ثقافة وفنون

التعبير التشكيلي عن قضايا المرأة بين التصورات الغربية، والرؤى الشرقية، في تجربة السوري خالد ترقلي أبو الهول، والأمريكي إيدي كولا

كتبت.. بشرى بن فاطمة

للفن التشكيلي المعاصر رؤاه ومداه المبالغ في التجريب والتمرد والخامات والأفكار التي تفجر عمق التساؤلات الوجودية وتلتزم بالقضايا الإنسانية انطلاقا من الفرد كذات وتعبيرا عن المجتمع وقضية المرأة ككيان.

فالمرأة لم تنفصل عن الفن التشكيلي في حضورها المشبع بالترف والحكايات والرمزية والتفاصيل الجامعة بين الواقع والحلم بين رومنسية وشهوانية الجسد وانفلات الروح والتحرر من قفص العادات والتقاليد أو الاستهلاك والعرض فكل مجتمع يعبّر عن المرأة كعنصر بثقافته ودرجة وعيه التي يبني بها أعماله ولعلنا هنا نقع على تجربتين متشابهتين متناقضتين من عالمين مختلفين، تجربة السوري التركي خالد ترقلي أبو الهول وتجربة الأمريكي إيدي كولا فكلاهما له فضاؤه التجريبي في النضج التعبيري ومدى اعتماده على الحركة والأسلوب وتطرفه الجمالي.

من أعمال خالد ترقلي أبو الهول

إيدي كولا وأبو الهول من الصدمة إلى الترويع مواقف ومنافذ أمل

سخّر خالد ترقلي أبو الهول الموروث العربي من خط وعلامات وألوان وحضور ليعبر عن واقع وقضية تمس المرأة بدرجاتها ومستوياتها والمجتمع الذي يقيدها في كل خطواتها وانفلاتاتها، أما إيدي كولا فقد أخذ من العالم الغربي الرؤى الرمزية الاستهلاكية الإعلامية الدعاية والاشهار للتركيز على الجسد وإخراجه من رؤية الفن الكلاسيكية إلى فنون الشارع التي تمردت على اللوحة المسندية بسذاجة ذات جماليات متطرفة في تناقضات القبح الساطع من مجتمع مرتّب في الظاهر وقائم على العنف الاستهلاكي والتمرد الصناعي والتكنولوجي في الباطن ما قاد إلى تشييء عناصر المجتمع ومحاصرتها في قوالب العولمة.

*من أعمال إيدي كولا

تحوّل إيدي كولا من التصوير الفوتوغرافي إلى الفن الشارعي ليخلق له بصمة خاصة تعتمد على الصورة التي تعبّر داخل الفضاء المفتوح عن الواقع المروّع الذي يعيشه المجتمع والعنف المخزن في السلوك والعواطف.

فأعمال إيدي تجلب الانتباه إليها أولا لأنها تحمل موقفا يعكس مشهدا صادما في ألوانه الداكنة وعلاماته الغامضة وتحوّل الحدث الواقعي إلى صور فنية بواقعية مفرطة في الإثارة، فالأعمال التي اخترقت الجدران وحوّلت المدن إلى كتب مفتوحة على المعاناة الاجتماعية والنفسية والصدامات التي تتشكل في شخوصه وملامحها في العنف وتثبيت الحركة والتحريك الانفعالي المقصود في الثبات الذي يعطي المتلقي الجواب عن استفساراته وتساؤلاته ومخاوفه وتداخله الحسي والذهني.

فالأقنعة والقفازات هي المؤشرات التي تعني الخوف الخطر ووجوب الحذر والاحتياط من بيئة ملوثة وطبيعة مغتصبة وهواء خانق والأوبئة حيث يركبها على ملامح المودلات كأجساد مشتتة في هول الواقع ومنها يخترق الفضاءات بتعتيم لوني يخلو من سمات الحيوية والحياة.

فهو يعبر بكل عناصر المجتمع عن ذلك الاكتمال بين الانسان والطبيعة فالخلل الحاصل بينها كعناصر خلق بدوره فجوات انفعالية وأمراض نفسية وتمييز اجتماعي وانقطاع كامل للتواصل بين الأفراد وبين الطبيعة عن تجربته يقول “كنت ولفترة طويلة مصورا فوتوغرافيا يقدم حملات دعائية وإعلانات وهذا الاتصال بعالم الصورة المثالية في جمالياتها الخادعة والواقع الدعائي المراوغ جعلني أنفلت نحو منفذ تعبيري أكثر إفراطا في واقعيته”.

لقد بدأ إيدي كولا شغفه المتمرد بفن الشارع منطلقا برحلة مع الصورة بأدق تفاصيلها التسويقية والدعائية ليحوّلها إلى رؤية واقعية مفرطة حيث حوّل مهارته الخداعية من خلال الفكرة والتجارة والتسويق إلى علامات رمزية فنية زرعها في الصورة فكرة مروعة كالواقع بكل احتمالاته القاسية التي حمّلته فكرة تجريدية غيرت في ذهنه وحواسه قوالب الجمال وقيمه والنظر إليه كواقع لا كسلعة ومن هنا تحرّر هو نفسه من سجن الاستهلاك وسطحية الفكرة الجمالية، فأصبح يصور بلا حيلة بحثا عن الجوهر عن العمق بكل افرازاته من عنف ومعاناة وتطرف مبالغ كاشفا كل المفاهيم الاجتماعية والاقتصادية والنفسية والوجودية ليعبر عن شخصياته في كل حالاتها المتناقضة ضعفا وقوة سعادة وحزنا متعة وخمولا وبالتالي كان يفتش داخل التناقض عن القوة كيف يفجرها في المشهد ليخرجها عن صمت رضوخها للحالة.

وهذا الترتيب الذي يعمل من خلاله كولا هو انعكاس المرايا التي تفتح منافذ على الذات فتسمح بالتفكير في ذلك المصدر الداخلي الضعيف لأن القوة تأتي من المواضيع التي تشجع على إيجاد أنفسنا والقبض على الأمل من أكوام التناقضات والمآسي والتوتر المشحون وهنا تشرق لحظات الجمال التي تتناثر فيها الشوائب التي يجيد كولا توظيفها وترويضها جماليا للوصول إلى السلام الحقيقي الداخلي بين الذات والآخر والطبيعة وذلك التمشي الذي يخوضه في أعماله يثبت من خلاله أن الانسان ليس هشا كما يعتقد بل في عمقه بذرة تستحق أن يتأمل فيها ليكتسب مفاتيح السلام والأمان.

أما خالد ترقلي أبو الهول فقد ركّز على صورة المرأة الفكرة والجسد الواقع والحلم في توتراتها الحسية والذهنية وانفعالاتها الموظفة على دلالات المعنى المركب على الحرف العربي ليسرد برمزية التفاعلات الاجتماعية والدينية والسياسية التي تتكاثف لتجلد المرأة وتنتشلها من كيانها نحو التهميش والعنف المادي والمعنوي مثيرا صدمة تجرد السلوك من الفعل والحرية من الحياة في عتمة تغلق المرأة داخل سواد التسلط بين التفسخ والتشيؤ والانبتات من خلال الملامح المكمّمة والأجساد المعنفة والأحمر الباحث عن دلالته وسط التناقضات ليدل على الموت بدل الحياة.

*خالد ترقلي أبو الهول

إن العنف الجسدي والمعنوي في سلوكيات تقصي المرأة من حريتها وتقودها إلى الانغلاق المبالغ في التفتح المزعوم أو الرجعية حوّل الصمت والمسكوت عنه إلى ضجيج وفوضى تعبيرا عن التهميش عن التسلط الذكوري الساكن في العقليات.

وهو ما وظّفه بصريا اعتمادا على جسد المرأة مع العناصر المتكاملة مثل الحرف العربي والرموز ذات الدلالة العقائدية والاجتماعية، فرموزه عرّت المرأة كجسد للدلالة على السلب والرفض والتقييد طارحا استفاهاماته ومحتجزا الأجوبة في معتقل العادات التي تغتال الحضور المتصارع مع الفضاءات والأفكار.

فقد حمّل صورة المرأة مسؤولية الجسد والعقل والروح المتمازج مع الأحاسيس ومطالب الحياة وضرورة التواصل مع كل عناصر المجتمع بعيدا عن الصخب اللامجدي في البناء الفكري وفي مدارات النقص والمزاجية المفرطة التي تحرّك المرأة كما تشاء مرة تلقي بها في مسارات الانفتاح والحداثة وأخرى تغلفها بالعادات والمعتقدات والتهميش المبرر وهنا يصور أبو الهول الجروح والكدمات والصخب المتراكم في الحرف العربي المكرر المسلط ليخلق في اللوحة أصواتا تئن وتتألم وأخرى تحاول الغناء.

*من أعمال خالد ترقلي أبو الهول

تتراكم الانفعالات وتتفجر بأسلوب يمازج الواقعية والتعبيرية ليتفوق على تفاصيل الوجع بدهشة تنهك الأفكار المتراكمة والجدلية البصرية فخالد ترقلي أبو الهول وإيدي كولا لم يقعا في الطرح السوداوي بل حاولا خلق صدمة في الصورة والموقف لوصف العنف وألمه كمحاولة لاستفزاز ذهن المتلقي وحواسه وانفعالاته كدلالات بصرية تمضي بدفق ودفع تصاعدي يسمو بالهواجس والتساؤلات والمفاهيم المغلقة لفتح منافذ نور نابضة من خلال اللون والأشكال والتجسيد الإنساني والمعنى التعبيري.

ولعل المرأة تعد عنصرا بارز الحضور في أعمال كل من أبو الهول وكولا فقد وظفاها للدلالة على الهشاشة وعلى أنها الأضعف في المجتمعات باختلافاتها فهي الهدف المستضعف دوما الذي يصب فيه المجتمع والاستهلاك تناقضاته.

فرغم العنف المقصود في أعمال أبو الهول ورغم القسوة والترويع الباحثة عن القوة في أعمال كولا إلا أن الأمل ليس ضمانة في العمل الفني بقدر ما هو شكل من أشكال الطاقة التي تتضاعف في ظل الظروف القاسية والمعاناة فالصور التي يقتنصها كولا وفق فكرته وأحاسيسه ويشكلها من خلال ممارساته الفوتوغرافية لم تكن ترجمة حرفية للواقع أو مجرد تقليد لفن شارعي متمرد بفوضى بل هو توظيف للانتماء للعمق لماورائيات الحلم المرجو من كل عمل يوثق فنيا حالات إنسانية تجتمع على الفكرة فأبو الهول سرد مواقفه تشكيليا وكولا ترك أثره ومفهومه على الجدران ليتعمّق صداها الفعلي التفاعلي  فكلاهما يذكرانا بما نسعى لتجاوزه أو نسيانه ولكن كل بطريقته التي رغم مبالغاتها في الحدة تترك بصمة  ورغبة في التغيير.

*الأعمال المرفقة:

متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية

Farhat Art Museum Collections

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى