ثقافة وفنون

تجريد الحواف Hard Edge .. جماليات السرد البصري من رسم الأشياء إلى رسم الأفكار

في أواخر الخمسينات من القرن الماضي عرفت الفنون التشكيلية الحديثة تصنيفات تنوعت حسب الأسلوب والتعبير ودرجة الأداء البصري وتفاوت تعبيره وقد أثّرت تلك الفترة على التجريد بوصفه من التيارات الحديثة التي تفرّعت وتطوّرت وجارت التطوير التقني والمنهجي وبالتالي تماهى مع كل فكر وأسلوب وانتشر ليتفاعل مع الفنون البصرية OP-Art و Color Fieldأو الحواف  Hard Edge وهي الخصوصيات التي انطلقت من مفهوم الهندسة في التجريد إلى خصوصياتها التوليفية في البناء والمساحة والعمق والفراغ من خلال الأشكال والأحجام والمساحة واللون.

 

 

Ilya-Bolotowsky-1907-1981

 

استعمل هذا المصطلح لأول مرة سنة 1959 مع الناقد الأمريكي جولس لانجسنر حيث عبّر عن التجربة التجريدية في تكويناتها اللونية والهندسية بالحواف الحادة أو الصلبة Hard Edge وحاول تفسيرها من منطلق عبّر فيه بقوله “اللوحة الكلاسيكية المُجردة هي شكل من أشكال اللوحة ذات الحواف الحادة  فهي لا تختلف عنها غير أنها مُسطحة محدودة ذات حافة واضحة وحادّة وإن هذا النمط التجريدي لا يُقصد به استمالة ذاكرة أو ذكريات المتلقي بل توجيه تصوراته الذهنية بصريا من خلال تفكيك التفاصيل المبهمة لحركة اللون مع المساحة بشكل مستقل عن كل تصوّر فني”.

John-Mclaughlin

 

يعتمد تجريد الحواف على اللغة البصرية التي تشكّل محتواها من الفكرة التي ترتسم تفاصيلها الذهنية في تصوراتها الرؤيوية ما يمنح تلك الفكرة خصوصيات سردية متناسقة في تصاعدها وانطوائها وانعتاقها وعقدتها وانتشارها في المساحة حيث يمكّنها اللون من التوحّد والانسجام مع المساحة في مخاطبة الفكرة والحافة وتمتين العلاقة بين الفكرة والصورة بحيث يتحوّل المنجز من مجرد رسم للأشياء كما تُرى إلى تجسيد للأفكار حسب ذلك السرد فإلى أي مدى نجح ذلك الأسلوب في تصوّراته وما هي خصوصية تجريد الحواف؟

mario-grimaldi-1927-1997

 

يبدو التعامل الأولي مع أي عمل فني، يندرج ضمن هذا التصنيف تجريد الحواف الحادة، مفكّك التصور منفلتا من الطبيعة المألوفة بين العمل المبني على المشهدية إلى العمل الفني المبني على الذهنية فيُرى جدليات بصرية بين ألوان وخطوط تتصاعد أو تنحني تتوارى أو تختفي ما يخلق نوعا من الجدل الداخلي عن مدى التفكيك البصري للفكرة.

Pentti Tulla

 

تحتاج العملية الترتيبية البصرية إلى قدرات تعبيرية عن سلطة الحواف وجدل المساحة  الصراع الكامن للفوضى والترتيب في تراتبية التشويش والهدوء وهو ما يستعجل اللون بشكل يبحث عن التناسق المتوافق مع الفراغ من خلال المساحة، بما يثير فكرة الرمزية الاستدلالية للون نفسه لتعبّر عن فكرة يستدرجها الفنان نحو مسارات تصاعدية لها حدودها وحوافها التي يتحكّم فيها باللون ويأذن فيها لمساحة اللون الآخر بأن تحتل مكانتها وتثير فكرتها بدورها، فكأنها مدار مسرحي له تراتيبه التي تعلن بداية ونهاية كل دور، بانطلاقته وتحرّره الفهمي من سلطة الجمود تلك، التي تستثيرها الهندسة، حيث يحاول بها الفنان حسن استغلال الفراغ وتوظيف العمق والوهم لخلق الحركة بين الأحجام وتلطيخات الألوان التي تستقر عند الأشكال.

 

 

Karl Stanley Benjamin

فالرؤى الجمالية التي يفرضها الأسلوب لا تقع على تصورات معتادة ولا تتطلب بحثا في المشاهد لأنها لا تستعرض تلك المشاهد المعتادة بل هي تجسّد الأفكار بهواجسها وتناسقها بردة الفعل التي يختارها الفنان لتعبّر عن فلسفته البصرية فهو لا يقف عند حدود المشهد ولكنه يبحث في ماورائياته بميتافيزيقياته وتأملاته.

يمكن القول إن هذا التصوّر الفني الذي طغى على جانب كبير من تاريخ حركة التشكيل الحديثة في الولايات المتحدة الأمريكية وأثار فيها الفضول للتجريب ونقل التجربة أوروبيا وعالميا لم يستجد من فراغ بل كان نتاج تآلف بصري مختلف باعتبار أن رواد هذا الاسلوب كانت لهم خلفيات مبنية على أكثر من معتقد وثقافة انتماء وتصوّر حملوه من الشرق حيث الزخرف والزينة واللون والهندسة والعمارة والأحجام والحركة واستغلال الفراغ وفلسفة البحث في المجازات حيث انطلقت بترتيب جمالي لتؤسس تصورات ابتكارية على مستوى الأسلوب الغربي التجريدي.

Burgoyne-A-Diller

فالأسلوب حاول تقديم هندسة بنيوية باعتماد الخط والمساحة والضوء ومحاورة الأشكال لونيا من خلال تصميمها هندسيا بتصعيد حاد وصمت صاخب ودوائر تستعجل ترتيب الكون وتبسيط الوجود رغم تعقيدات الانتماء.

إن التكوين الفني الذي استمرت وفقه تجربة الحواف الحادة التي عبّر عنها جولس لانجسنر بمصطلح التكوينات النظيفة والواضحة استمالت الكثافة في الألوان وحوّلت وجودها إلى حادث سطحي وحدث ذهني عميق ما كثّف التعبير وخلق في توافقاته شمولية بنيت على تكوينات فردية حيث وحّدت الحركة في المساحة على أكثر من حضور للموهبة المدمجة مع الفلسفة بما احتوته التصورات البصرية للفنانين الذين توجّهوا نحو هذا الأسلوب فقد حاولوا الابتعاد عن دراما التوصيف المباشر والحركة المبنية على ردة الفعل بعبقرية سرد الصورة ذهنيا ورسم الأفكار بصريا بالتوجه نحو الإماءات الرمزية في توافقات اللون وصداماتها.

رغم أن هذا المسار الفني تعرّض للتطفّل من أشباه الفنانين والمتابعين غير الموهوبين ما عرّضه للنقد إلا أنه استطاع أن يعيد الحياة في أسلوب التجريد وينعش حضوره البصري ويصدّ أبوابه عن السطحية لأن العمق الأساسي لهذا الأسلوب قادر على التمييز بين الأعمال المبنية على البصيرة الوجودية والأفكار الاستباقية للحالات باعتبار أنها مبنية على توازنات اللون كحضور أساسي والهيكل والتصميم والهندسة كأساس يضمن الحضور “النظيف” للون.

 

 

*الأعمال المرفقة:

متحف فرحات الفن من أجل الانسانية

Farhat Art Museum Collections

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى