تقارير وتحليلات

لماذا يهتم الأتراك والروس والأوروبيين بالبوسنة؟

بالنسبة لدولة يبلغ عدد سكانها 3.5 مليون نسمة في زاويةٍ مُتجاهَلة من أوروبا، تجذب البوسنة اهتمام بعض القوى الكبرى،وفقا لصحيفة “التايمز” البريطانية.

إذ سيصل وزير الخارجية الروسي، سيرجي لافروف، في الأسبوع المقبل، إلى مدينة بانيا لوكا الشمالية، التي يبلغ عدد سكانها 185 ألف نسمة؛ لتكريس كنيسة أرثوذكسية جديدة ضخمة.

مدينة بانيا لوكا هي عاصمة جمهورية صرب البوسنة، التي تتمتع بحكم شبه ذاتي وغالبية سكانها من الصرب البوسنيين الذين يتبعون العقيدة الأرثوذكسية نفسها مثل معظم الروس. وتلك الكنيسة والمركز الثقافي الملحق بها سيكونان أحدث تعبير عن دفء العلاقات الودية بين موسكو وجمهورية صرب البوسنة.

في الوقت نفسه، اختار الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، في شهر مايو 2018، مدينة سراييفو، على بُعد 120 ميلاً على الطريق من بانيا لوكا، لحشده الأوروبي قبل الانتخابات، التي انتقد فيها برلين وبروكسل وحث مسلمي القارة على النهوض.

وضخَّت الحكومة التركية أموالاً في عمليات تجديد مساجد ومدارس في هذا الجزء من البلاد، وهو اتحاد الأكثرية المسلمة في جمهورية البوسنة والهرسك. وأصبح أردوغان بين مسلمي البوسنة يُمثّل نفس ما أصبح يمثله الرئيس بوتين بالنسبة لمواطني جمهورية صرب البوسنة: شخصية الأب.

انتخابات في أكثر النظم تعقيداً بالعالم

في أقل من 3 أسابيع، وفي خضم هذا التأثير الخارجي الزاحف، سينتخب البوسنيون برلماناتهم ورؤساءهم في ظل أكثر النظم تعقيداً بالعالم. في منطقةٍ أصغر من أسكتلندا، سينتخب البوسنيون 3 رئاسات وبرلمانات لكيانين مستقلين يتمتعان بالحكم الذاتي و10 أقاليم محلية، لموازنة المقاييس الهشة للسلطة بين المسلمين البوسنيين والكروات الكاثوليك والصرب الأرثوذكس.

كان الدستور البوسني مرفقاً في اتفاقية دايتون للسلام لعام 1995، التي أنهت الصراع الداخلي المميت في البلد. لم يتغير ذلك الدستور بعد 23 عاماً، وكذلك لم تتغير السياسات البوسنية. ومن بين المجموعات العرقية الرئيسية الثلاث في البوسنة، يأتي الشعبويون في صدارة الانتخابات.

الزعيم المسلم البوسني باكير عزت بيغوفيتش هو ابن أول رئيس لفترة ما بعد الحرب وصديق مقرب من أردوغان. انتهت مدة ولايته، لكن حزبه، الذي قدَّم نفسه على غرار حزب العدالة والتنمية الذي يتزعمه الرئيس التركي، يهيمن على السياسة والدولة في اتحاد البوسنة والهرسك والذي يتخذ من سراييفو مركزاً له.

واتُّهم دراغان كوفيتش، رئيس مجلس الرئاسة البوسني لجمهورية البوسنة والهرسك الذي ينتمي إلى كروات البوسنة، بإثارة الكراهية العرقية بدعمه مجرمي الحرب المحكوم عليهم في لاهاي، حيثُ ادَّعى في نوفمبر/تشرين الثاني 2017، أنََّّ الجنرال الكرواتي السابق سلوبودان برالجيك، الذي قتل نفسه بشرب السم في قاعة المحكمة عند إدانته، قد «قدَّم تضحيةً لإثبات أنَّه بريء».

على الجانب الآخر، يتولى ميلوراد دوديك، رئيس جمهورية صرب البوسنة، السلطة منذ 12 عاماً، وسيُرشِّح نفسه مرةً أخرى. وسيسافر مع رئيسة وزرائه، زيلجكا كفيجانوفيتش، إلى موسكو؛ للاجتماع مع بوتين في الأسبوع الذي يسبق الانتخابات. والتقت كفيجانوفيتش، في يوليو 2018، بواشنطن، ستيف بانون، كبير مستشاري الرئيس ترمب السابق والمحرر السابق لدى شبكة Breitbart الإخبارية الأميركية والمهندس المعماري الشعبوي.

وقالت كفيجانوفيتش لصحيفة “التايمز” البريطانية، إنَّ الاجتماع كان «مثيراً جداً، يمكنني أن أخبرك بأنَّه رجل مثير للاهتمام».

ونفت أن يكون بانون قد طلب منها الانضمام إلى مشروعه الأوروبي الوليد، وهو تجمع يميني شعبوي في البرلمان الأوروبي يُدعى «الحركة» (اجتمع بانون بالفعل مع نايجل فاراج ومارين لوبان وفيكتور أوربان). وأوضحت كفيجانوفيتش أنَّهما تعرفا بعضهما إلى بعض عن طريق صديق مشترك، وأصرَّت على أنَّ حزبها ما زال مصمماً على المساعدة في توجيه البوسنة نحو الاتحاد الأوروبي.

الغرب لم يعير انتباهاً لمنطقة البلقان

وقالت: «لماذا أسمي نفسي شعبوية؟ أنا فقط سياسية عقلانية. يقول الناس إنَّني مؤيدة جداً لبوتين. حسناً، أنا مؤيدة جداً لترمب أيضاً».

ويقول دبلوماسيون ومحللون إنَّ الولايات المتحدة وأوروبا، اللتين يتعين عليهما توجيه البوسنة في اتجاه حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي، لم يعيرا انتباهاً لمنطقة البلقان في السنوات الأخيرة، بعد أن أصبحا مشتتين بسبب أزماتٍ أخرى. وهذا يجعل تلك المنطقة مكاناً سهلاً لتبسط قوى أخرى نفوذها.

وقال رولاند جوني، الباحث في النزاعات العرقية بكلية جامعة دبلن: «نحن لا نتحدث علانيةً عن تأثير فشل الاتحاد الأوروبي. توسُّع الاتحاد الأوروبي غير مُعلَّق، لكنَّه يسير بشكل أبطأ على الرغم من الادعاءات التي تعلن عكس ذلك. لكن بما أنَّ الاتحاد الأوروبي لا يريد التحدث بشأن الأخبار عن نفوذ روسيا وتركيا، فهما قادمتان؛ لأن الاتحاد الأوروبي يترك الميدان مفتوحاً».

تكشف القيادة 4 ساعات على الطرق السريعة المهجورة والبلدات الجبلية الصامتة من مدينة بانيا لوكا إلى سراييفو عن مشكلة البوسنة الأكثر إلحاحاً؛ إذ هاجر 5% من سكان البلاد منذ الانتخابات الأخيرة في عام 2014، ومعظمهم من الشباب الذين توجهوا إلى غرب أوروبا بحثاً عن العمل.

وبينما يلجأ الزعماء إلى الخطابات الطائفية في كل مرة تجرى فيها انتخابات، يذبل الاقتصاد وتتداعى الخدمات العامة في ظل الفساد وسوء الإدارة. وقال  بوريسا فلاتر (43 عاماً)، المرشح الرئاسي عن حزب «حزبنا»، وهو الكتلة الوحيدة الليبرالية متعددة الأعراق في الانتخابات: «هم يرفعون أو يحرقون الأعلام قبل كل انتخابات، وينسى الناس كل القضايا الأخرى».

وأضاف: «هذه الانتخابات بالنسبة لكثير من الناس هي استفتاء حول البقاء في البوسنة أو المغادرة إلى أوروبا. هناك الكثير من الغضب، لكن من الصعب التعبير عنه. نحن نُجرِّب نهج جون لينون».

ظاهرياً، قد يكون هناك عدد قليل من الناس مؤهلين بشكل أفضل للتعامل مع التحدي البوسني. وبوريسا فلاتر، البيروقراطي الدولي السابق المثقف الذي فقد والديه مع نهاية حرب سراييفو، هو طفل من زواج مختلط مسلم-مسيحي.

بينما كان يعيش كلاجئ بكرواتيا في سن المراهقة، بدأ العمل مع الأمم المتحدة مترجماً وعاملاً في الراديو. حصل في وقتٍ لاحق على منحة للدراسة في جامعة هارفارد وكلية لندن للاقتصاد، قبل العودة إلى المجال الإنساني مع الصليب الأحمر والأمم المتحدة كمنسق رفيع المستوى يعمل على بعض أكثر الأزمات تعقيداً في العالم.

لكن خارج قاعدة دعم حزب «حزبنا»، التي تتركز في سراييفو متعددة الأعراق، يمكن بسهولة استمالة البوسنيين من خلال حملات الخوف والكراهية التي يثيرها الشعبويون؛ إذ يقول 30% فقط من السكان إنَّهم يتفقون مع الزيجات العرقية المختلطة. ولا يوجد الآن سوى نسبة 4% فقط من الزيجات البوسنية المختلطة مقارنةً بنسبة 13% قبل الحرب.

وفي الوقت الذي يحاول فيه معارضوه التودد للحصول على دعم الزعماء الأجانب، يعتمد فلاتر على تبرعاتٍ بمتوسط ​​150 دولاراً في المرة الواحدة، وجيش صغير من المتطوعين الشباب في الشوارع، والتمويل الجماعي لدعم حملته الانتخابية. وهو يرشح نفسه للثلث الكرواتي من الرئاسة الثلاثية، ويعرف أنَّ فرصته ضئيلة.

وقال فلاتر: «أنا أشعر بمسؤولية تجاه الآلاف من البوسنيين الذين ما زالوا يؤمنون بفكرة البلد متعدد الأعراق. من مصلحة الاتحاد الأوروبي ألا تتحول البوسنة إلى ثقب أسود».

كيف يعمل الدستور في البوسنة؟

تُحكم البوسنة على مستويَين؛ على مستوى السلطة التنفيذية المركزية بسراييفو، وفي كيانين يتمتعان بالحكم الذاتي، وهما البوسنة والهرسك ذات الأغلبية المسلمة الكرواتية في الجنوب، وجمهورية صرب البوسنة ذات الأغلبية الصربية في الشمال. تسيطر تلك الكيانات على النظام الضريبي والإنفاق والتشريعات العامة من خلال برلماناتها.

توجد داخل البوسنة والهرسك أيضاً 10 أقاليم، لكلٍ منها برلمان خاص بها يدير القضايا المحلية مثل التعليم والرعاية الصحية.

وعلى المستوى الفيدرالي، يتقاسم 3 رؤساء، بموجب رئيس من كل مجموعة عرقية، الحكم بالتساوي في المكتب الثلاثي. يكون اختصاصهم الأساسي هو السياسة الخارجية وتوقيع القرارات؛ إما بتوافق الآراء وإما التصويت بالأغلبية. ويتولى الثلاثة أيضاً مهمة اختيار مجلس الوزراء. وفي معاقلهم، يُعتبر كل واحدٍ منهم الرئيس الحقيقي الأوحد بالنسبة لقواعد الناخبين الخاصة به، ويمتلك سلطةً هائلة على مناطق الحكم الذاتي الخاصة به.

ويُخصَّص نحو 28 مقعداً من أصل 42 مقعداً في البرلمان الفيدرالي لأعضاء من جمهورية البوسنة والهرسك، و14 مقعداً لأعضاء من جمهورية صرب البوسنة. ويمتلك البرلمان صلاحياتٍ محدودة، معظمها يتركز في سن التشريعات وفقاً لقراراتٍ رئاسية. لكنَّه يملك حق التصديق على ميزانية الدولة وتعديل الدستور، وإصدار تصويت بسحب الثقة من مجلس الوزراء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى