ثقافة وفنون

تشكيليون في المهجر من الشرق إلى الغرب تأثيرات الجغرافيا انعكاسات الابداع التعبيري

 

تعبّر ظاهرة أدباء وفناني المهجر عن فكرة طالما أثّرت في التعبير وحملت تناقضاتها مع رؤى الاستشراق الثقافي، لتحوّل الفكر والثقافة الشرقية إلى الغرب بعيون عربية انطلقت من ذاتها وهويتها لتصنع من حضورها الجديد وطنها المشتهى وحلمها المتخيّل مجبرة أو برضاها ومتأقلمة مع ذاتها، ومع رغبة في التأثير بالاكتشاف والبحث، وبالتأثر لخلق فرص جمالية الانجاز الحر واكتساب تصورات حداثية لصناعة هوية تتماشى مع الحضور الداخلي لعمق فكرة تحاول الانفلات من خناقها والانعتاق بإبداعها الذي سينعكس صداه عبر ثنائية الانتماء.

 

*ثائر معروف

ورغم أن واقعنا الحالي حوّل الهجرة إلى هروب مخطط من جغرافيا مأساوية الواقع السياسي الاجتماعي والثقافي ما جعلها مطلبا يتجاوز التأثر والتأثير والاندماج والتفاعل إلى مجرد البحث عن مكان آخر أكثر أمانا وأكثر إيجابية في تقبّل فكرة التعبير الفني وتقديرها، إلا أننا وبمجرد ذكر أدباء ومثقفي المهجر نقع على تيار برز في القرنين التاسع عشر والعشرين كان له الكثير من أفكار التنويع والتنوير التي شكّلت رؤى حداثية في التعبير العربي والشرقي.

*جبران خليل جبران

  فتاريخ الابداع العربي حمل صدى التوافق المعنوي في تعبيرية المهجر بفنانيه وكتابه الذين كان لهم بالغ الأثر ونذكر من أبرزهم شمولية جبران خليل جبران الذي حمل الصورة الغربية بحنين رومنطيقي مشرقي إذ يقول عن تأثره الثنائي ” أنا شرقي ولي فخر بذلك، ومهما أقصتني الأيام عن بلادي، أظل شرقي الأخلاق سوري الأميال، لبناني العواطف، أنا شرقي، وللشرق مدينة قديمة العهد، ذات هيبة سحرية ونكهة طيبة عطرية، ومهما أعجب برقي الغربيين ومعارفهم، يبقى الشرق موطناً لأحلامي ومسرحًا لأمانيّ وآمالي، في تلك البلاد الممتدة من قلب الهند إلى جزائر العرب، المنبسطة من الخليج العربي إلى جبال القوقاس، تلك البلاد أنبتت الملوك والأنبياء والأبطال والشعراء، في تلك البلاد المقدسة تتراكض روحي شرقاً وغربًا”، بهذه الفلسفة الجمالية نال جبران شهرة الشعر والكتابة في الشرق وعمق الرسم والفن التشكيلي في الغرب ليصبح ثنائيا في الكلمة والريشة في البوح الشاعري والحضور الملون متأثرا بالفطرية والانطباعية والتعبيرية وبالرومنسية فقد حمل الشرق في روحه وإبداعه وفي أسلوبه كان غربيا ومتحرّرا ومنطلقا نحو زوايا التمشيات التعبيرية التي حملت الانسان وذاته وحضوره وحلمه ومحبته فكان رمزا لتسامح الفكرة وتساؤلات الوجود وأصبحت أعماله الأدبية كما التشكيلية لها رمزياتها التي أثّرت على تعبيرية الفنون غربا وشرقا، غير أن زمن الرومنطيقية التي عبّر عنها جبران تحوّلت بأزمنتها وواقعها وباتت الهجرة في القرن الحالي مسارا آخر وأصبح المهجر في حد ذاته مطلبا آخر للتعايش مع الفكرة الجديدة لكل حضور آخر وللآخر، وتحوّلت الرومنسية الى سريالية معاصرة الفلسفة.

إن الخوض في فكرة الهجرة والحديث عنها قد يتفرّع إلى بحث عن الأسباب ولكن في الفن ومن خلاله نبصر النتيجة ونتبصّر الانفعال العميق للتجربة ومداها المتصل بالهوية والمتعلق بالانتماء حين يتحوّل التعبير من الذاتية إلى الإنسانية كما حصل مع التجارب الفلسطينية والعراقية والسورية واللبنانية التي تحوّلت بكل انتمائها الأول من أوطانها لتصنع لذاتها تحولات فنية تخطّت حدود الألم وأفكار الغربة وتقمّصت أدوار الابداع وتحدّت التمييز بالتميّز لتثبت أن لها ندية وتأثيرا.

*فائق عويس

ومن هنا نذكر التجربة الفلسطينية التي غيّرت مساراتها التشكيلية واندمجت أسلوبا وتعبيرا مع المدرسة الغربية لتحقّق تطويرا عالميا بحضورها الذي تجاوز ظاهر قضيّته ليتعمّق فيها عالميا كما بدا مع تجربة سامية حلبي رائدة التجريد في العالم المقيمة بالولايات المتحدة الامريكية والتي اشتقّت من الوانها وتجريبها للرمز التشكيلي علامات تحيل على وطنها باللون الزيتوني وتدرجاته ورمزية الكثافة اللونية وتلطيخات الفرشاة والتعامل مع الفراغ والمساحة وتعبيرية التجريد والتجريد المطلق بعلاماته والتجريب والاسكتش الفني بكل تفاصيله المتداخلة خطوطا وأبعادا ضوئية بدقة الحنين وبكثافة الحصار والمعاناة.

*سامية حلبي

 أما أعمال فائق عويس المقيم أيضا بأمريكا فقد ارتكزت على تجريب اللغة تشكيليا ومجازات التأثير الفكري لحضارة عربية كلاسيكية وحديثة حيث بنى جمالياتها على الحروفية بتشكيلها وقدّمها للملتقي الغربي سواء من خلال الخط العربي بتوظيف أشعار محمود درويش وأفكار ادوارد سعيد او بالتشكيل الحروفي والفني في جدارية تبنّتها جامعة سان فرانسيسكو أو توظيف الحروفيات والأشعار مع التطريز على القماش وتوظيف التراث الفلسطيني وهو ما حوّل رؤى الشرق العربي وقدّم الأفكار وكسب جماليات جديدة معنوية فكرية فنية.

في تجربة ليلى شوا المقيمة ببريطانيا تبنّت تجريبية فنون ما بعد الحداثة والمفاهيمية المطلقة من أجل التعريف بالرمزيات الإنسانية التي تجبر الفلسطيني على المقاومة التي تصارع الواقع من خلال رسوماتها وكذلك رؤيتها المفاهيمية المليئة بالرموز، تعبر عنها كامرأة وفلسطينية لا تنفصل عن أرضها وواقعها وهويتها.

 

*ليلى الشوا

وتجربة الفنانة والنحاتة ميرفت عيسى المقيمة بالسويد حملت تجربة معاصرة تجاوزت النحت نحو ابتكارات تستنطق الحجر لتحوله إلى عنصر فاعل فتبعث فيه حركة من خلال ما تصقل من ملامح ومجسمات الأساطير الشرقية وفق جماليات وابتكارات تستقي رموزها من تاريخ فلسطين وحضارتها، فمنحوتاتها تعكس صورتها الفلسطينية بتدقيق أنثى تبحث عن التفرد وسط وطن يعاني من عوائق الحدود وتشابك الجغرافيا ويسرد حكاياته البصرية للعالم.

ومن لبنان تقدّم فاطمة الحاج المقيمة بفرنسا عناصر تكوين جمالي شرقي الألوان المتآلفة غربي الأسلوب التجريدي بكثافات من النور والضوء تقتنص ببراعة لحظات مفعمة بالأحاسيس بالأحداث مهما كانت صادمة متواترة ومتوتّرة تثير معها تصورات حيّة عميقة الموقف الذي يتفاعل مع الحركة الحسية والذهنية، لتتعلق الصور في لوحاتها بالطبيعة متمسّكة بالأرض تلك التي ترسمها بكثافة شكلية تستحيل إلى حركات طفولية ممتعة المراوغات ومرحة الصياغات التشكيلية التي تتنافس مع الوقت في الاستحضار والذاكرة فلوحتها اختزال صارخ المعاني لحديقة متنوعة الزهور والعبق والعبير وموسيقى الطبيعة.


*فاطمة الحاج

إن تواتر القلق وتفاعلاته البصرية التي تعيشها الحاج عند الإنجاز والتجريب والتماثل المتماهي بينها وبين الفكرة واللوحة وعناصرها يحمّلها منطق الهندسة والحساب، ما يجعل تجربتها مؤثّرة على المدارس الغربية التي اختارتها مسارا ونموذجا أكسبها العالمية، تماما كتلك التي اكتسبها الخطاط العراقي العالمي المقيم في فرنسا حسن المسعود الذي انطلق من العراق وبيئته المشبعة بروح الشرق وحمل الحرف العربي ليدمجه مع كل ثقافات العالمي ليتحوّل من مجرد شكل إلى معنى ومن مجرد لغة واحدة إلى لغات تتماثل عبّر بالأداء بالحركة بالخط اندمج مع الخط والحرف الصيني تشابك مع اللغة اللاتينية ليصبح مؤثرّا في التشكيلي الحروفي وفي دقة الحرف العربي وتناغماته من خلال الجمع بين الحرف وموسيقاه بين إيقاع اللغة وحنين المعنى.

تبدو في لوحات المسعود الحروف وهي تتقمّص الشكل مع الألوان المتناسقة التي تتفجر بالمعنى ليحمل بدوره الأبعاد الجمالية البسيطة الموشحة بموجات مغناطيسية شفافة متدرجة في تلاوينها لتبدو البناءات الحروفية للوحة عنده مسكونة بالفضاء في لغز المعنى بخط القصب الغنائي واللحني خاصة وأن له انتقاء فنيا للأبيات والقصائد والحكم والأشعار التي يحرر مقصدها التاريخي ليعبر عن موقفه الإنساني العابر بين الجغرافيا والتاريخ.

*حسن المسعود

 

أما علي حسون اللبناني المقيم بإيطاليا فقد عكس تلك الثنائية في خصوصيات أعماله المعاصرة التي طوّرت جماليا أسلوب البوب آرت لتخوض في ثنائيات جدلية بين الشرق والغرب في فكرة حمّلت الصيغ ثقافات مختلفة وقضايا تجاوزت فكرة الحنين والذاكرة والتذكر المؤقت إلى بناء قضيّة لها جذورها من آسيا إلى إفريقيا ومن مدى تطوّر الفن إلى كلاسيكياته.

في تجربته المزدوجة الانتماء حاول حسون أن يخلق حركة الاسترجاع التي ساعدته للنفاذ من واقعه بكل ما يحمل من اختلاف ومن مشاهد عنصرية معبّرا عنها جماليا وهو يدعو فنيا للتخلص من فكرة الانبتات والانفصال والتشرذم المعنوي الذي يلاحق ملامح الشرقي بين المكوث في الواقع والالتفات للماضي بين الرفض والحضور بين الغربة والاغتراب بين الذاكرة والتذكر بين التمازج والاختلاف، ليقدم دعوة للحضور ذاتا بعمق الأحاسيس وبتنوع الاختلافات إنسانية وحضارية تقمص كامل للفكرة للانتماء للإنسان دون تمييز اللون والجنس والجغرافيا فالكل هو الانسان الحامل لفكرة البقاء والوجود.    

*علي حسون

وعن التجربة السورية فالحديث والمتابعة تحيل كثيرا على التأريخ لما بعد الاحداث الدموية في سورية فقد قادت الحرب إلى خلق حالات من الفزع والدمار قادت بدورها لخلق فكرة الرحيل والهجرة الاجبارية كما في تجربة التشكيلي ثائر معروف الذي انتقل إلى النمسا والتي لم يسلم فيها من التمييز والعنصرية التي وصلت إلى الاعتداء الجسدي فمن وطن يعاني إلى ذات تعاني حاملة خطوات الاندماج انطلق باحثا عن بقايا الأمل ليثير تجربة الحنين والغربة الاندماج والرفض، لا ينفصل الفنان عن وطنه وانتمائه وثائر معروف حمل بلاده بكل صورها الداكنة وتداعياتها بانهياراتها وانكساراتها وتداخلاتها والأمل الباقي منها وإليها فقد رسم في منجزه تساؤلاته وحيرته وقلقه وخوفه وغضبه مجرّدا الصور من ألوانها ومستنطقا الظلال بالضوء والعتمة بالحركة فخلق توليفة بصرية حادة جارحة باحثة عن النور وبؤرة الضوء في المساحات الداكنة لصدمة منعكسة في العتمة كصرخة من أجل التغيير.

ولا تتوقف التجارب العربية في المهجر بل تعبّر وتندمج وتتوافق وتنفصل وترفض وتثير وتتأقلم لتكون وتكوّن ذاتها وأسلوبها الذي يشكّل تجربة تستحق الدراسة فحركة الهجرة في حدّ ذاتها لم تطوّر في أسلوب التشكيليين المهاجرين ولكنها أيضا أثّرت على المتلقي الغربي وأثارت فيه ذهنية فكرة البحث عن تلك الانتماءات وخصوصياتها وفهم رموزها وانعكاساتها ومدى تطوّرها بالفنون الحديثة والمعاصرة.

 

 

 

*الأعمال المرفقة:

متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية

Farhat Art Museum Collections

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى