تقارير وتحليلات

خاص|| ثمة لغزٌ نريد الوصول إليه.. من مذكرات سكينة جانسيز (الحلقة التاسعة عشرة)

استكمالاً لنشر مذكرات المناضلة الكردية سكينة جانسيز.. يواصل موقع الديوان نشر حلقات مسلسلة من مذكراتها التي جاءت تحت عنوان حياتي كلها صراع، وتنقل المذكرات للعربية الكاتبة بشرى علي، التي سبق أن ساهمت مع الديوان بسلسلة مقالات نشرناها في كتاب في العام الماضي تحت عنوان: “المرأة الكردية: من أين وإلى أين”.. فإلى الحلقة الجديدة والتي تشمل سردًا يتماس مع الروح والوجدان.

يجذبني البيتُ الطيني في حديقة المبنى الذي نقطن فيه، وكأن فيه قوة إلهية. فقد اكتسبَت صداقاتنا المعقودة مع نزَلائه في هذه الفترة منحى نوعياً جديداً منذ بداياتها. إذ لم تَعُد مقتصرة على تبادل بعض الكتب، بل وتكاثرت الأشياء المتبادَلة فيما بيننا. ففي يوم رأس السنة، ارتدى “مَتو” أحد ملابسي، ووضع الشعر المستعار على رأسه، وتوجَّهَ بهذه الحال إلى منزل الطلاب ذاك في الحديقة، ليباركهم بحلول العام الجديد ويشاركهم فرحتهم في تلك الليلة. لَم يَعُد الشعر المستعار وبعض ألبستي من ضمن اهتماماتي. بل أصبحت أزياءً للاستعراض والمرح. وهذا ما يدل على التغير، ويرمز إلى انتقاد الشكل القديم ورفضه واستهجانه. إنها مرحلةُ تَغَيُّرٍ صامت. وعلى أية حال، تجسدَت رغبتي في التغيير في ولوجِ عالَمِ هؤلاء الطلاب في ذاك المنزل، وفي التعرف عليهم عن كثب، ومحاورتهم والنقاش معهم.

ثمة أمور تشدني إلى ذاك المنزل. ثمة لغز أريد، بل نريد، الوصول إليه. كانت مشاركتُنا في العزف على البزق، أو اللهو معهم، أو استعارة كتاب منهم ذريعةً للذهاب إلى هناك. كان “نَجُو”، شقيق “ولي”، عازفاً ماهراً على البزق.

كثيرون أولئك الذين يعزفون على البزق، لكننا نميّز الماهرين منهم، من خلال العزف والأصوات الصادرة عنه. لكنّ أولئك “الإخوة” في ذاك المنزل مميَّزون بالنسبة لي ولأشقائي، ولا يُشبهون الآخرين.

أسفر دأبُنا على زيارتهم عن تَعَلُّقنا بهم. فإمكانياتهم المحدودة، ومصاعب حياتهم أثرت فينا جميعاً، فأحببناهم بسبب غنى أفئدتهم واهتمامهم بنا على الرغم من فقرِ حالهم. فافتقارهم إلى كل شيء نملكه، إنما يدفعنا طبيعياً إلى التفكير بهم: “الشيء الفلاني غير موجود لديهم. إنهم لا يستطيعون أكلَ الطعام الفلاني”. وعلى الرغم من مشاعر الأسف أو الانفعال إزاءهم، إلا إن مشاعر التشارك معهم هي التي نمَت لدينا ضمناً، لتتجسد بنحو ملموس في الاقتراح: “لنُعطِهم الشيء الفلاني”.

هطلت ثلوج غزيرة في ذاك الشتاء القارس، فلم تعمل الأفران في المدينة، وأُغلِقت بعض الدكاكين. وازدادت مشقّات استجلابِ بعض المواد من مدينة “ألازغ” المجاورة. ولم تَعُد الاحتياجات الرئيسية تلبي الحاجة. تأثر الطلاّب بهذا الوضع أكثر من غيرهم. فالعوائل كانت تبتاع احتياجاتها الشتوية الرئيسية من “ألازغ” بالجملة.

وهذا ما فعلَته أمي قبل سفرها. إذ اشترَت السكر والزيت والطحين والغاز وكل شيء قد نحتاجه. ولم تَنسَ تنبيهَنا قبل رحيلها: “اقتصِدوا جيداً في استهلاك كل شيء!”. لكننا لم نَكُن حذرين كفايةً في هذا الشأن.

مَدَدنا أولاً سِلكاً كهربائياً من نافذة غرفة الضيوف، التي لا نستخدمها كثيراً، حتى ذلك المنزل، كي تَصلَهم الكهرباء. طمَرنا السلكَ تحت تراب الحديقة، ومرّرناه في بعض الأماكن بين أغصان أشجار التوت التي في الحديقة، كي لا يلفت الأنظار إلا إذا تم التمعن فيه بدقة. لكنّ الجيران انتبهوا إلى الأمر سريعاً. لم يَكُن انتباهُ جارتنا القريبة منا، والتي تنتمي إلى قبيلة “شافاك”، أمراً ذا أهمية. فهي حسَنة النوايا، وتحب هؤلاء الطلاب. فأبناؤها “مظلوم” و”خليل” و”فاضل” أكملوا دراستهم، وأصبحوا معلّمين في مناطق مختلفة.

لذا، فهي تخمّن الاحتياجات الأساسية للطلاب. علاوةً على أنها تدرك جيداً أنه من الوارد القيام بهكذا أمور سرية، وأن المزاوِلين للسياسة لا يعيشون حياةً طبيعية، وأن مساعدتهم بالتالي تُعَدّ تصرفاً إنسانياً. بل إنها اغتبطَت لتصرفنا هذا، ورسمَت بشفتَيها ابتسامةً ذات مغزى. إذ عَدّت موقفنا هذا خطوةً جريئة، رغم غياب أمي. إن هكذا مساعدات كشفَت مستوى علاقتنا بأصدقائنا الطلاب، وضاعفَت من مسؤولياتنا تجاههم.
كان الوافدون إلى ذلك المنزل مجهولين. انتبَه الجيران إلى ذلك، على الرغم من حذر الوافدين أثناء النهار. ذلك أن عشرات الزائرين هم من غير فئة الشباب، على الرغم من أن المستأجرين طلابٌ في المرحلة الإعدادية. كانت نظرات الجيران متعاطفة معهم وعامرة بالودّ والمؤازرة، سيما أولئك الذين انخرطَ أبناؤهم في التيارات الثورية. وكثيراً ما وصفوهم بـ”الشبان اللبِقين كالنساء”. ومن باب الفضول، طرح الجيرانُ علينا أسئلة تخصّهم في بعض الأحيان.

مع ذلك، فإن ذاك السقف الوحيد المنتصب في الحديقة محاط بالألغاز. من المؤكد أن هؤلاء مختلفون. لكن الجيران يتساءلون: كيف تَكون علاقةُ فتاة مخطوبة مع كل هؤلاء الشباب، سيما وأن والدَيها وأخيها الأكبر غائبون عن المنزل؟ يعرفني الجيران جيداً، ويثقون بي.

ومع ذلك، عَدّوا مستوى علاقتنا مع هؤلاء الشباب مبالَغاً فيه. لكننا جميعاً طلاب. وقد حاولت الخالة التي من قبيلة “شافاك” ملء الفراغ الناجم عن سفر أمي بين الحين والآخر.

إنّ قبيلة “شافاك” من القبائل المهاجرة وكبيرة العدد، واستقرت قديماً في ناحية “تشاميز غازاك” التابعة لمدينة ديرسم. وقد استقرت أسرة تلك الخالة في المدينة. وبما أنها لم تُنجِب بناتاً، فقد عدَّتني ابنتَها، وأحبّتني لدرجة أنها باتت أكثر مَن يقف إلى جانبي في صراعي مع أمي. هي أيضاً كانت تتعلم اللغة التركية حديثاً. وقد استبدلَت ملابسها التقليدية بملابس مدنية! علماً أن ملابسها القديمة جميلة وتليق بها أكثر. وعلى أية حال، فإنها لم تتأقلم مع عادات المدينة وتقاليدها، وظلت تتذمر منها. كان ابنها “مظلوم” هادئ الطبع. ولمّا علِمنا أنه مهتمٌّ بالثورية، رغبنا في تطوير علاقتنا والتحاور معه تدريجياً. لكنه متحفظ ومنغلق على التحدث إلى الفتيات. وقلَّما تحدثنا إلى بعضنا بعضاً.

تضاعفَت تدريجياً لقاءاتنا المستمرة مع “متين جونجوزا” و”حسين جونجوزا” و”حسن تاش” و”ولي نجاتي تايهاني” و”يلماز …”، مع تبدُّل مَن نلتقيهم منهم يومياً. إذ كانوا يزورون ذاك المنزل ويبقون فيه أكثر من غيرهم. استعَرتُ الكتب منهم على الدوام، لأطالعها ثم أعيدها. لم يستغرب أحد منهم ذلك. بل أعطوني الكتب بسخاء بشرطِ إعادتها، ولم أشعر بأي موقف مختلف منهم. بل غالباً ما سُعِدوا بذلك. شعرتُ بالارتياح إليهم، سيما عندما وجدتُ بينهم أصدقاء الدراسة أو مَن كنتُ تعرَّفتُ إليهم سابقاً. أما عندما كان يستقبلني أحد لا أعرفه، فكنتُ أخجل مقابل ارتباكهم بسبب عدم اعتيادهم على رؤيتي. بل وحينما دار حوار بينهم ذات يوم حولي، طغى لديهم انطباع مفاده: “إنها مجرد شخصية بورجوازية صغيرة. فهي تطلب الكتب للاستعراض فقط، وتُعيدها دون أن تُطالعها حتى”. ولَمّا سمع الرفيق “مظلوم دوغان” أحاديثهم هذه ذات مرة، قال: “دعوكم من طبائع البورجوازية الصغيرة. اهتموا بها كي تصبح ثورية”. وبالطبع، فقد اعترفوا لي بذلك لاحقاً.

أثّرت مشقّات ذلك الشتاء في حياتهم أيضاً. إذ عانت المدينة من نقص الخبز. لذا، أتاح اهتمامنا بهم إمكانيةَ مجيئهم إلينا وطلب هكذا احتياجات رئيسية بصورة مباشرة. وقد بادر “ولي” إلى ذلك أولاً، إذ قال أن لديه ضيوف، وأن الفرن لديهم لا يعمل، وأنه في حال وجود فائض من الطحين لدينا فبإمكانهم عجنه على الصينية وطهيه على الموقد. كانت مبادرتهم هذه كافية وافية. إذ لم نجرؤ حتى ذلك الحين على إعطائهم هكذا احتياجات، على الرغم من تفكيرنا في ذلك مراراً. فقد رأيتُهم عدة مرات يَكتفون بتناول بضعة حبات زيتون أو قليل من الحلوى الموضوعة على قطعةِ جريدة، فرجعتُ إلى المنزل وأجهشتُ بالبكاء. كما شرحَ لنا أخي متين مراتٍ عديدةً مائدةَ الطعام المتواضع لديهم، وأصرّ على مساعدتهم في هذا الشأن. إلا إننا تراجعنا في كل مرة عن طرح هذه الفكرةِ خوفاً من إحراجهم. لذا، أجَّلنا تلبية احتياجاتهم الأساسية مدةً طويلة، لعدم جزمِنا بردود فعلهم إزاء ذلك.

لكنّ الطلب أتى منهم هذه المرة. استنفرنا جميعاً في تلك الليلة، وانشغل كل واحد منا بأمر ما: طهي الطعام، عجن الطحين، إشعال الموقد، وصنع الخبز. أيُّ حيوية تلك التي اعتَرَتنا آنذاك؟ وكأننا تلقَّينا أمراً، وسارعنا إلى تنفيذه بحماس وعنفوان. كانوا يأتون بين الفينة والأخرى ليسألوا عمّا آلت إليه الأمور، وقد بدا عليهم الجوع جلياً، مما حثَّنا على الإسراع والانهماك أكثر. ورغم انتصاف الليل، إلا إن أحداً منا لم يَخلد إلى النوم إلى الانتهاء من مهمّته. لقد طلبوا منا الخبز فقط، لكننا طهينا الطعام وسكبناه في صحون كبيرة، ووضعنا كل شيء على صينية كبيرة، وقدّمناه لهم.

أصبحنا بعد ذاك اليوم نتناول طعامنا معهم كل ليلة. واكتفينا أحياناً بتناول الفطور، لنقدم لهم كل طعامنا. وقد فعلنا ذلك بغبطة قصوى، محتاطين في الوقت نفسه من أنظار الجيران والمحيط. كان أخي الأصغر “مَتو” يأخذ إليهم كل شيء على الصينية الكبيرة، بعد أن يحلّ الظلام. إذ لم نرغب أن تلحظَنا “الأم تونتون”، ولا جيراننا البرتكيين في الطابق العلوي.

لكنّ “الأم تونتون” وزوجها كانا يبذلان قصارى جهودهما لمساعدتنا، ويستاءان من تَحمُّلي كل أعباء المنزل الشاقة، ولا يرغبان في إصابتي بالإرهاق. بل وكانا مقتنعَين بضرورة عدم تواصلي مع المحيط حسبما أشاء، بسبب غياب أمي وأبي. فما يَرَيانه مني ويخمّنانه، يولِّد لديهما الاستياء بطبيعة الحال. لكنه لن يَكونَ حسناً، من الجانب الآخر، أن يدركوا حميمية علاقاتنا مع أولئك الشبان، وتشاطُرُنا كلَّ ما نملكه معهم. فمجيئهم إلينا كل ليلة يُصَعّب الأمور. لكننا كنا متكاتفين لدرجةِ أننا نطهو الطعام ونحضّر كل شيء ونقدّمه أو ننقله إليهم في غمضة عين. أما عندما تَزورنا “الأم تونتون” أو زوجها، فكنا نأخذ هؤلاء الشبان الآتين لزيارتنا إلى الغرفة الجانبية دون أن يرَوهم، أو أننا نُعَرّفهم على أنهم أصدقاء المدرسة أو من الأقارب، ليعودوا إلى منزلهم بعد مدة قصيرة.

يعمل البرتكيُّ هاشم كهربائياً منذ سنوات في “المديرية العامة للطرق والمياه والكهرباء”. في الحقيقة، لكل المؤسسات في ديرسم كهربائيُّوها. عُرِفَ هاشم بمهارته ككهربائيّ وكبَوّاب، بالإضافة إلى مِهَن أخرى يحترفها. وأغلب زوّاره هم من عناصر الشرطة وزوجات الموظفين الوافدين من خارج المدينة. لذا، فعلاقاته مع الجيران رسمية ومحدودة، مما زرعَ الشكّ فينا جميعاً. فزوجتُه شابة يافعة، وعلاقاتها مع الجيران ليست بالفاترة. بل وكانت أمي على وئام معها. امتهنَ هاشم الصيد أيضاً. لم نَكُن نتناول لحم الأرانب، نظراً لأننا عَلَويون. لكننا نأكل لحم طير الحجل بين الحين والآخر. وعندما يصطاد “مَتو” أسماك السلمون الضخمة، كان يزوره ثلاثة أو أربعة على الأقل من الجيران في منزله، ليتناولوا السمك عنده. كنا نُقَطّع الأسماك لنوزّعها على الجيران. فهكذا علاقات هي كناية عن روابط وصِلات. وكلما استمرت تلك العلاقات، سَهُلَ علينا التعرف على بعضنا بعضاً.

كان قِسمٌ من أبناء بلدة “برتك” هم من الأتراك المُستَقدَمين إلى المنطقة بعد أحداث نفي سكان ديرسم عام 1938. هكذا هو النسيج السكاني في بلدتَي “برتك” وتشاميش غيزيك”. وقد احتفظ سكانهما بثقافتهم لدرجة ملحوظة. فعلاقاتهم حميمية مع الدولة، ولكنهم تأثروا نوعاً ما بالثقافة الكردية. فمثلاً، هم أيضاً يصومون ثلاثة أيام في شهر عاشوراء، ويحتفلون بهذه المناسبة. وقد تجلّى تأثرهم بهذه الثقافة بوضوحٍ في مواضيع أخرى كطقوس الختّان والزواج. فضلاً عن دورهم كـ”إشبين” لسكان المنطقة. كانت وظيفة “الإشبين/الكريف” ذات أهمية، لأنها تعني الأخوّة المعنوية. لكنّ الفاشيين كانوا منظَّمين بالأكثر في بلدتَي “برتك” و”تشاميش غيزيك”، على عكس البلدات الأخرى، التي خلَت منهم وعجَّت بالمقابل بالمُخبِرين والعسس. ذلك أن التباهي بالنزعة الفاشية علناً في ديرسم أمر خطير قد يُودي بحياة المرء. وقد اتّعَظَ الفاشيون في مدرسة المعلمين وفي دُور طلاب الثانوية من ذلك وهربوا. وتعرَّض الفُرادى المتبقّون منهم إلى الضرب. كما كان هناك بعض المعلّمين الفاشيين أيضاً، لكنهم يُخفُون هويتهم تلك.

كان جارنا البرتكيّ مرتاباً. فعناصر الشرطة معروفون عموماً، أو يمكن تخمينهم والتعرف إليهم. وأولئك الذين يرتدون زيّهم الرسمي كانوا بمثابة المُخبِرين. لذا، لم يَعودوا قادرين على استئجار البيوت بسهولة. ففي السابق، كان البعض يُؤَجِّرون منازلهم لعناصر الشرطة تحديداً. أما في الأعوام الأخيرة، فقد انقلبت الموازين، ولم يَعُد أحدٌ يفعل ذلك، بعد أن اتّضحَت ملامح التيارات ومناصِريها. وبما أن الدولة أدركَت ذلك بطبيعة الحال، فقد نشرت عُسُسها ومُخبِريها في كل مكان.

خلقَت أرضيةُ الحوار الناجمة عن تشاطُر الطعام والحطب وتداول الكتب مع جيراننا الشبان، علاقات بريئة وشفافة وخالية من المصالح وعامرة بالود والاحترام. فكل واحد منهم كان يتحدث عن أصدقائه، ويستذكر بعضاً منهم بالاسم، ويُعبّر عن حميمية العلاقة معهم. بهذا المعنى، لم يَبقَ أحدٌ حيادي تقريباً. وبالمقابل، تجذّرَ اهتمامنا بهم وتعاطُفنا معهم بصمت وسَلاسة، ولكنْ بعُمق. ومن جانب آخر، تقدّمنا معاً وقُدُماً نحو واقعٍ مليء بالاعتزاز والثقة بالنفسِ لدرجةِ القدرة على تحدّي الآخرين، ونحو واقعٍ يُشعِرنا بأنّ كل شيء مخفيٌّ فيه، ويزودنا بمشاعر المحبة الفائضة والعنفوان الجامح. فلا مكان للتردد أو الخجل أو الظنون، ولا مكان للتساؤل عمّا سيؤول إليه المطاف بنا وما سنواجهه في نهايته. بل ولم نسأل حتى: مَن هؤلاء؟ وما هي حقائقهم وقناعاتهم؟ ذلك أن كل الأجوبة تَستَّرَت في الثقة والاحترام والودّ المنبثق من نمط حياتهم. وكنا سنعثر على أجوبتنا تلك مع الزمن، واحدةً تلو الأخرى.

إن شرح ذلك ليس سهلاً بالطبع. إذ لا يمكن فهمه من دون عيشه. بل ولا تكفي الكتابة حتى للتعبير عن بساطة تلك الأيام وجمالها الطبيعي، ولا عن المشاعر التي زرعَتها فينا. فحتى عندما أكتبُ عن تلك الفترة، فإن تلك المشاعر تختلجني مجدداً وفي صميم فؤادي وأغوار وعيي، وأشعر بها من رأسي وحتى أخمص قدمَيّ. وأجمل ما في الأمر أنني كنتُ خرجتُ من غمرة الصراعات والتناقضات، فتعلَّقتُ بفكرةٍ نموذجية أو بقناعة مثالية بنحو طبيعي ونزيه وبسيط وجامح في آن. ولهذا السبب تحديداً، طالما قلتُ: “أنا محظوظة، بل ومحظوظة جداً”. وأقولها ثانيةً وبصوتٍ عالٍ: “إني أُعِدّ نفسي أسعدَ إنسان في الكون، لأنني انخرطتُ في هذا النضال”.

زارنا ضيفٌ ذات ليلة شتوية طويلة. كان “مَتو” قد حرقَ طبخة الفاصولياء. يالسوء الطالع! فاحت رائحة الاحتراق من الطعام في تلك الليلة. حاولتُ شرح الوضع للضيف بخجل. ثم وضعتُ المخلل على المائدة، وخَمَّرتُ الشاي جيداً لتلافي ذلك. كنا جميعاً مستنفرين. كان “ولي” من أكثر مَن يأتون إلينا. لكن زيارته هذه المرة لم تكن اعتيادية. إذ شعرنا أنه يودّ قول أمر ما أو إخطارنا بنبأ ما. وتَرَقَّبَته عيوننا.

جلسنا جميعاً بالقرب منه بعد تناول الطعام، منتظرين بفضولٍ ما سيقوله. ولحُسن الحظ أن العم “خضر” و”الأم تونتون” لم يأتيا إلينا تلك الليلة. لكنّ ضيفنا بدأ دردشته بالسؤال عنهما، محاوِلاً فهمَ مقاربتي، على الرغم من سهولة تخمينه مدى رعايتهما لي ورقابتهما عليّ من خلال زياراتهما المتكررة ليلاً نهاراً. ثم أردف قائلاً: “إنكم كُثُر. ولا أحد يستطيع قمعكم. بإمكانكم التغلب على ذلك بسهولة إن شئتم. إنهما عجوزان، ولا يقدران على التحكم بكل شيء. وأفدح خطأ هو رغبتهما في التحكم بكل الأمور”.

أراد الضيف أيضاً معرفة تأثير غياب أمي عن المنزل. إذ انتبه إلى علاقاتنا المحدودة والحذِرة أثناء تواجدها، وإلى تَبَدّل الحال بوضوحٍ بعد سفرها. ثم عَقَّب على شكاوينا بشأن أمي قائلاً: “أمكم امرأة لطيفة. إذ كانت تُسَلّم علينا وتسأل عن أحوالنا في كل مرة، أو تَردّ بالتحية على سلامنا؛ على خلاف النساء الأخريات اللواتي لم يَكُنّ يتحدثن إلينا”. لقد لامَسَ بإصبعه مقاربتنا الرخيصة والساذجة.

لكننا انتفضنا على الفور، وتسابقنا في الحديث: “لقد أبلى أبي بلاء حسناً بأَخذها إلى ألمانيا. فهي تمنع عنا كل شيء”. وأردف مَتو: “أنتم لا تعلمون! لم تتدخل أمي في شؤوننا نحن، لأننا كنا نخرج في الصباح ونعود في المساء. لكنها كانت تقمع أختي بالأكثر. حسناً أنها ليست هنا! وإلا فهل كنتَ ستأتي إلينا بهذه السهولة؟”.

ضحك الضيف من حالنا. كان هادئاً وصبوراً، ورَدّ على كلامنا جميعاً، محاولاً تهدئة روعنا. أو بالأحرى، عمل على شرح أخطائنا دون أن يُحرِجنا. ومن خلال أمثلته البسيطة وسردِ النتائج الناجمة عن أحداث ملموسة، سعى جاهداً إلى إفهامنا أنه لكل مشكلةٍ حل. ولم يَنسَ التطرق بين الفينة والأخرى إلى الروايات التي استَعَرناها منهم للمطالعة، محاولاً إدراك مدى قراءتنا وإدراكنا لها من جهة، وحسمَ تصوُّراتهم السابقة عنا في هذا الشأن من جهة ثانية.

تطرَّق الضيفُ إلى رواية “الإسمنت” التي قرأناها مؤخراً، وسألَنا عن أكثر جوانبها تأثيراً. وبشرحه لأحداثها بين الحين والآخر، كان حذِراً بألّا يلفت أنظارنا إلى اختبارِه إيانا. بدأنا نتسابق إلى سرد الأحداث المؤثرة، مقاطِعين أحاديث بعضنا بعضاً! وبالطبع، لم نقرأ الكتاب بعين نقدية. وبدأ الضيف بشرح الروابط بين مستوى العلاقات المذكورة في الرواية وبين المقاربة الاشتراكية، وأكد على ضرورة مطالعة الكتب بعين نقدية.

خجلتُ من نفسي، وتأسفتُ لأني لم أطالع الكتاب بدقة، ولم أفهمه مثله. ولكن، ما المعيار الذي نطرح به الحقيقة؟ عليّ معرفة ذلك. فكتاب “الإسمنت” هو رواية اجتماعية. ومن واجب الكُتّاب الثوريين أن يطرحوا الحقيقة في كافة رواياتهم. وبما أن هذا هو معيار مقارباتنا، فقد عجزنا عن الغوص في جوهر الأحداث. لقد تَعَلّمنا في تلك الليلة ضرورةَ المطالعة بدقة، أياً كان الكاتب. تماماً مثلما هي المقاربة من العديد من المجموعات والتيارات الموجودة في ديرسم. فهم أيضاً يزعمون أنهم ثوار. ولكن، يكاد جميعهم يمثّلون ميولهم الطبقية، ولا يخوضون الصراع الفكري والطبقي. ومَن يزعمون أنهم يخوضونه، فقد كانت مقارباتهم فظة وشكلية للغاية. إلا إن الجميع يدّعون أحقيتهم وسَدادهم. أمِنَ الممكن أن يكون الجميع على سداد؟ لا أعتقد. فالاشتراكية هي الحقيقة الوحيدة. وقد زعمَ الجميع أنهم اشتراكيون. لكن، هل يعيشون وفق معاييرها حقاً؟ هنا، في هذا السؤال، يكمن مربط الفرس. فالمعيار الأساسي هو العيش وفق الاشتراكية، أي حسب القيم التي يؤمن بها المرء.
حاولَ ضيفنا معرفة الميول الطاغية في المدرسة والحي والمحيط. ومن خلال أسئلته، أراد إدراك مدى يقظتنا واهتمامنا في هذا المضمار. بالتالي، تعرَّف علينا أكثر وعن كثب، وحثَّنا على الحذر في آن. فذكَرنا له أن أولاد أعمامي ينتمون إلى مختلف التيارات السياسية: “جيش تحرير العمال والفلاحين في تركيا”، “الحركة الفكرية البروليتارية الثورية”، “حزب التحرير الشعبي”، و”الحزب الشيوعي التركي”؛ وأنه تكاد تتواجد شتى سياسات اليسار التركي بين جميع أقاربنا؛ وأنّ خليطاً سياسياً مماثلاً يتواجد لدى الجيران أيضاً؛ وأن أنصار “الحركة الفكرية البروليتارية الثورية” هم الغالبون في المدرسة؛ وأننا لم ننخرط في أي تيار بَعد.

يدرس ضيفنا في “كلية غازي للتربية في أنقرة”. لكنه عاد منها إلى ديرسم سريعاً، على الرغم من عدم وجود عطلة دراسية. من الواضح أن المهام الثورية كانت من أولوياته. كان “متين” أيضاً يدرس في تلك الكلية، ويعرفُ ضيفَنا، الذي انتبهتُ أثناء حديثِه عن متين إلى عدم رضاه عنه كثيراً، قبل أن يقول صراحةً: “إني أعرف متين. إنه إنسان صامت وسلبي، ولا فائدة تُرجى منه. وما يزال على علاقة مع حزب الشعب الجمهوري”. ورغم عدم إسهابه في الشرح، إلا إني تأسفت لِما سمعتُه منه. وقد بدا عليه جلياً أنه يودّ معرفة ردةِ فعلي. بالمقابل، وعلى الرغم من عدم التعليق على ذلك، إلا إني لم أُخفِ ردود فعلي.

بعد التحدث في عدة مواضيع بهذا المنوال، تطرقَ الضيف إلى الموضوع الرئيسي وعيونُنا تحدّق فيه بانتباه. شرح لنا الأمور رويداً رويداً، وأمراً تلو الآخر، وبلغة بسيطة تُمكّننا من الاستيعاب. إذ تطرق إلى مصطلحَي “الشعب” و”الأمة”، وتحدث عن فيتنام وأنغولا وكوبا، وعن نضالاتهم التحررية الوطنية، معرّجاً على عبارات لافتةٍ من أقوال قادتهم. وسعى إلى التأكيد على صحة شروحه باقتباسات من هوشي منه وكاسترو وكابرال ولينين وستالين. لم ندرك حقاً إنْ كان يروي لنا حكاية، أم يقرأ كتاباً، أم يلقّننا درساً في التاريخ.
ثم أسهب في شرحِ أصول الكرد وأنهم من العِرق الآري، وفي تعريف مَواطنهم وموطنهم ميزوبوتاميا، وفي شرح “الميثاق المللي” وتاريخ الاستعمار وأسبابه ونتائجه. وركّز بالأكثر على تقييمِ انتفاضة ديرسم لعام 1938 بصورةٍ شاملةٍ لا يمكن مقارنتها حتى بالسرود المتقطعة لأبي وأمي وأخوالي وجدتي بشأنها. إذ شرح لنا الوجه الداخلي للمجازر، وتاريخَ زوالِ شعبٍ أو أمةٍ ما، وعزّز شرحه بأمثلة مثيرة هزّتنا من الأعماق. فمخاضات تلك الأحداث مؤلمةٌ بما تضمّنَته من اغتصابات وإبادات جماعية وخيانات ونفي إجباري. لقد جعلني أشعر بالقشعريرة حتى النخاع. وتَسَمّرنا جميعاً في أماكننا نفكر في كيفية إنكارِ وجودِ شعبٍ طيلة هذه العصور. إذ لا ينص أي كتاب تاريخي على مفردة “كردستان”. إذاً، فاسمُ وطننا هو “كردستان”، بعدما كنا نسمّيه “الجمهورية التركية”.

استأنف الضيف في سرد تاريخِ تقسيم كردستان إلى أربعة أجزاء، وشرح اتفاقيتَي سيفر ولوزان والتمردات الكردية. ولم ينضب السرد.. بل لم نرغب أن ينتهي حديثه الدفاق المؤثر. أجل، كنا قرأنا عن اتفاقيتَي سيفر ولوزان في الكتب المدرسية، واللتَين نصّتا على مفردتَي الكُرد وكُردستان. لكنهما كانتا مفردتَين محصورتَين في تلك الكتب فحسب. أما اليوم، فها نحن نتعلم أن وطننا هو كردستان، التي طالما بقيت مستعمَرةً تقليدية. وتتضح مضامين التعاريف أكثر فأكثر ضمن سياق الشرح.

استطرد الضيفُ شارحاً أن كردستان مستعمَرة شبه إقطاعية، وأن “حق تقرير المصير” ضرورة حتمية لأجل شعبِ كردستان، أسوةً بجميع الشعوب؛ وأنه يجب النضال وتنظيم الصفوف بما يتناغم مع التحليل الملموس للظروف المادية في كردستان”. أما استشهاده المتكرر بالمثال الفيتنامي أثناء الشرح، فضاعفَ من اهتمامنا بهذه الثورة. ثم بيّنَ لنا أن فيتنام قُسِّمَت إلى جزأين: شمالي وجنوبي، وأن الجزء الشمالي أنجز ثورته أولاً، ثم خاض الجزء الجنوبي مع الزمن نضالَه ضد الاستعمار الحديث، ليُكلّل كفاحه بالاتحاد الطوعي والديمقراطي مع شمال فيتنام. وأنّ مستعمَرات غينيا وأنغولا وموزمبيق في أفريقيا حذَت الحذو نفسه، أنها وما تزال تخوض نضالاتها التحررية الوطنية. واستمر السرد وطال، بينما أحاول في قرارة نفسي استيعاب موضوع كردستان. كنتُ رأيتُ خريطة كردستان الملونة في إحدى احتفاليات ألمانيا. لكني بدأتُ الآن أدرك حقيقةَ أن “كردستان” هي في الأساس وطني ووطن كل الكُرد. وكلما استوعبتُ أكثر، كلما أصبحتُ “هُم”!

ترجمة: بشرى علي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى