وجوه

تعرف علي حكاية المعتقل اليمني وقصته في الحب والزواج بجوانتانامو

استعرضت صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية حكاية اليمني منصور الضيفي المعتقل السابق في جوانتانامو بين عامي 2002 و2016، ويرزي الضيفي قصته مع الحب والزواج في السجن.

 

ويقول الضيفي ” أن بلغت الخامسة والثلاثين من عمري، كانت العلاقة الأهم التي حظيتُ بها كشخصٍ بالغ هي علاقتي مع زاحفة إغوانا (نوعٌ من الزواحف)”.

منصور الضيفي: معتقل سابق بمعتقل جوانتانامو بين عامي 2002 و2016.

منصور الضيفي

لم يكن سهلاً التعرُّف على أي شخصٍ في المكان الذي كنتُ فيه طوال فترة العشرينات وقرابة منتصف الثلاثينات من عمري، هناك في معسكر السجن بقاعدة خليج غوانتانامو البحرية في كوبا. بعد وصولي المعتقل، زُجَّ بي في زنزانة حبسٍ انفرادي، حيث تعمل مراوح ضخمة خارج كل زنزانة ليلاً ونهاراً، مُحدثةً ضجيجاً يصمُّ الآذان بهدف منعنا من التحدث إلى بعضنا البعض، حسب الصحيفة الأميركية.

وحتى حينَ كنا نخرج للاستجمام، لم يكن مسموحاً لنا التحدث إلى المعتقلين الآخرين. لكنَّنا بالفعل التقينا بأصدقاء جُدد في الخارج: القطط، والجرذان، والطيور الصغيرة، وزواحف الإغوانا التي دخلت من خلال أسوجة السجن، تطلب مشاركتنا وجباتنا.

صداقة فريدة مع فتاة جميلة!

حظيتُ بصداقةٍ جيدة مع سيدة شابة جميلة أنيقة للغاية، لكنَّها كانت إحدى زواحف الإغوانا. اعتادت المجيء كل يومٍ في الموعد ذاته، وكان علينا تناول طعام الغداء معاً. حين شرعتُ في الإضراب عن الطعام، لم يكن لدي ما أُقدمه لها، وكنتُ خجلاً من الوقوف هناك دون طعامٍ كلما اقتربت مني. أحياناً كان يعاقبنا الحُراس على مشاركة وجباتنا مع الحيوانات، لكن لم يكن بمقدورهم منعي من التحدث إليها.

لم تستطع تبادل الحديث معي بالطبع، لكنَّها كانت مُستمعةً جيدة. ومع مرور السنين، تطورت صداقتنا لعلاقة وطيدة.

7 سنوات من العزلة انتهت بزنزانة جماعية

وأخيراً، بعد سبع سنواتٍ من العزلة، انتقلتُ إلى مبنى زنازين جماعي حيث أصبح بإمكاني التحدث إلى زملائي المُعتقلين. لقد وُلِدتُ في قريةٍ صغيرة في جبال اليمن، ولم أكن أبلغ سوى التاسعة عشرة من عمري حين قدمتُ إلى معتقل غوانتانامو. لم أكن أعرف الكثير عن العالم؛ إذ كانت قريتي هي العالم بالنسبة لي. أما الآن، فعالمي هو غوانتانامو.

لم أكن أعرف شيئاً عن الزواج

كان في اعتقادي، حتى بلغت الثانية عشرة من عمري، هو أنَّني وُلِدتُ من ركبة أمي. وتعلَّمتُ في المدرسة كيف يُولَد الأطفال حقاً، لكن لم يكن هناك أي مواعيد غرامية في مجتمعي، لذا ظلَّت معرفتي شيئاً نظرياً. ينطبق الشيء ذاته على معظمنا؛ إذ تسنَّى لعددٍ قليل جداً منَّا الزواج أو معرفة الكثير عن العلاقات بين الرجل والمرأة.

لكن الحديث عن النساء كان ممتعاً

ورغم ذلك، كان الحديث عن النساء هو موضوعنا المُفضَّل. ليس بطريقةٍ سيئة؛ إذ يُحرَّم علينا كمسلمين التحدث عن النساء على نحوٍ سيئ. لكنَّنا تحدَّثنا عن النساء لأنَّه أمرٌ يُشعِرنا بالارتياح. وحين يهُم شخص ما بالحديث عن امرأةٍ، يُصغي الجميع إليه. فيما نحن محاطون برجالٍ، كُنَّا نتخيَّل النساء المُحِبّات.

وكنا نفتقد الإناث

لم نكن الوحيدين الذين يفتقدون وجود النساء؛ إذ كان يُراود الحُراس الذكور الشعور ذاته، أيضاً. فلم يكن هناك سوى عدد قليل من الحارسات الإناث.

وبدأنا بتلقي دروس من المتزوجين

كان أحد المعتقلين المتزوجين الأكبر سناً يرى أنَّ المعتقلين العُزَّاب كانوا يرغبون بشدة في معرفة الكثير عن النساء، لذا قرَّر الرجل تلقيننا دورساً. اعتدنا تنظيم الحصص والاستفادة من بعضنا البعض في معرفة أي شيء آخر يمكن تعلُّمه.

» ششش ششش » إنه يطبخ!

على سبيل المثال، قدَّم طباخٌ سابق دروساً في الطهي، وكان يقول: «الآن، سأضيف البصل إلى الزيت الساخن»، بينما يُقلِّد صوت البصل المقلي قائلاً «ششش ششش». كان يفعل هذا لأنَّنا بالطبع لا نملك بصلاً أو زيتاً أو حتى موقداً. وكان يُلقي نكاتاً، ويطلب من الطلاب أن يتذوقوا الأطباق لتحديد ما إذا كان بها ما يكفي من الملح، أو ما إذا كانوا يعتقدون أنَّ اللحم جاهز لتناوله، برغم عدم وجود ملح أو لحم.

لم يعجبني هذا الدرس، كان يجعلني فقط أشعر بالجوع

كيف نعامل النساء؟

في يومنا الأول في درس الزواج، بدأ مُعلمنا بالطلب من كلٍ منَّا طرح فكرته حول الكيفية التي يجب أن يعامل بها الرجال النساء. واتفقنا جميعاً على أنَّ الرجال ينبغي عليهم تقديم الاحترام المُطلق للمرأة، لكن الكثير من الطلاب قالوا إنَّ الرجال كانوا دائماً، وسيظلون على الدوام، قوَّامين على النساء.

 وماذا عن العكس؟

ثم طرح المعلم سؤالاً: «إذا كنتم نساء، كيف تجيبون على سؤالي؟ كيف تريدون أن يعاملكم الرجال؟»

في البداية شرعنا في الضحك، مُتخيلين بعضنا البعض كنساء، يقول الضيفي للصحيفة الأميركية.

وصاح أحد المعتقلين في وجهي، قائلاً: «انظر إلى منصور والشعر المنتشر في كل جسده. ستُخيف جميع الرجال».

وقال آخر: «لو كنتُ امرأةً، سأجعلكم جميعاً تحلمون، وتبكون، وتُنفقون كل أموالكم، لكنَّ أياً منكم بوجوهكم القبيحة لن يمسَّ شعرةً واحدةً مني».

تركنا مُعلمنا نتبادل النكات لبرهةٍ، ثم قال

«أجبنَ سؤالي أيتها السيدات!».

قُلت إنَّني إنَّ كنت سأختار شخصاً ليرافقني بقية حياتي، كنتُ سأرغب في زوجة أفضل مني.

حاول أحد الطلاب إحراجي بقوله: «إذاً هل ستسمح لزوجتك بتولي المسؤولية؟ هل ينبغي على الرجال فقط أن يكونوا مثل الحمير، يخدمون النساء؟»

جادلتُه بأنَّ الرجال لطالما كان يُعتَقَد أنَّ لهم القوامة على مر التاريخ، لكن انظر أين نحن الآن. تتتابع الحروب بلا نهاية. لا يمنح الرجال أبداً الحياة لروحٍ واحدة (كما تفعل النساء عند الإنجاب)، هم فقط يُزهِقونها.

قُلتُ إنَّ جميعنا، مذنبون وأبرياء، كنا نجلس في أنحاء معتقل غوانتانامو نتبادل الحديث عن الزواج بدلاً من معايشته، بسبب ما اقترفته أيدي الرجال. وأنهيتُ كلامي بالإشارة إلى أنَّنا جميعاً نعلم أنَّه حين يكون القائد المسؤول عن حراستنا أنثى، سننعم بحياةٍ أكثر سلمية. وحين يكون القائد رجلاً، نُصبح أكثر عرضةً لسوء المعاملة.

قال أحد المعتقلين ضاحكاً: «منصور متحيِّزٌ للنساء».

وقال آخرٌ: «لو كنتَ امرأةً، كنتُ لأتزوجك».

أحاديث الحب في الزنزانة الجماعية

وفيما واصلنا الالتقاء من أجل دروس الزواج، أخبرنا معلمنا عن أن تحب وأن تكون محبوباً. وصف لنا ما كنا سنشعر به حين نرى أو نتحدث مع المرأة التي أحببناها، وأخبرنا كيف كنا سنتصرَّف في يوم خطبتنا.

ويوم الزفاف.. رقصنا!

وبعدها تلقينا درساً كاملاً مُخصصاً للحدث الأكبر في حياتنا، يوم الزفاف. تظاهرنا بأنَّ أحد الطلاب سيتزوج، وأقمنا له حفل زفافٍ يمنياً تقليدياً. غنينا ورقصنا كما لو كان زواجاً حقيقياً.

وشعرت بعذوبة الحب

لم يسبق أبداً أن كنتُ في علاقة حب، لكنَّني الآن أشعر بعذوبته. وكما هو الحال مع درس الطهي، جعلني درس الزواج أكثر توقاً إليه. وشعرتُ بندمٍ على عدم إقدامي على الزواج قبل قدومي إلى غوانتانامو. شعرتُ أنَّ جزءاً من نفسي مفقود، وكان ذلك الجزء هو الزوجة والعائلة.

وتبنيت صورة البنت الشقراء!

لفترة من الوقت، كان بحوزتي في الزنزانة صورة من صديقٍ لابنته ذات الـ10 سنوات. صنعتُ إطاراً من قصاصات الورق المقوى مُحاطاً بالزهور وعلَّقتُ الصورة على الحائط. كلما أتى الزائرون إلى زنزانتي، كنت أخبرهم أنَّها ابنتي.

وأسميتها أمل

وحين تبدو عليهم الدهشة من أنَّ لدي ابنة شقراء ويشرعون في طرح الأسئلة عن الأم، كنتُ لأقول إنَّني لم ألتقِ بها قط، لكن مع ذلك، كان لدي ابنة تُشبهها تماماً. أطلقتُ عليها اسماً عربياً، أمل، بما يحمله من دلالة، يواصل الضيفي للصحيفة الأميركية.

لكن الحراس أضاعوها

في إحدى الليالي، أتى الحُراس وأطلقوا علينا رذاذ الفلفل ومزَّقوا كل شيء في زنزاناتنا. أضاعوا أملي.

كان يمكن أن أتوقف عن حضور دروس الزواج. وكان يمكن أن أتوقف عن التوق إلى الحب. لكنَّ الشيء الوحيد الأصعب من العيش بلا حب هو العيش بلا ألم. يُخبرنا الألم أنَّنا أحياء، وأنَّنا لا يزال بإمكاننا أن نشعر. أحياناً، يكون الألم كالحب. ولأنَّ بإمكاني تخيُّل الحب، حتى من دون صورتي، فلا يزال لدي أمل.

وعرضت أمي ترتيب زواجي!

في النهاية، وبعد سنواتٍ عدة من عدم التمكن من التحدث مع عائلتي، سُمِح لي بمهاتفتهم، وكُنا نتطرق للحديث حول احتمالية ترتيب زواج لي، وكنتُ أميل لقبول هذا الأمر. ولكن في درس الزواج، كنا قد ناقشنا مشكلة الزواج القسري في بعض البلدان. آلمتني فكرة أن تُباع الفتيات مثل الأغنام، وهكذا رفضتُ احتمالية مثل هذا الترتيب.

في اليوم الأخير من درس الزواج، أخبرنا مُعلمنا أن نتذكَّر دوماً كيف أجبنا على سؤاله الأول عن كيف يجب أن يُعامل الرجال النساء. جميعنا نملك إجابات مختلفة الآن. وصل المعلم إلى مُبتغاه، وتمنَّى لنا أن نحظى بزواجٍ سعيد وحياة طيبة يتخللها الحب.

وأطلق سراحي أخيراً

في عام 2016، وبعد أن كنتُ مُحتجزاً لأكثر من 14 عاماً، أُطلِق سراحي من غوانتانامو. لكن لم يُسمَح لي بالعودة إلى دياري في اليمن. وعوضاً عن ذلك، أعيش الآن في صربيا. أنا وحيدٌ، لم أجد امرأةً حتى الآن لتكون صديقتي وزوجتي، تُعلِّمني فن الحب. ولم يعد لدي حتى إيغوانا بعد الآن.

والضيفي هو مواطن يمني احتجز بدون تهمة في معسكر الاعتقال الأميركي في كوبا المعروف بـ»غوانتانامو» في الفترة من فبراير/شباط 2002 وحتى يوليو/تموز 2016، وجرى لاحقاً إطلاق سراحه ونقله إلى صربيا بعد أن اعتبر أنه «لا يشكل خطراً مستقبلياً على أمن الولايات المتحدة».

لكني تعلمت من «إيغوانا»

لكن بفضل صديقتي، الإغوانا الجميلة، تعلَّمتُ كيف أعتني بالآخرين. إذ ذكَّرتني كيف أتواصل مع الحياة بينما كنتُ أقبع خلف أسوار السجن. وبفضل دروس الزواج التي تلقيتُها هناك، أعرف أنَّني سأصير يوماً ما زوجاً صالحاً وأباً مُحباً.

أملي لا يزال حياً، ويُساعدني على مواجهة مشاق حياتي اليومية. أتمنى لو بإمكان الأمل والحب مساعدتنا في مواجهة المشاق التي نواجهها كأمم أيضاً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى