ثقافة وفنون

«المرأة» خيال الغرب وواقع الشرق..  أيّ علاقة بين الحريمين في لوحات المستشرقين»

عرف القرن الثامن عشر تدفقا غربيا باتجاه الشرق بلغ درجة الهوس من خلال هجرة مئات المغامرين والرحالة والأدباء والرسامين والباحثين عن المال والمتع والاكتشافات الجديدة، كانت هجراتهم مكثفة خصوصا باتجاه بلدان المغرب العربي ومصر وبلاد الشام والعراق، سميّت هذه الهجرات فيما بعد “الإستشراق”، وعرفت كظاهرة اقترنت في رؤيتها المباشرة بإشارات ومشاعر جمعت حب المعرفة والرومانسية والمغامرة وفي رؤيتها المقنّعة اختزنت رغبة في السيطرة والاحتلال وقد اختلفت أجيال المستشرقين التي توافدت بحثا عن الصورة والفكرة والتقنية والألوان والأضواء والخيال المزين بتفاصيل الغرابة والدهشة وبواقع اختلف عن المألوف في جغرافيا الغرب.


هذه الظاهرة كان نتاجها كتبا ودراسات ومذكّرات وسير والعديد من اللّوحات الفنيّة والصور الفوتوغرافية قدّمت ملامح ذهنية وحسية لبّت تصوّرات الغربي عن الشرق.
وقد حاول المفكّر الفلسطيني إدوارد سعيد فكّ ألغاز الاستشراق بالعموم وحضوره كظاهرة ثقافية بالخصوص إذ حملت بين ثناياها الكثير من النوايا، ليعتبره في حدّ ذاته -ورغم اختلاف المشارب التي أتى منها المستشرقون- رؤية للواقع العام في المنطقة، سياسية مهدت للاستعمار من كل نواحيه وتفاصيله، وهذا التفسير الجريء الذي خلق جدلا كبيرا استعرضه سعيد في مؤلفه “الاستشراق” مفصّلا تلك الرغبة القوية في الانتهاك باعتبار أن كل عمل استشراقي سواء كان تاريخيا أو أدبيا أو فنيا ليس سوى أداة لتنفيذ مشروع كولونيالي امبريالي رغم أنه قدّم بعض التفسيرات عن الفن التشكيلي ورأى فيه زوايا أخرى اشتغلت على ربط الصورة بالمخيلة.


فهل نستطيع دمج هذا التحليل مع ما بدا من الرؤى التشكيلية الغربية الاستشراقية، خاصة وأن المعروف عن الفنانين المستشرقين أنهم نقلوا ملامح كثيرة من الشرق وتركوا وراءهم تراثا تشكيليا غنيّا بالألوان والوجوه والرموز ومظاهر الحياة المرصودة في المنجز الفني عن الشرق، فرغم أعمالهم ذات الحس الإيروتيكي المكتشف لعوالم أخرى ممنوعة هي “الحريم”، إلا أنهم صوّروا المعمار والمدن وطقوس الديانات والمشاهد العامة والأزياء والعادات والمهن والمناسبات، هنا يعتبر سعيد أن تلك الأعمال ورغم واقعيتها المباشرة ليست إلا تلبية لرغبة خاصة من المستشرق نفسه في الشرق وحياته وتقديم هذا الواقع  كما صوّر في مخيّلة الفنان، بأجواء ذهنية ومركبّة وفق مقاييس الفضاء الغربي لكن في إطار شرقي يتمناه الفنان نفسه بعد أن حلم به في خياله ونقل صوره بما يتّفق مع معارفه الموروثة من مخزونه ومحيطه زادت في تكريسها الحكايات والأساطير، فعكس فيها رغبات المتلقي الغربي في ترتيب الواقع وفق تلك الصور النمطية عن الشرق، مخرجا ما في ذاكرته من مخزون محلّلا إياه ليركّبه في بناء لوحاته وفق ما توفّر من موديلات وأشكال وتكوينات، فخضعت الأعمال لمقاربة بين معارف الفنان وحسه الجمالي وفق المتاح غير المحرّم في عالمه مع ربطه في علاقة تناغمية وطيدة ومترابطة مع طبيعة الشرق ونمط تقاليده وما يميّزها خصوصا “الحريم”.

خرجت صورة حريم الشرق في الفن التشكيلي مختزلة لصور الشرق نفسه بين الخيال والحقيقة.

ففي الخيال الغربي تضمن حيز التعبيرات البصرية مبالغة، حيث اعتمد الرسامون على مخاطبة شعوبهم من خلال الرسم والصور وكانوا يركزون على ما ينقله الكتّاب والفلاسفة والرحالة في وصفهم “عالم الحريم” أو المرأة الشرقية، هذا العالم الذي كان من الصعب اقتحامه لأنه محكوم بالسلطة الذكورية وبالعادات والتقاليد فهو فضاء البيوت المغلقة، ونتيجة هذا الغموض جعلت الغربي يسعى دوما إلى اكتشافه من خلال رسم المرأة الشرقية في لوحات قريبة من تلك اللوحات الغربية الكلاسيكية التي ميّزت الأعمال الفنية في عصر النهضة بأوروبا وما تلاها من فترات تاريخ الفن التشكيلي الغربي، حيث كنّ يرسمن كشخصيات دينية في بورتريهات الطبقة الرفيعة أو نساء عاريات على شيء من الحسيّة بالنسبة لعامة الناس، وهذا في حدّ ذاته ليس نقلا واقعيا مباشرا لصورة المرأة الغربية وإنما انعكاس عام لسيكولوجية الفنانين الغربيين في تلك الفترة فتمثيل النساء على ذلك التصوّر كان إسقاطا لما يريده الرجل وتمرّدا على طبيعة المجتمع الغربي، فكانت صورة المرأة الشرقية وفق ذلك الإسقاط تحيطها قدسية جذابة ممزوجة بفنتازيا شرقية في زخرف المكان، طبيعة الشرق، الأزياء الأقمشة الفرش والحرير، الألوان، التنوع العرقي والديني.

فهي نقل تصويري متخيل لأنها تصورات ذاتية معتمدة على موديلات مراسم روما وباريس ولندن، وفي لوحات أخرى نقلت الفضاء الخاص بالحريم البيوت الواسعة بأبوابها وحجبها بجدرانها وزخرفها بساحاتها الواسعة وعوالمها الغامضة.


في أعمال المستشرقين تتراءى الشخصية الشرقية في امرأة مستضعفة، تتحايل على الرجل بالمكر والحيلة، أو بالفتنة والإغراء بالجسد الجمال والفتنة، فالمستشرق الغربي ركّز على تلك الرؤية، ضمن ثنائية التسلط والاستضعاف، وغطت هذه الثنائية مساحة واسعة من كتابات الغربيين وأعمالهم الفنية، غاضين الطرف عن جوانب الحياة الشرقية الأخرى وتفاصيلها الواقعية التي تتحدث عن عادات المجتمع.
كتب “أوليفر غولد سميث”(1730-1774) المؤلّف الإيرلاندي، في رسالة إلى أحد أصدقائه في الشرق يقول فيها: “أخبروني أنه ليس في الشرق حفلات…بل هناك “الحريم”… كما أخبروني أيضاً أن نساء الشرق، هن أكثر نساء الأرض تجاوباً في علاقات الغرام”.

والكاتب الانجليزي “توماس مور”، كتب يصف الحياة الشرقية وفق مخيلته “عالم يغصّ بنساء ذوات عيون واسعة سوداء، يملؤها الحب والرغبة، لكنهن قابعات في أسر رجال أشرار. كما يغصّ بالولائم الفاخرة، والحرير والمجوهرات والعطور والرقص والأشعار”.


وقد ذكرت الكاتبة الانجليزية لين ثورنتن في كتابها “النساء في لوحات المستشرقين” أن شهرزاد ألف ليلة وليلة أثرت في الغرب وذهنية تقبله لعالم الشرق وحريمه التي تنوعت لدرجة الأسطورة في الوصف والاغراء والمكر والدهاء وتفاصيلها المحكية عن الشرق كانت هي الأسباب التي بنت مخيلتهم عن كل تفاصيل الشرق وخصوصا عالم الحريم فبدأ التوجه إلى تلك المنطقة بحثا عن كل تلك الدهشة فهي تعتبر أن اللوحات أكملت السرد الروائي لقصص ألف ليلة وليلة معتبرة أن الأسرار الغامضة كانت تكمن في عالم الحرملك والمحضيات والأوضاليسك أو جواري الغرف وغيرها من عوالم الشرق التي كانت تحتل مخيال الفنانين والتي أخرجت لوحات اختلفت عكست الجسد فكرة وحضورا في تفاصيل المكان وفي المخيلة بين حريم السلاطين وحريم العامة.

تشكلت رؤية الوعي الغربي للشرق والمرأة الشرقية على تلك الصور التي تعكس الجسد والجنس من نواحيه الرمزية التي بالغ الرسامون المستشرقون في التعبير عنها صورا دقيقة وحرفية تعبيرية دقيقة الألوان والأضواء وتقنية التي عكست تأثرا كبيرا مكّنهم من أو يحوّلوا كل الأفكار والقراءات والاصوات والحركات صورا وإيحاءات وانطباعات شكلت صورة المرأة بمورفولوجيا جسد جميلة بقوام ورشاقة بامتلاءات شهوانية وكانت فكرة الحضور في فضاءات الجواري عالم من الدهشة تسجن المرأة في جسد للشهوة والكسل والخمول والاستعباد والمكر وإسعاد الملوك والسلاطين والرجال.

*الأعمال المرفقة

مجموعة المستشرقين: متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية

Farhat Art Museum Collections

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى