وجوه

مصري “كيبورك يعقوبيان” اخترق صفوف الجيش الإسرائيلي

لم تكن مهمة الجاسوس كيبورك يعقوبيان سهلة على الإطلاق، فقد طمحت المخابرات المصرية في شابٍّ فائق القدرات في كلِّ شيء، شاب له ذكاء استثنائي، يمكن زرعه في إسرائيل.

لم تهدف إلى أن يعيش وسط المجتمع الإسرائيلي، أو يحصل على معلومات اجتماعية من قلب الشارع أو يكون ناجحاً فيقترب من الساسة وصنّاع القرار ويأتي بمعلومات سياسية، كانت المهمة أكثر دقة وأصعب بكثير من هذا.

الهدف: أن يتم زرع شاب مصري في الجيش الإسرائيلي.

ليس هذا فقط بل أن يحاول الانضمام لوحدة القوات الخاصة أو سلاح الاستخبارات الحربية.

كانت المخابرات المصرية تأمل بأن يتم لجاسوسها هذا الأمر فقط لمُدة عام واحد لا أكثر.

عامٌ واحد ينخرط فيه جاسوسها وسط الجيش الإسرائيلي، يخوض تجربة الجندي مُنذ بدايتها، بدءاً من مكتب التجنيد، ثم وحدة المُستجدّين، ويُصادق جنوداً إسرائيليين.

ويتحدَّث معهم ويختبر مشاعرهم عن قرب، يتعامل مع المُعدات والأدوات الحربية للجيش ويُحاول استخدام الكاميرا لتسجيل كل ما يراه.

 

الجاسوس كيبورك يعقوبيان.. نقطة البداية

في منتصف ديسمبر/كانون الأول عام 1961، أبحرت السفينة «يَمِيت» من ميناء جنوا الإيطالي، إلى ميناء حيفا.

وعلى متنها «إسحق كاوتشوك» البالغ من العمر 24 عاماً، لكن أوراقه تُفيد بأنه فى السابعة والعشرين، وكاوتشوك هو الجاسوس المصري المنشود.

لم يكن عمره فقط مستعاراً، لكنَّ اسمه أيضاً، فاسمه الحقيقي هو كيبورك يعقوبيان، مصري – أرمنيّ الأصل وُلد عام 1938.

كان طالباً متفوقاً، يهوى التصوير الفوتوغرافي، وتنقّل في مراحله التعليمية بتميُّزٍ ملحوظ حتى أوشك على الالتحاق بالجامعة، في هذه المرحلة.

تحديداً حينما كان على أعتاب العشرين عاماً، توفي والده، وتركه العائل لوالدته المُسنّة، كما عليه البدء في تحمل نفقات نفسه أيضاً.

صفقة المخابرات المصرية مع كيبورك

قرَّر كيبورك حينها أن يُحوّل الهواية التي لا يعرف غيرها إلى مِهنة، فَحمل كاميرته، وبدأ يتجوَّل بها في الحدائق والمُتنزهات، كي يلتقط الصور للراغبين في تصوير ذكرياتهم.

لم يكن الدخل الذي يأتي به العمل يفي باحتياجات كيبورك، فقرَّر أن يطور أدواته بعض الشيء، ويُجري بعض محاولات الاحتيال البدائية.

لكنَّه لم يكن بالمهارة الكافية فألقي القبض عليه، ووجد نفسه يقضي عقوبة السجن 3 أعوام في أحد السجون المصرية.

لم يقضِ كيبورك فترة عقوبته كاملة، فبعد ثلاثة أشهر فقط، عُرض عليه عرضٌ لن يستطيع رفضه؛ سيخرج من السجن مُقابل قبول المَهمَّة المعروضة عليه.

وليس فقط الخروج من السجن، ولكن أيضاً تأمين مُستقبله ومُستقبل أسرته مادياً، أما المَهمة فهي: العمل لصالح المُخابرات المصرية.

كان كيبورك مُناسباً تماماً بالنسبة للمُخابرات المصرية، فهو شابٌ وسيم، لديه موهبة في تعلُّم اللغات.

فَقبل أن يتم عامه الثاني والعشرين كان مُتقناً لنحو خمس لغات: الإنكليزية، والفرنسية، والتركية، والعربية، والإسبانية.

وبعد الموافقة على العرض بدأ إعداد الخطة، إذ كان من المُقرر أن يتقمَّص كيبورك شخصية يَهوُدي مُتديِّن حتى يستطيع أن يحظى بالثقة والاحترام في المُجتمع اليهودي بسرعة.

وهو ما اضطر كيبورك لتَعلم كل ما يتصل باليهودية؛ لأنه في هذا الوقت لم تكن المُخابرات لتأمن لتجنيد أحد اليهود المصريين، خاصة حينما ازداد انتشار الحركة الصهيونية في مصر.

الخطوة الأولى: تقمُّص شخصية يهودي مُتدين

بدأ كيبورك في التردد على المعبد اليهودي وسط  العاصمة المصرية الكائن في شارع «عدلي»، شارك في الأعياد والصلوات.

وتعلَّم العادات والطقوس الدينية اليهودية، وبدأ في ممارستها وجعلها تتخلل حياته اليومية الطبيعية، كما قرأ الكثير من الكتب والصحف التي تتحدث عن إسرائيل.

في أحد المنازل الآمنة بالقاهرة استغرق إعداده عاماً كاملاً، تم تدريبه على كيفية جمع المعلومات وتحليلها، والتخلُّص من المُراقبة

واستعمال الحبر السرّي، وتصغير الصور، والتركيز على تدريبه كان في كيفية تقمُّص الشخصية اليهودية

وكان من الضروري إخضاعه لعملية ختان، فاليهود يحرصون على ختان ذكورهم، وهو الأمر الذي يُعدّ دليلاً على الولاء للعقيدة اليهودية.

خلال عملية الإعداد والتأهيل بتفاصيلها الكثيرة والمُتشعبة، كان يتم تجهيز أوراق كيبورك ووثائق إثباته الجديدة التي سيستخدمها في مَهمته

كان على كيبورك أن يُقدّم نفسه للمجتمع اليهودي عامةً والإسرائيلي خاصةً بوصفه ابناً لعائلة يهودية – تُركية لجأت إلى العاصمة المصرية من اليونان

بعد أن مرّت بظروفٍ عصيبة إثر هروب الوالد من الأسرة، فقررت الأم أن تصحب ابنها للعيش في مصر، حيث توفيت ودُفنت بمقابر اليهود.

تحوُّل كيبورك إلى كاوتشوك

في الأوراق تحوَّل كيبورك إلى كاوتشوك، وكانت لا يتحرك إلا بأوراق هويته الصادرة عن الطائفة اليهودية بالقاهرة.

المحطة التالية لكيبورك كانت البرازيل، فحمل شهادة اللجوء التي حصل عليها من وكالة اللاجئين التابعة للأمم المُتحدة عام 1960

وتوجَّه لقنصلية البرازيل طالباً التصريح بالهجرة، وعلى متن السفينة المُبحرة إلى البرازيل تعرَّف كيبورك على أرجمان

وهو شاب إسرائيلي في الثلاثين من عُمره، كان ذاهباً برفقة زوجته وابنتيه إلى البرازيل في زيارة عائلية.

كان أرجمان يهودياً عميق التدين، ما جعله ينبهر بكيبورك اليهودي المُتدين الهارب من القاهرة

وزاد تأثره به حينما بدأ كيبورك يشكو وحدته ولوعة فراق أمه وتعرضه للاضطهاد والتعذيب في مصر

تعاطف أرجمان معه كثيراً وعرض عليه خدماته في أي وقت يحتاج إليه، وأخذ يلّح عليه بحماس أن يذهب معه إلى إسرائيل، لكن كيبورك رفض مؤكداً أنه يرغب في الاستقرار بأميركا اللاتينية.

طيلة الشهرين اللذين قضاهما الشاب وأسرته في البرازيل، ظلت المُقابلات مُستمرة بينهم وبين كيبورك، وأخذ أرجمان يحكي له عن تاريخ الصهيونية، والاستيطان اليهودي في فلسطين

وظل يُلحُّ عليه في الذهاب إلى إسرائيل، التي تحتاج لجهد الشباب اليهودي المُخلص من أمثاله ليكتمل بناؤها، ثم عرض عليه تعريفه بمسؤولي الوكالة اليهودية، ليشرحوا له حقوقه كمواطن.

ظل كيبورك مُتمسكاً بأداء التفكير الحائر المُتردد أمام أرجمان، ثم استجاب أخيراً تحت الضغط والإلحاح. وحينما حانت لحظة رحيل أرجمان عن البرازيل

لم ينصرف إلا بعد أن حظى بوعد من صديقه الجديد بأنه سيأتي إلى إسرائيل، إن لم يكن في هجرة نهائية، فسيكون في زيارة طويلة عن قريب.

بعد سفر عائلة أرجمان، انتقل كيبورك للإقامة في ساو باولو، وهناك حصل من السلطات المحلية على بطاقة برازيلية سليمة

وكانت خانة الديانة بها تُفيد بأنه يهودي. وفي نهاية عام 1961، توجه كيبورك إلى الوكالة اليهودية وتقدّم بطلب هجرة.

كان ضابط المُخابرات المصرية المُكلف متابعته قد أخبره بأن عليه العمل في إسرائيل بهدوء وبالتدريج

فلا بدّ أولاً من الانخراط في المجتمع الإسرائيلي، وألا يتهوَّر بأخذ أي خطوة تالية قبل تلقِّي أوامر واضحة بذلك.

كانت الخطة واضحة ومحبوكة: سيصل كيبورك إلى إسرائيل وهو في سنّ التجنيد، وسيتم ضمّه إلى جيش الاحتلال

وعليه أن يجتهد في الانضمام إلى القوات الخاصة أو سلاح المُدرعات، أو شعبة الاستخبارات الحربية التي قد تفضّله، لإجادته اللغة العربية.

وصل الآن إلى فلسطين المُحتلة

في نهايات عام 1961، وصل كيبورك إلى فلسطين المُحتلة، واتصل بصديقه أرجمان يُخبره بمجيئه.

استخدم أرجمان علاقاته بالوكالة اليهودية، واستطاع توفير حجرة مُشتركة لمعيشة كيبورك، ومَدرسة لتعلُّم اللغة العبرية.

بعد فترة، اشتكى كيبورك من أنه لا يستطيع النوم مع شخصٍ لا يعرفه، وكان الهدف هو تنفيذ خطة المُخابرات المصرية

التي طلبت منه أن يبقى بالقرب من قطاع غزة، حتى يتمكنوا من تخليصه وقت اللزوم، كما أن هذا القرب الجغرافي يُتيح السرعة الكبيرة في نقل الرسائل.

تمكَّن كيبورك من الانخراط سريعاً في المجتمع الإسرائيلي واستطاع أن يحصد محبة الجميع

ساعده في ذلك إتقانه الكثير من اللغات، وزاد عليها تعلُّمه البرتغالية في البرازيل والعبرية.

حينما كان يُحدثه أحدهم بشأن مُستقبله، كان يبدو عليه الكثير من التردد، ويجيب بأنه سيتعلم العبرية، أو سيُنشئ استوديو تصوير خاصاً به

على الرغم من تعمُّده أن يُريهم صوراً مُهتزة، ليُعطيهم انطباعاً بأنه مُصور هاوٍ فقط.

في النهاية، زاد احترامهم إياه حينما أخبرهم بأنه ينوي الانضمام إلى الجيش الإسرائيلي.

ثمّ انضم إلى الجيش وبدأ فيضان المعلومات يصل للقاهرة

في الجيش كان الجميع يعرف أنّه يهوى التصوير. فكان يُصور زملاءه للذكرى وفي الخلفية مُعدّات الجيش ومبانيه.

تم تجنيده في سلاح النقل بالجيش الإسرائيلي، وتدرب على قيادة سيارات النقل الثقيلة في قاعدة عسكرية بمنطقة بيت نبالا بالقرب من مدينة اللّد.

لاحقاً، عُيّن سائقاً لأحد الضباط الكبار في قيادة الدفاع المدني وهو العقيد شمعيا بكنشتين، وهي الوظيفة التي مكّنته -بعدما حظي سريعاً بثقة رئيسه- من الإطلاع على الكثير من المعلومات السرية

التي ساعدت المُخابرات المصرية في فهم العمل العسكري والتسليح بالجيش الإسرائيلي.

كان نهراً من المعلومات يفيض من إسرائيل إلى القاهرة، لكن بعد عامٍ واحد بدأت مصادر كيبورك تنضب شيئاً فشيئاً

فصدر قرار من المُخابرات المصرية يُلزم يعقوبيان إنهاء مهمته في الجيش والاستعداد لمهام أخرى داخل المجتمع الإسرائيلي.

خطاب بالحبر السري تسبب في سقوط «الحوت»

التحق كيبورك، للعمل مصوراً، بأحد أكبر استوديوهات حيفا، وحينما كان يخلو بنفسه في حجرته كان يُدير مؤشر الراديو على إذاعة «صوت العرب»

حيث يتلقَّى التعليمات المُشفّرة التي تُرسلها إليه المُخابرات المصرية من خلال البثّ الإذاعي.

قُبض على كيبورك بعد عامين من العمل مع المخابرات المصرية. في ديسمبر/كانون الأول عام 1963.

طرق رجال الشرطة المحلية والشاباك باب منزل كيبورك وقاموا بتفتيشه وإلقاءالقبض عليه، لم يرتكب كيبورك خطأ واحداً يؤدي إلى كشفه.

لكن لسوء حظه كانت إسرائيل في ذلك الوقت أسيرةً للهواجس الأمنية، ويحكمها رجال المخابرات

فتم مُراقبة جميع الرسائل الصادرة من إسرائيل إلى الخارج يفضّها عمال البريد، ويُرسلون ما يُثير الريبة لجهاز الأمن الداخلي «الشاباك».

من بين هذه الرسائل، بحسب موقع الشاباك، كان هناك خطاب مشتبه فيه، تم إرساله إلى عنوان في روما.

معروف لدى الإسرائيليين بأنه مكتب تابع للمخابرات المصرية، لم تنجح محاولات الأجهزة الأمنية الأولى لتحديد هوية ذلك الشخص.

وضبطت الرقابة العسكرية خطابات أخرى أرسلها الشخص نفسه إلى روما.

وأظهرت الفحوصات المعملية التي أُجريت للخطابات، أنها تتضمن رسائل كُتبت باللغة العربية، ولكن بالحبر السري، بعدها تم التوصل إلى كيبورك وإلقاء القبض عليه.

صفقة المُبادلة..

في أثناء محاكمته، وصفته صحيفة «يديعوت أحرونوت» بأنه: «حوت ضخم ليس بإمكان أجهزة الأمن الإسرائيلية القبض على العديد مثله».

حكمت المحكمة عليه بأقصى عقوبة، وهي 18 عاماً سجناً، لكنّه ظل في السجن عامين فقط.

بعدها أطلق سراح كيبورك مع اثنين من الفدائيين الفلسطينيين، اعتُقلا وهما في طريقهما لتنفيذ مهمة، في المقابل تسلّمت إسرائيل 3 من  الإسرائيليين اجتازوا الحدود المصرية عن طريق الخطأ.

اليهود الثلاثة تجار خضراوات، اجتازوا الحدود عام 1965 لشراء البطيخ من قطاع غزة، فاعتقلتهم دورية تابعة للأمم المتحدة، وسلّمتهم لمصر.

استغلت مصر الفرصة وطالبت إسرائيل بالإفراج عن كيبورك والفدائيين الفلسطينيين مقابل الإسرائيليين الثلاثة.

في البدء، رفضت إسرائيل الصفقة، إذ اعتبرت ألا يجوز مبادلة جاسوس وفدائيَّين بثلاثة مدنيين اجتازوا الحدود عن طريق الخطأ.

لكنها في النهاية استجابت وقبِلت الصفقة. عاد كيبورك بعدها إلى القاهرة، ليتوارى عن الأنظار، ولم يُعثر له على أثر بعد ذلك.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى