تقارير وتحليلات

ترجمة خاصة|| الثورية تعني استخدام الإرادة بحرية.. من مذكرات سكينة جانسيز (الحلقة 29)

يواصل الديوان نشر حلقات مسلسلة لترجمة كتاب المناضلة الكردية سكينة جانسيز “حياتي كلها صراع” والتي تُحضر مُترجمتها الزميلة بشرى علي لإصدارها في كتاب بعد إكمال نشرها في الديوان في حلقات أسبوعية نأمل أن تلقى قبولكم.

لا بد من حل المشكلة. قررتُ ذلك هذه المرة. تحدثتُ إلى “مَتو” لوضع الخطة. تأسَّفَ “شريكُ همومي”. وباعتبار أن اهتمامَ أمي مُركَّزٌ على أعمامي، فسيصبح الخروج من المنزل أسهل عن طريقهم. تحدثتُ أولاً إلى “توركان”، ونادَينا “صائمة” ابنةَ عمي لتأتي من القرية. فهي تدرس في المدارس الداخلية في “آقتشاداغ”. وقد علمتُ أنها ذهبَت إلى القرية في العطلة الدراسية. هي أيضاً ثوريةٌ وأقرب فكرياً إلى أخيها “باقي”. ذلك أن لكل من الأشقاء إيبو ومحمد علي وباقي سياسة مختلفة!: أحدهم في “الحزب الشيوعي التركي”، والآخر في “جيش تحرير العمال والفلاحين في تركيا”، والثالث في “حزب التحرير الشعبي”.
لكنها، أي توركان، شخصية عاطفية جداً ونواياها طيبة، ولم تتعصب بَعدُ لأيةِ فكرة. فالمدارس الداخلية تجعلها بعيدةً نوعاً ما عن التطورات في هذا السياق. ثم إن الفاشيين موجودون في “آقتشاداغ”. لذا، يكفي أن يَكون هؤلاء من مدينة ديرسم لأنهم طلاب “شيوعيون”. وسيَكون من الأفضل أن نُعَرِّف صائمة على هؤلاء، كي ننقل أيديولوجيتنا من خلالها إلى مدرسة المعلمين في “آقتشاداغ”. ناقشناها أولاً حول هذه المواضيع بعد التقائنا بها في منزل توركان. لم تَعلم أمي بذلك. ثم حَوَّلتُ النقاش إلى موضوع العائلة، وإلى وضعي فيها. لم أجزم كيف ستَكون ردة فعل صائمة، لكني كنتُ مقتنعةً أنها ستفهمني. أومأتُ لها أيضاً أن علاقتنا كأقارب محدودة وفاترة، وأنني بالمقابل واثقةٌ من أن الروابط الثورية ستُقَرّبنا من بعضنا بعضاً. وبعد لفٍّ ودوران حول الموضوع، عرضتُ عليها الخطة.
قلتُ لها: “باقي إنسان ثوري. وقد طلبَ يدي قبل الآن للزواج، لكني لم أكُن جاهزة. وقد ناقشتُه في ذلك، وواجهَ الأمر بنضوج. ثم خُطِبت. لا داعٍ هنا لشرحِ كيف تمت هذه الخطوبة. إذ لن تُصدّقوا أياً مما سأقوله، وستُفسّرونه بنحو مختلف. حقاً، لم أَكُن جاهزةً للخطوبة، لكنها حصلت. إني أود مزاولة العمل الثوري. لكنّ أمي طرحت موضوع العرس، وعائلةُ الخطيب ترغب في ذلك. بل وقالوا: “بإمكان سكينة أن تنقل سجلّها الدراسي إلى أنقرة، لإتمام دراستها هناك”.
لم يأتِ إلينا متين منذ مدة طويلة. ولا أدري إن كان ينشط في العمل الثوري أم لا. لكني أعتقد أنه منغلق على ذاته. وعائلتُه ترفض وضعه هذا. أريد الافتراق عنه. لكني لا أود التسبب بأية مشكلة لأجل ذلك. فقد يُخبِرون الشرطة. لذا، أود إظهار الأمر وكأنني هربتُ من المنزل إلى عند “باقي”. وبعد أن تطمئن العائلة، سأُخبر الرفاق كي ينقلوني إلى مكان مناسب سنفكر فيه في حينها. لكنني أريد إقناع العائلة تماماً، كي لا يحصل أي إخبار أو اعتقال. أودّ التحدث إلى أبيك أيضاً. فعمّي إنسان جيد، وسيفهمني. أي أنه لن يحاصرني ولن يقول: “تمّ الأمر، وسكينة عروسُنا”. إني أثق بكم، وأجزم أن باقي أيضاً سيتفهم الأمر”.
ذُهِلَت صائمة. سُعِدَت بذلك، بل وحضَنَتني قائلةً: “إذاً، ستصبحين عروسَنا”. ضحكنا جميعاً لموقفها هذا. إذ يبدو أن مقاربتها عاطفية للغاية، وأنها لم تدرك بَعدُ خطورة الأمر. وحددنا اليوم المناسب. كان عليّ استرداد هويتي من المدرسة حتى ذاك الوقت. وحددنا منزل ابنة عمتي في “ديميرولوك” مكاناً للّقاء. إذ ستنتظرني صائمة مع أبيها هناك.
حذّرتُ مَتو جيداً، فوعدني ألاّ يُشعِر أمي بالأمر. استرددتُ هويتي من المدرسة. ذُهِلَت توركان من إصراري. يبدو أنها لم تأخذ الأمر على محمل الجد بدايةً. أريد إبلاغ الرفاق بالأمر بنفسي، لكني لا أراهم في هذه الفترة. إلا إنهم على اطّلاع على وضعي، ويدركون أن بقائي في المنزل سيُبعدني عنهم. سأقوم بالعمل الثوري مهما كلّفني ذلك. ولن يقدر أحد على منعي من الوصول إلى هدفي. إذ لا يمكنني فعل ذلك داخل العائلة. قد يلاقي إخوتي بعض الصعوبة بخروجي من المنزل، لكنهم سيتمكنون بعدها من ممارسة النشاط الثوري بسهولة. إذ ستخفُّ ضغوط أمي عنهم بأقل تقدير.
اتّفقتُ مع مَتو ألاّ يقول شيئاً حتى فترة. وفي حال حصول أي سوء، فسيُخبِر العائلة أنني ذهبتُ إلى بيت عمي. وبعد ذلك، سيَحسب الأيام التي تلزمني للوصول إلى أنقرة، ثم سيَقول الحقيقة. أي أنه سيحدد تخمينياً مدة المماطلة اللازمة.
سألَني أمينُ سِرّ المدرسة عن حجتي لاستلام هويتي، فأوضحتُ له أنني أستعد للزواج. رفضَ أولاً تسليمي إياها متحججاً: “عليّ إخطار المدير”. لكني أكدتُ له بنحوٍ يبعث على الراحة أنه بإمكانه تسليمي إياها، وأنه لا مانع من ذلك. فسلَّمَني إياها. رجعتُ بعدها إلى المنزل، وسررتُ عندما علمتُ أن أمي ذهبَت للتنزه. فزعمتُ أنني سأذهب إلى صديقاتي. ارتديتُ واحداً من الألبسة التي كنتُ أرتديها سابقاً وعدلتُ عن ارتدائها منذ مدة. وقد لفتَ ذلك انتباهَ الجيران عندما مررتُ في الشارع.
رأيتُ الأم تونتون مقابلي لدى خروجي من المنزل، وهي تتمعن فيّ من قمة رأسي وحتى أخمص قدمي. فهل ثمة أمرٌ غريب فيّ؟ مستحيلٌ أن تدرك نيتي الحقيقية. بل لن يخطر ذلك على بالها قط. لكنني أتألم في الصميم، وأشعر بعذاب الضمير. فماذا سيفعل هذان العجوزان؟ مؤكد أنهما سيحزنان. وماذا سيقول متين؟ ربما ألتقيه في أنقرة.
سألَتني الأم تونتون عن وِجهَتي، بعد مدةٍ من السَّبرِ الصامت لي. فقلتُ: “إني ذاهبةٌ إلى منزل عموش”. وبالفعل، كنتُ ذاهبةً إلى هناك، ولم أرغب إعطاء عنوان مختلف. إلا إنها لا تدري نيتي الحقيقية من الذهاب إلى هناك. لكنني ذاهبة. ورغم دهشتها، إلا إنها سُرَّت ونظرَت إليّ بوِدّ. أردتُ احتضانها ووداعها. فأنا أحبها على رغم كل مساوئها، وأتألم قليلاً لكِبَرِ سنّها. لقد عوَّلَت عليّ. فابنُها الأكبر في أنقرة، وزوجته لم ترغب العيش معهم. ومتين هو ابنُها الأصغر. والباقي كلهم بنات. لذا، فرحَت هي وزوجها بأنهما لن يبقيا وحيدين لأن عروسهما الثانية من نفس مدينتهما ومنطقتهما. ابتسمَت الأم تونتون لي بحزن، وكأنها أحسّت بشيء. لم أتصرف بنحو مختلف، ولكني قلتُ في قرارة نفسي: “ليتَني ألتقي متين في أنقرة كي نحلّ الأمر سويةً”. فهل تُراني أفكر بطوباوية؟ ثم أدعو ربي ضمنياً. هل أتراجع؟ فربما يأتي متين قريباً في العطلة الصيفية. لقد كان يُراسلني بانتظام، وطلبَ مني صورةً لي. مؤكد أنه سيرسل لي صورتَه. لقد نسيتُ حتى ملامح وجهه. كان قد كتبَ في آخرِ رسالةٍ له عن “جسر دراما”. وما تزال تلك الأبياتُ في بالي:
“جسر دراما ضيق، لا يُمَرُّ منه يا حسن
مياهه باردة، لا يُشرَب منها كأس يا حسن
قد نتخلى عن الأم، ولكن لن نتخلى عن الحبيبة…”
لِمَ كتب ذلك لي؟ إلامَ هدف؟ وفيمَ يفيد التفكير بهذه الأبيات، ما دمتُ أتّجه نحو الافتراق؟ هل أشعر بالذنب؟ هل أخون هذه العلاقة؟ لكنني لا أحب شخصاً آخر، ولن أتزوج بآخر. وهو يعلم موقفي من “باقي”. أريد فقط الخروج من المنزل، وممارسة العمل الثوري. شعرتُ بغصّة في حلقي. وأدمعَت عيناي. أحاول عدم إظهار ذلك، سيما أنني ألقى الكثيرين في الطريق.
بعد فترة من المشي، توجّهتُ نحو الطريق الذي يمرّ بالمقبرة. فهو طريقٌ خالٍ، ولا أحد سيراني هناك. استعجلتُ الخطى. لا أريد التفكير بأيّ شيء آخر. ولدى وصولي إلى منزل “عموش”، كانت صائمة ووالدها بانتظاري. احتضَنَني عمي وقَبَّلَني بحرارة. كان مسروراً. فوجِئتُ بموقفه. تُرى، ماذا قالت له صائمة؟ يبدو أن عمي مسرورٌ لأنه يعتقد أنني هربتُ لأجل ابنه باقي. لم أَقُل شيئاً. إذ إن تراجُعي بعد هذه اللحظة سيَكون أسوأ. كلا. عليّ أن أتغلب على ترددي. ولن أبقى في ذاك المنزل بعد الآن.
أوقَفنا سيارةً فأعطى عمي مالاً لابنته صائمة وقال: “اذهبا إلى منزل العم حسن في ألازغ. وهناك، اتصلي بمحمد علي، واذهبا إلى منزله”. علمتُ في الطريق من صائمة أنهم أبرَقوا في ذاك الصباح إلى باقي الذي كان في إزمير. كانت معنوياتي منخفضة طيلة الطريق. علاوةً على انزعاجي من السفر بالسيارة. لم أنبس ببنتِ شفة. لكنّ صائمة حاولَت بين الحين والآخر جرّي إلى الكلام قائلةً: لا تحزني، سيَكون كل شيء على ما يرام”.
كم هي طيبةٌ ونواياها حسنة! إنها تقول: “كل شيء سيَكون على ما يرام!”. لكنّ القيامة الآن تقوم في منزلنا. لا أود التفكير في ذلك. ولكن، من المؤكد أن أموراً سيئة للغاية تجري هناك. لم نَبقَ كثيراً في ألازغ. إذ استرَحنا في المساء، لنَستقلّ في الصباح الباكر حافلةً تتبع لـ”شركة هاربوت السياحية”، ونتّجه نحو أنقرة. كان الوقت ما يزال باكراً عندما وصلنا أنقرة. في حين أطلّت الشمس بأشعتها حينما وصلنا حيّ “أولوصو” ثم حيّ “إيتش جاباجي”. لم نَلقَ صعوبةً كبرى في الوصول إلى العنوان، نظراً لأن صائمة كانت ذهبَت إلى هناك سابقاً.
كانت كلية العلوم السياسية مجاورةً للحي. فلَمّا مررنا بالحي قالت صائمة: “هذه هي كلية العلوم السياسية”. فخطرَ “علي حيدر كايتان” ببالي فوراً. تُرى، ما هي كلية متين؟ فأنا أعرف أنه في جامعة غازي. ولكن، أين هي كليته؟ سأعثر عليه بالتأكيد في حال سألتُ عنه. قد يُذهَل، ولكنه سيتفهمني… نزلنا من السيارة، وبعد المشي ربع ساعة تقريباً، وضعَت صائمة إصبعها على جرسِ بابِ منزلٍ في الطابق الأرضي من إحدى البنايات. انتظَرنا قليلاً إلى أن فتحَت امرأةٌ في منتصف عمرها الباب.
سألَتها صائمة: “هل هذا هو منزل محمد علي بولات؟”. ردّت عليها المرأة: “أجل، تفضّلا”.
دخلنا. إنه منزل صغير تتداخل فيه الغرف مع الصالون. استيقظ النائمون، بمَن فيهم محمد علي، الذي أتى عندنا وهو يفرك عينَيه. بانت عليه الدهشة، ولكنه احتضنَنا وقبَّلَنا. رأينا “مدينة” أيضاً في المنزل، فذُهِلنا نحن هذه المرة. كانت “مدينة” قد ذهبَت إلى إستنبول. فهي تزور عائلة “غولابي” كل سنة. ويبدو أنها تعود من هناك! أتت “مدينة” ناعسةَ العينين متساءلةً: “خير إن شاء الله يا سكينة؟ هل أتيتما كِلتاكما فقط؟”. أومَأنا إيجاباً. لكنها لم تستوعب ما يجري، فذهبَت لغسل وجهها ثم عادت. ازداد عددنا مع استيقاظ كل فرد في المنزل. وأعادت مدينة طرحَ سؤالها ثانيةً. كنتُ مختنقةً منذ أيام، وقد ضغطتُ على نفسي طيلة الطريق. لذا، وفور سؤالها، أجهشتُ في البكاء. وازداد ذهول الآخرين.
سألني محمد علي: “ما الذي جرى يا ابنتي سكينة؟ تعالي لنذهب إلى الغرفة الأخرى”. ذهبنا. شرحتُ له الأمر، فجمد في مكانه. ثم أعقب: “حسناً. هل يعلم والداك أنكما أتيتما إلى هنا؟”. فأجبتُ: “لا”. فقال: “يجب إخبارهم. مؤكد أنهم حزينون”. ثم مازحَني محاوِلاً تغيير الجو: “باقي هو أكثر مَن سيفرح لهذا الأمر”. فغضبتُ قائلةً: “لقد شرحتُ لك الأمر. وأنت في نظري ثوري أكثر من كونك من الأقارب. لذا، يجب أن تفهمني أكثر من الغير. وأنا على ثقةٍ من أن مقاربة باقي أيضاً ستَكون سليمة. أنا لم آتِ لأجل الزواج. بل أريد أن أصبح ثورية. وأنتظر منكم أن تساعدوني”. ازداد محمد علي جديةً وقال: “حسناً يا بنيتي. كنتُ أمازحك، فلا تقلقي. ولن تبقى أية مشكلة، في حال علِمَ والداكِ أيضاً أنكِ هنا”.
لا أدري كيف مرّ ذاك اليوم. إذ لم أستطع النوم على الرغم من تعب السفر. سألتُ نفسي: “تُرى، هل ارتكبتُ خطأً؟”. وعندما رجع محمد علي إلى منزله مساءً، قال لي أن أبي سأله هاتفياً إن كنتُ موجودةً في أنقرة أم لا. إذاً، أبي اتصل به. علمتُ منه أن متين أصرّ على معرفة مصيري، وأن والداي حزينان جداً، وأنهما بحثا عني ليومين على ضفاف نهر منذر، معتقدَين أنني رميتُ بنفسي في النهر. وعلمتُ أن الرفاق أيضاً فكروا بهذا الشكل، مع أن توركان تعلم الأمر، وكذلك مَتو. يبدو أنهم تظاهروا بذلك كي لا تتّهمهم العائلة بشيء. وإلا، فمن غير المعقول أن يفكروا هكذا بشأني. فقد اخترتُ الخلاص، لا الانتحار. وكنتُ ناقشتُ ذلك مع بعض الرفاق. أجل، لقد أبلى مَتو بلاء حسناً. لكني لا أُجيد أداء دوري.
قال محمد علي: “لنَعقد قِرانكِ بسرعة البرق تَحسُّباً لأي طارئ. فقد علِمَت أسرتُكِ أنك هنا. وسيعلَم البوليس أيضاً”. ثم أردف قاصداً الحديث عن عائلة متين: “قد يَشتكي هؤلاء لدى البوليس. سيَظل الأمر شكلياً. وسنحلّ الأمر بعد هدوء الأوضاع”. تمردتُ حانقةً ومتأسفةً على مقاربتي الحمقاء حتى تلك اللحظة. هذا هو إذاً الحلُّ الذي يطرحه الشخص الذي وثقتُ به وحسبتُه ثورياً! قلتُ له: “كلا، مستحيل. لن أبقى في هذا المنزل في حال قمتم بذلك”. وخرجتُ من المنزل غاضبة. سألوني: “إلى أين؟” ورَجَوني أن أبقى. لكني أجبتُ دون أن ألتفت إليهم: “سأذهب للعثور على الرفاق. قد أجِدهم في كلية العلوم السياسية”.
انتبهتُ في الطريق أنني أرتدي البنطال الجينز لابنة المنزل التي كانت رقَّعَته حسب الموضة، إذ كنتُ غسلتُ ملابسي. لكني لم آبه بذلك. أبطأتُ الخطى، محاوِلةً تهدئة أعصابي، وعدم لفت أنظار المحيط إلى بكائي. وبعد الجلوس قليلاً على أحد المقاعد، دخلتُ مبنى كلية العلوم السياسية. تذكّرتُ حينها الأفلام التركية، وشبَّهتُ حالتي بفتاة كردية لم تَرَ المدينة أبداً، ولكنها تبحث في شوارع إستنبول عن أحد أبناء قريتها. بحثتُ في الكلية عن علي حيدر كايتان! آه يا ربي، كنتُ أعتقد أن المشكلة ستُحَلّ بمجرد هروبي من المنزل! بدأتُ بمساءلةٍ داخلية لذاتي. لكني لا أميز الصح من الخطأ في مقارباتي. وأقتنع فقط بأنني لم أُحسِن الصنع. إلا إنه كان لا بد من الخروج من المنزل. وأرى نفسي على حقّ في هذه النقطة. فما علاقة نظام عائلتي بالروح الثورية! كيف كنتُ سأوازن بينهما؟ أما قناعتي، فهي أنه ثمة تناقض ومفارقة في ممارسة العمل الثوري بالاستئذان والرجاء، وبتلفيق كذبة في كل يوم وكل مرة.
فالثورية تعني الحرية، والقدرة على استخدام الإرادة الذاتية بحرية، والتشاطر مع الغير، وبذل الجهد الجمعي. كانت الممارسة الثورية جميلة بكل تفاصيلها، وتجذبني إليها كثيراً. ربما لها قواعدها، ولكنه لم يَكُن صعباً الالتزامُ بها طوعاً ورغبةً. كنا مندمجين بتلك القواعد دون أن ندرك ذلك. إنه طراز حياةٍ جميلة بكل خصائصها بل وبمصاعبها. إن كل المشقات وشُحّ الإمكانيات في ذاك المنزل الطيني قد عشّش لدينا حب الممارسة الثورية، فتعَلّقنا بها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى