ثقافة وفنون

تأثير أسلوب التجريد التعبيري على التجارب التشكيلية.. الموقف الجمالي فكرة انتماء يتناغم مع حركة تراقص فراغات المساحة لونيا

تحمل التصورات اللونية في الفنون التشكيلية والبصرية عدّة مفاهيم وعلامات ومعاني تتعاون وتتداخل وتندمج فيما بينها لتخدم المصطلح الداخلي للذات ولثبات انتمائها وحرصها على خلق الابداع الجمالي في تطويع الرؤى والمواقف في مشاهدات الواقع التي تنفلت من الفكرة إلى المفهوم المشكّل معها ووفقها إلى الآخر الباحث عن معانيها ومحاولاته فك رمزياتها.

sachio yamashita
sachio yamashita

ولعل التمازج الحاصل بين الأسلوب التجريدي والتعبيري أسّس لمرحلة مهمة في تاريخ الفن التشكيلي المعاصر، هي أسلوب التجريد التعبيري التي انفلتت من حدود قوقعتها الداخلية التي كثيرا ما تعتبر التجريد مجرد هلوسات لونية معانيها غامضة، لتتفجّر مع الصور في فلسفة لونية جديدة تعبُر نحو الفكرة والحالة بعبث فوضوي وترتيب مفهومي يفسّر الحالات ويستقي منها المواقف ذات الصلة بالإنسان والوجود والواقع، ما خلق مسارات ومتاهات وترسبات وتراكمات وكتل وامتزاجات لونية خارقة للفكرة ومستفزة للفضول البصري الذي يقرأها ويغرق معها في مواقفها ويراها أقرب إلى نفسه وخياله وأفكاره بتشويشها وترتيبها.

وهو ما فسّر واقعية أسلوب التجريد التعبيري وتمرّدها في آن واحد وانفصالها من كل القيود لتتناغم مع إيقاع الروح والرغبة التي تنصاع بتمرد يرقّص الحالات وما ينجر عنها من تلاحم داخلي مع اللوحة كجزء يفسّر تلك الحركات التي لا تهدأ والرقصات التي تثير الجسد والذهن واللون والخامات المؤطرة لخلق التفسير النهائي الذي لا ينتهي، ما يستفزّها كحالات جمالية وبصرية لتتفوّق على جمود الفكرة وأحادية انفعالاتها.
لتتفرّع إلى عدّة تمازجات تعبّر وتنطلق نحو أفق فهمي واسع القضايا والجدليات التعبيرية والنفسية في توافق امتزاج الأسلوبين التعبيري التجريدي وتفرّد كليهما بذاته من خلال التفسيرات التي استطاعت أن ترصد لها عدّة رؤى بنيوية في فهم الحالات والتصورات الفردية والجماعية.
فالرسم الحركي في هذا الأسلوب يفعّل علاقة التماس بين الفنان واللوحة والتلقي الفهمي في تشكيلات اللون وملمس اللوحة والعلاقة التي تثير الفرشاة لتعبّر عن الحواس المتداخلة مع حركة اليد وضرباتها الانفعالية الساكنة والمتوترة والقلقة والباحثة التي اختارت أن تمطر باللون وتهاطلاته الصدامية والتصادمية في مواسمه العاصفة بالامتزاج اللامعقول واللامتوقع الذي يخدم الفكرة الماورائية في تفسير المواقف الوجودية النفسية والطبيعية والفكرية والواقعية لينبثق منها الموقف الجمالي ويتفاعل التشكيل معها ليرسم المساحات اللونية ويثبّتها مستفيدا من تلك التصادمات في خدمة البصرية الجمالية.

michael-brennan
michael-brennan

 

فالتجريد التعبيري ليس مجرد استيعاب للمشهد بل هو تطويع للذاكرة التي خزّنته بكل تفاصيله الدقيقة وترتيبه جماليا ليتسابق مع الخيال ويستفز اللاجدوى في الإنجاز النهائي ليخلق توليفات لونية ذات معنى ودلالة وحقيقة وتواصل بصري يسرد الموقف ويصعّده إلى رمزية تشكيلية معنوية التفسيرات.
تتصارع التعبيرات في التجريد بمحاكاتها للواقع الخارجي في سرد الغموض الماورائي في الحالات الذاتية وبالتالي تحويل المفهوم الفكري إلى حركة ونشاط يتوسّع مع اللون الذي يتحوّل في كثافة الحالة والمزاج إلى صناعة ونحت تُصقل الألوان عبره.
فالمزج بين الأسلوبين يعمّق توافقات التفسير والغموض وتسريب العلامة الرؤيوية التي تستفز الذهن بصريا.
فاللون ينطلق من الطبيعة وعمق المشاعر والموضوعية الواضحة في الحضور الواقعي أما انعكاسه التعبيري على المفهوم فيحوّله في الحركة إلى عنصر يتفاعل فيه ليستنتج الحالات الماورائية وهنا يخلق الصحو والمحو علاقة تشبه المواسم التي تتكاثف مع اللون وتستدرجه نحو عوالم أخرى تتابعه في حركتها وانفعالاتها وتصوراتها وانشغالاتها الداخلية التي تستنطق الانتماء الداخلي لمفاهيم الفكرة.

sam-nejati
sam-nejati

ولعل الحديث عن التجريد التعبيري كثيرا ما يحط تفكيرنا واستذكارنا عند التجارب الرائدة الغربية بوصفها المؤثر الأول في هذا التيار المتمرد فنركز على فكرة الأسلوب الحركي مع جاكسون بولوك وفكرة رسم المساحات مع مارك روثكو وقد كانا من أهم أيقونات الأسلوب وخلقا ميزة أثرت على تيار كامل اتسّم كذلك بالاقتباس التجريبي وخلق بصمة معاصرة في تفعيل تعبيرية التجريد ومداه المعنوي والدلالي نذكر تجربة الياباني ساتشيو ياماشيتا والإماراتي عبد الرحيم سالم بحكم تخصيص مساحة التعبير في حضور الألوان وتشكيلاتها الحركية، فياماشيتا يتميز بقوة ترويض اللون وتسطيحه وإثرائه بالمعاني وبدقته في اختيار كوامن النفس وسبر أغوارها من خلال عمق اللون الواحد في بعض أعماله وخطابه التدريجي للون وفي مزج الفكرة بالألوان ما أكسب تعبيراته التجريدية تأثيرا له فصاحة لونية مرئية وابتكارا نبش اللامرئي الذي لم يقتصر على حركة الريشة والفرشاة بل تعداها بخلق منافذ مكنته من ترتيب الحواس والمفاهيم التي تروّض المساحات الكبرى في الجداريات التي يختارها دوما ليداعب قلق اللون ويرتّبه بين الكتل والفراغات في خامات اللون والجدارية بين أفكارها ومفاهيميتها وهندساتها في حركات الطول والعرض الأفقي والعمودي التي تفعّل الطبيعة في خياله الملتقط للضوء والمتآلف معه والمنسجم مع تمرده الطفولي وانفعاله ببحث يعمق وجود اللون في الفضاء رغم ما يُرى عشوائيا إلا أن صدمة الانفعال ترتب تشكيلاته.

sachio yamashita *

أما عبد الرحيم سالم فيخوض في الألوان ويستنطق مداها التشكيلي في الطبيعة بتجريبها الحركي وتفعيل تواتراتها النفسية في مزاجاتها المنبثقة من عمق تصادمها الداخلي وإشعاعها اللوني المتكامل فيما بينها وكأنها نحت يحفر في اللون ليشكل منه ذاتية الحواس ومفاهيمها.
كما نلاحظ أيضا تجربة إموري لادانيه الذي يتفاعل مع الكتل بتشكيلها وهندستها في صياغات اللون بعمق الرمز في اللون، أو تجربة ماثياس جيورتس الذي يشكّل الكتل مع الفراغات المعتمة بكتل مختلفة بين البعدين الأبيض والأسود وتراكمات الترتيب والفوضى.


emory-ladanyi-
وتجربة سهيل بقاعين الذي يخوض في الألوان الداكنة بحثا عن مساحات النور وتجلياته المفاهيمية وعمق انسجامه معها وترتيبها المتدفق في المعنى الإنساني.


mathias-goeritz-

ولعل الحديث عن تأثير هذا الأسلوب في التجارب العربية لا يحيل إلى نقاط تقليد كامل للمسارات الغربية بقدر ما يطبع الأسلوب ببصمة ذات انتماء ذاتي يوحّدها على قضاياها الوجودية والنفسية الثقافية والواقعية فهي كتجربة ورغم مواجهاتها النقدية والفهمية في التلقي والاستنتاج والوعي بمداها الفني والجمالي، لا تبالغ في فردانياتها وانزوائها الداخلي بقدر ما تحاول احتواء الفكرة في المجموعة وإيصالها لخلق مفاهيمها منها كاستدراج نحو التفسير وتجاوز للمبهم وترتيب داخلي يحيل على الفكرة بحركة لا تدخل عين المتلقي في الملل والنفور بل تقترب من عمق أفكاره.

*الأعمال المرفقة:
متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية
Farhat Art Museum Collection

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى