وجوه

المرأة الدب.. قصة امرأة مكسيكية تعرضت للتمييز العنصري

عرَّضت جوليا باسترانا طوال أغلب حياتها القصيرة والمحزنة من الآخرين، بمَن فيهم زوجها، إلى تشويه السمعة والتجريد من الإنسانية، بل والعرض أمام الجماهير للتسلية والترفيه- والتربح بالطبع.

وُلِدت جوليا باسترانا في المكسيك في عام 1834، وكانت مصابة بمرضين نادرين: مرض فرط نمو الشعر الخلقي المعمم (Generalized Hypertrichosis Lanuginosa)، الذي تسبب في تغطية وجهها وجسدها بالشعر، ومرض تضخم اللثة (Gingival Hyperplasia)، فكانت شفتاها ولثتها سميكتين.

وبسبب مظهرها ذلك، أطلق عليها الناس لقب «المرأة القرد» و»المرأة الدبّ» و»أقبح امرأة في العالم» و»الحلقة المفقودة بين الجنس البشري وإنسان الغاب».

التاريخ يعود من جديد

تجدر الإشارة إلى أن التاريخ المروّع لتشبيه الملونين (أي الأشخاص غير البيض) بالحيوانات قد عاود إلى الظهور مرةً أخرى الأسبوع الماضي بسبب الممثلة الأميركية روزان بار، التي نشرت تغريدة على موقع تويتر وجَّهت فيها نقداً لاذعاً لمستشارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، فاليري جاريت، وشبَّهتها فيها بأنَّها تنحدر من «كوكب القردة» (Planet of the Apes)، مما دفع القناة المنتجة لمسلسل روزان بار، قناة ABC الأميركية، إلى إلغاء مسلسلها التلفزيوني.

حياة جوليا باسترانا التي سلطت عليها صحيفة The Washington Post الأميركية من جديد، هي الأخرى كانت مليئة بالعنصرية الحاقدة التي كانت سمة من سمات القرن التاسع عشر.

ففي عام 1857، عُرِضت جوليا باسترانا أمام العامة في قاعة الملكة للحفلات الموسيقية (Queen’s Hall) بالعاصمة البريطانية لندن، ووصفتها صحيفة Liverpool Mercury البريطانية آنذاك بأنَّها: «واحدة من أكثر الكائنات التي عُرِضت أمام العامة شذوذاً واستثنائيةً»، ووعدت الصحيفة أهل المدينة بأنَّ زيارتهم للمعرض «لابد وأن تدفعهم إلى التدبر والتفكر الفلسفي على نطاق واسع».

كانت جوليا باسترانا لا تزال في الثالثة والعشرين من عمرها آنذاك، وكان طولها يبلغ 137 سنتيمتراً تقريباً ووزنها 50 كيلوغراماً تقريباً. وكانت قد سبق لها أن عُرِضت أمام الجماهير في مختلف أنحاء الولايات المتحدة وأوروبا، وكان المتفرجون الفضوليون ينظرون إليها بنظرات قاسية تجمع بين العنصرية والانبهار.

العنصرية في أبشع صورها

استخدمت الصحف آنذاك أشد الأوصاف عنصريةً وفظاعةً للإعلان عن ذلك العرض؛ فقد كتبت صحيفة Liverpool Mercury البريطانية ما يلي في عام 1857:

«لديها شعر أسود كثيف يغطي جميع أجزاء بدنها، ما عدا صدرها ويديها وقدميها. فمها ممدود، وشفتاها شديدتا السماكة. لديها لثة أمامية مزدوجة، في فكيها العلوي والسفلي معاً، مع صف أمامي واحد من الأسنان. شخصيتها ودودة واجتماعية وسهلة المعشر- تستطيع التحدث باللغتين الإنكليزية والإسبانية، والرقص، والغناء، والحياكة، والطهي، وغسل الملابس وكيّها- لكنَّها لم تكتسب إنجازاتها سالفة الذكر، بطبيعة الحال، سوى بعد تعريفها بالحياة المتحضرة، بعد العثور عليها بحالة الطبيعة في سن صغيرة للغاية».

تعرَّضت جوليا باسترانا للمعاملة نفسها التي تلقاها غيرها من الأشخاص الملونين، الذين كانوا يوضعون في أقفاص للعرض على المسارح بهدف الترفيه والدراسة العلمية.

ووفقاً لكتاب «Simianization: Apes, Gender, Class, and Race«، وهو عبارة عن مجموعة من المقالات حرَّرها كلٌ من وولف هاند وتشارلز ميلز وسيلفيا سيباستياني، فإنَّ «هذا التشبيه النمطي بالقردة يمثل مقومات مبدأ التجريد من الإنسانية، الذي يُعَد جزءاً من أنظمة مجازية لفظية وبصرية أكبر قائمة على ربط ‘الآخر’ بالأشياء أو الحيوانات أو الأوساخ أو الجراثيم، وكلها أشياء تتطلب سيطرةً أو تطهيراً أوالقضاء عليها».

عنصرية نعم، لكنها ارتبطت بالعروض العلمية

استمرت هذه الصورة النمطية لقرون طوال. في هذا الصدد، ذكر الكتاب: «قبل مائة سنة مضت، كانت هذه الصورة النمطية مدعومة بشرعية العروض العلمية حتى. إذ ذكر العالم ويليام إدوارد بورغاردت دو بوا في ذكرياته: ‘أتذكَّر أنَّني كنتُ في متحف ذات مرة، وصادفني وجهاً لوجه شرحاً لسلسلة من الهياكل العظمية المرتّبة بدايةً من هيكل قرد صغير وحتى الهيكل العظمي لرجل أبيض طويل القامة وقوي البنية، في حين كان الهيكل العظمي لشخص أسود لا يكاد يفوق الهيكل العظمي للشمبانزي رتبةً’».

لا شك أنَّ حياة جوليا باسترانا القصيرة كانت مثالاً على فكرة امتهان البشر العنصرية.

امرأة ضلت الطريق

فوفقاً لما أوردته صحيفة Liverpool Mercury البريطانية في عام 1857، عُثِر على جوليا باسترانا طفلةً تعيش في كهفٍ في جبال المكسيك برفقة امرأة ضلَّت الطريق في البرية منذ ما يقرب من ست سنوات.

وفي أحد الأيام: «كان هناك مزارع مكسيكي يصيد لماشيته في الجبال، وإذا به يسمع صوتاً بأحد الكهوف خُيِّل إليه أنَّه صوت امرأة مكسيكية، فهرع المزارع إلى مدينة كوبالا المكسيكية وأتى بجماعة من الرجال تسلقوا الجبال إلى الكهف وحاصروه، ونجحوا بفضل حيلهم البارعة أن ينقذوا المرأة التي ضلَّت الطريق».

حكت تلك المرأة للمزارع المكسيكي أنَّها، بعد أن ضلت طريقها، ظلت هائمةً على وجهها إلى أن وصلت إلى قمة الجبل. وهناك، حوصرت في الكهف من قبيلة منافسة لقبيلتها تدعى «هنود ديغر». لكنَّ المرأة عُثر عليها على بُعد مئات الكيلومترات من أي قرية للهنود الحمر، حسبما أفاد التقرير.

وأضاف التقرير: «في ذلك الوقت، كانت المرأة ترضع طفلة ابنة عامين. اعترفت المرأة أنَّها تحب هذه الطفلة حباً جماً، وإن كانت أنكرت كونها أمها. اُطلِق على هذه الطفلة اسم ‘جوليا باسترانا’».

من خادمة إلى العروض الحية

نشأت جوليا في منزل أسرة بيدرو سانشيز، الذي كان حاكماً لولاية سينالوا المكسيكية، وعملت فيه كخادمة.

في عام 1854، نُقِلت باسترانا إلى الولايات المتحدة، حيث وُضِعت للعرض حتى يراها الناس. ونشرت صحيفة Baltimore Sun الأميركية إعلاناً عن باسترانا في التاسع من نوفمبر عام 1855، واصِفةً إياها بأنَّها «نصف إنسانة ونصف دب». وكانت رؤيتها في قاعة كارول تُكلِّف البالغين 25 سنتاً، والأطفال 15 سنتاً.

حتى وهي تلد!

في هذا الوقت تقريباً، تزوجت من ثيودور لنت، المدير الذي استمر في استغلالها. وحين أصبحت باسترانا حاملاً بطفلهما، باع لينت تذاكر للجمهور لمُشاهدتها وهي تلد.

وفي عام 1857، وفقاً لصحيفة Standard London، دعا لنت الصحفيين إلى «وجبة غداء أنيقة بغرض رؤية جوليا باسترانا في أجواء من العلاقات الودية أقل جموداً مما يكون الأمر عليه في ظل الحواجز العامة».

وكتبت صحيفة Standard: «ننسب للسيد لنت الفضل في تقديم هذا الكائن الرائع للعالم بطريقة شرعية تماماً. جدياً، المرأة الشابة هي محط فضول جدير بالملاحظة، وليست مُثيرة للاشمئزاز مثلما جعلها فنانون مُبدعون من مدرسة نشر الملصقات والإعلانات، لكنَّها مع ذلك تظل غير عادية بدرجة تخلق شعوراً بالحزن والأسى، والذي كان من شأنه أن يكون أكثر شدة لولا أنَّ الشابة نفسها تبدو سعيدة تماماً. يُقال إنَّها مكسيكية المولد، لكن لديها علامات لا تخطئها عين على وجود دم زنجي يجري في عروقها».

فوجئوا أنها إنسانة مثلهم

اندهش الصحفيون من أنَّها كانت إنسانة بالفعل.

 

وكتبت صحيفة Liverpool Mercury في عام 1857: «للوهلة الأولى، يبدو مظهرها مرعباً إلى حدٍ ما، لكن عند معرفتها بشكلٍ وثيق، تختفي إلى حدٍ كبير أي فكرة مُسبقة عن وجود شيء فظيع أو وحشي. وهي تُظهِر قدراً كبيراً من الذكاء، وتجيب عن الأسئلة التي وُضِعت لها بسهولة، وأحياناً تُظهِر مهارة الذكاء وتقديراً للفكاهة. وتغني جوليا أغاني باللغتين الإسبانية والإنكليزية، وتتحدث باللغتين بطلاقة جيدة نوعاً ما. وكدليل على قدراتها الصوتية، غنَّت أغنية «The Last Rose of Summer» بأسلوب مُمتع جداً. كما أنَّها ترقص بجمال وأناقة لا يضاهيها فيهما معظم أساتذة الفن الأكثر شهرة».

توفيت باسترانا بعد 3 سنوات في موسكو، في عام 1860، أثناء مُضاعفات الولادة. وواصل زوجها القيام بجولة ومعه جثتا باسترانا وابنهما مُحنطتين لسنوات. بعد وفاته، احتُفِظ برفاتها في جامعة أوسلو في النرويج.

في عام 1998، تحولت حياتها إلى مسرحية بعنوان «The True History of the Tragic Life and Triumphant Death of Julia Pastrana, the Ugliest Woman in the World»، بقلم شون برندرغاست.

أخيراً بعض الكرامة

وفي عام 2013، مُنِحت باسترانا أخيراً بعض الكرامة. فبناءً على طلب من الحكومة المكسيكية وبعد حملة قوية قادتها الفنانة لاورا أندرسون بارباتا، التي كتبت كتاباً عن باسترانا بعنوان «The Eye of the Beholder: Julia Pastrana’s Long Journey Home«، أُعيد جُثمان باسترانا إلى ولاية سينالوا المكسيكية، حيث دُفِنت بعد قداسٍ للروم الكاثوليك في كنيسةٍ محلية.

ووفقاً لوكالة Associated Press الأميركية، قال ساؤول روبيو أيالا، عمدة بلدتها «سينالوا دي ليفا»، للصحفيين: «لقد عادت جوليا باسترانا إلى الوطن. لقد وُلِدت جوليا من جديد بيننا. دعونا لا نرى أبداً امرأة أخرى تتحول إلى غرضٍ للتجارة».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى