 6,000، وقد شكَّل هذا بداية الحرب الضروس بين عمر المُختار والطليان، تلك الحرب التي استمرت 22 عاماً ولم تنته بأسر المختار وإعدامه.

حقبة مقاومة الطليان

في 1912 أعلنت روما ليبيا مستعمرة إيطالية، منذ ذلك الوقت قاد «أسد الصحراء» البالغ وقتها 53 عاماً المقاومة الليبية ضد المحتل الإيطالي، وطوال هذه الفترة الممتدة لـ 20 عاماً (1912 ـ 1931) وحتى إعدامه، لم يغب عمر المختار عن ساحات القتال.

أنزل عمر المختار بالإيطاليين خسائر فادحة، بعد معارك كر وفر تركز معظمها على مدينة درنة (شمال شرق)، منها معركة «يوم الجمعة» 16 مايو/أيار 1913، دامت يومين، وانتهت بمقتل 70 جندياً إيطالياً وإصابة نحو 400 آخرين.

كما دارت في 6 أكتوبر/تشرين الأول من العام نفسه معركة «بو شمال» في منطقة عين مارة، وفي فبراير عام 1914 معارك «أم شخنب» و»شلظيمة» و»الزويتينة»، كان خلالها المختار يتنقل بين جبهات القتال ويقود المعارك.

وترجل الفارس وقتل فرسه وفقد نظارته الشهيرة

في أكتوبر/تشرين الأول سنة 1930 تمكن الطليان من الاشتباك مع المجاهدين في معركة كبيرة، عثر الطليان عقب انتهائها على نظارات عمر المختار، كما عثروا على جواده المعروف «مجندلاً» في ميدان المعركة.

أيقن المحتل أن المختار ما زال حياً، وقتها قال القائد الإيطالي غراتسياني مقولته المشهورة متوعداً «لقد أخذنا اليوم نظارات المختار وغداً نأتي برأسه».

وفي 11 سبتمبر/أيلول 1931، وبحسب رواية المجاهد التواتي عبد الجليل المنفي، «كنا غرب منطقة سلنطة (قرب مدينة البيضاء شرقاً) هاجمنا الأعداء الخيالة وقُتل حصان سيدي عمر المختار، فقدم له ابن أخيه المجاهد حمد محمد المختار حصانه».

وتابع المجاهد الشاهد على الواقعة، «وعندما همّ بركوبه (الحصان) قُتل أيضاً، وهجم الأعداء عليه ورآه أحد المجندين العرب، وهو مجاهد سابق له دوره، ذُهل واختلط عليه الأمر، وعزّ عليه أن يُقبض على عمر المختار، فقال (يا سيدي عمر، يا سيدي عمر!!) فعرفه الأعداء وقبضوا عليه، ورد عمر المختار على المجند العربي الذي ذكر اسمه، واسمه عبد الله، بقوله: (عطك الشر وابليك بالزر)».

بعدها بثلاثة أيام في 14 سبتمبر/أيلول وصل غراتسياني الذي لم يصدق نفسه إلى بنغازي، وأعلن على عجل انعقاد المحكمة الخاصة 15 سبتمبر/أيلول 1931 وفي الساعة الخامسة مساء اليوم المحدد لمحاكمة عمر المختار «الصورية شكلاً وموضوعاً»، مكان برلمان برقة القديم، لتقضي بالحكم على البطل بالإعدام شنقاً.

في صباح اليوم التالي للمحاكمة أي في 16 سبتمبر/أيلول 1931، اتُخذت جميع التدابير اللازمة بمركز سلوق (جنوب بنغازي) لتنفيذ الحكم بإحضار جميع أقسام الجيش والمليشيا والطيران، و20 ألفاً من الأهالي وجميع المعتقلين السياسيين الليبيين خصوصاً من أماكن مختلفة لمشاهدة تنفيذ الحكم في قائدهم.

وأُحضر المختار مكبل الأيدي، وفي تمام الساعة التاسعة صباحاً، سار إلى منصة الإعدام وهو ينطق الشهادتين، وصعد إلى حبل المشنقة لا يهاب موتاً ولا يستجدي أحداً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى