ثقافة وفنون

مثالية الجمال وقداسة الفكرة بين جبران خليل جبران وبسام كيرلس

كتبت.. بشرى بن فاطمة

“لا فرق بين الرسم والشعر كلاهما تعبير عن النفس والعقل والقلب كلاهما يعكس ذات الأفكار إنها لسان واحد بألوان مختلفة لرسالة واحدة “.

هذا ما يقوله جبران خليل جبران عن كل ملكاته التعبيرية تلك التي يعتبرها منافذ للأمل للإنسان للروح للطبيعة والحياة لتفسير كل ما يختلج في وجدانه من أفكار وأحاسيس وتفاعلات مع الواقع والوجود والطبيعة حتى “يكون” فيها روحا فاعلة.

*عمل لجبران خليل جبران

وقد برز جبران كفنان تشكيلي بشكل ملفت ومهم ويستحق تسليط الضوء على تجربته وأعماله في الرسم والنحت، فقد تمكن من خلق بصمة أثرت عربيا وعالميا على جيل خاض التوجه الفكري الفلسفي الروحاني الطبيعي في ما صاغه من سرد بصري بلغة تشكيلية مميزة، حيث أنه زرع روح بحث عميقة غاصت في الإنسانية بتجلياتها التي توافقت مع الطبيعة والفكرة المقدسة بمزج الجانب الايماني الديني في فكرة الروح القدس وحضور المحبة التي أرادها السيد المسيح ألوان حياة بالتسامح والتضحية بعيدا عن جمود المادة وقوالبها، ليثبت الرمزية الخالدة لبقاء الفعل وتجاوز العنف والخراب والهدم من أجل منح التفاعلات الإنسانية تحررا في حياة أكثر انسجاما.

?

*عمل لبسام كيرلس

ولعل هذا التوجه الفكري والبحث البصري في الروح الإنسانية والرؤى السامية أثر بشكل واضح مباشر أو غير مباشر حسب درجات التفاعل، على أجيال اعتبرت جبران كيانا نبش في روح الفكرة أدبا شعرا وتشكيلا ولعل تشابهاتها التفاعلية وتحررها التعبيري وضعنا أمام مقارنة فيها ما يثير البحث عن حضور جبران الرومنسي الروحاني الفلسفي العميق بأعماله المشبعة بالوجود برغبات الانعتاق من المادة  نحو الحياة في فكرها المتحرر من أجل الايمان بالإنسان بالبناء الذاتي المنبعث من الخراب والهدم والتضحية وهو ما يحيلنا على فلسفة التشكيلي اللبناني بسام كيرلس، وهو ما استفزنا للبحث في عناصر التشابه والتناقض الانسجام والاختلاف، التماهي والتنافر لبلورة الفكرة التشكيلية في تجربتهما تلك التي تسمو بالإنسان في أبعاده الوجودية والحياتية التي لا تنفصل عن كونه عنصرا خاضعا لاعتقاده وإيمانه وروحانياته الرمزية خاصة وأن بسام كيرلس تمكن من خلق توازنات عقلانية في حضور المادة بعناصرها الواقعية وتجليات الروح المنطلقة والمتحررة بانعكاساتها الحسية.

?

*جبران خليل جبران 1896 تصوير فريد هالنداي متحف فرحات

عن هذه العلامات والاشارات والدلالات برمزياتها سنقع في الفضاءات الجمالية المثالية والفوضوية بترتيبها السردي البصري وتفاعلاتها الروحانية مع عناصر العلامات المقدسة التي تميز تأثيرات التجربة.

يقول بسام كيرلس عن تجربة جبران خليل جبران: “لم يأخذ فن جبران التشكيلي الشهرة والانتشار اللذان لاقاهما أدبه وذلك برأيي مرده إلى المنحى الروحاني الفائض في أعماله الفنية، في حين أن عصر جبران كان عائما على مفاهيم المادية وذلك نتيجة للتطور الكبير في العلوم.

انتصار المادية على الروحانية وإعلان نيتشه موت الالاه، وزمن اينشتاين وبيكاسو والحرب العالمية الأولى لم يكن ليحتمل جماليات جبران الغارقة في الرمزية والروحانية.

أما وبعد مرور مئة عام العالم تغير، النظريات العلمية المعاصرة المبنية على اكتشافات ميكانيكا الكم والتي باتت تنفي وجود المادة وتعتبر أن ما نراه هو مجرد مشهد هولوغرامي، فهذا العلم يعيدنا إلى فكر أفلاطون الذي اعتبر أن عالمنا الحسي غير حقيقي وهذا ما اعتقد به جبران.

عصر المادية إلى أفول بعكس عصر الروحانية الذي سوف يشهد إعادة اعتبار كبيرة.

في أعمالي جسدت الانسان الطائر متجاهلا قوانين الجاذبية النيوتونية ما يعبر عن تأثر بروحانيات جبران، الوجوه ذات الطابع الأيقوني تستعير من جبران وجه النبي، المواد المختلفة كالتراب وأوراق الزيتون تعيد الاعتبار لروحانية تصارع المادية استقاها جبران من المسيح القائل إنا من التراب وإلى التراب نعود.”

*من أعمال بسام كيرلس

إن التأمل في الأعمال التي صاغها جبران يقع على فلسفة المزج بين الأدبي والتشكيلي بين الصورة في اللغة والصورة في التشكيل والرسم وبالتالي جماليات الخلق والتكوين في تفاعلات الحياة بمعانيها الوجودية فما يقدمه جبران هو في حد ذاته فلسفة حياة تعمّقت في الفكر والوجدان فقد تمكن من الخوض عميقا في نفس الانسان في درجاته الايمانية ليقتلع القلق ويمسح على الذات بمسحة المحبة، فالخيال الصارخ في المشهد التعبيري يحاول أن ينتشل به الانسان من الكوابيس والعتمة محوّلا كل الهواجس الغيبية إلى ماورائيات تجريدية المشاهد روحانية السكينة في ترتيب النص البصري الذي يلونه بالتفاؤل والأمل والنور.

لجبران خليل جبران تأثرات عالمية من خلال بحثه عن أسلوب لاتجاه الرسم من خلال ويليام بلايك الذي أخذ منه حركة الشكل والخط والشرح العام وتأثر بعدة رسامين منهم بوفي شافان أوجين كاريير، والنحات رودان وأكثر من تأثر به هو بلايك فهو أيضا شاعر ورسام وهذا التأثر أحال على الفن القوطي أو التأثر بالأجواء الكنائسية المسيحية الإنجيلية.

كما اعتمد الرسوم التوضيحية والتعبيرية والانطباعية وتجاوز المحاكاة الحرفية للطبيعة بالرؤى الماورائي للصورة في عمقها الرمزي، فهو يجيد تكوين التفاعلات الروحانية من العناصر المختلفة في واقعه وبيئته  حيث تتفاعل بين الأضواء والظلال لتكوّن معان ضبابية في المسارات الكونية التي تحاول أن تلامس الروح بالفكرة والأحاسيس وتتجاوزها نحو اللاملموس أو اللامادي من الرؤى الميتافيزيقية التي تعالج ماهية الخلق والتكوين بفلسفة تحاكي الوجود وهي تبحث عن أبعاد الإنسانية وتجاوباتها التي ترتقي نحو عوالم الجمال حتى ترقّص الريشة فتخوض في مطلق البؤر بتجريد ورمزية وأسلوب مزدوج التعبيرات التي تتناقض وتنفعل لتحدد الصور الغرائبية وتنطلق بصفاء دافق في الفكرة والاحساس وهنا يتشابه التمشي البصري في التشكيل مع السرد الأدبي والتناسق الشعري فكل الأساليب هي منافذ لنشر فلسفة الحياة والوجود بكل انبعاثاته الحسية بين الألم والأمل المعاناة والتضحية الموت والخلود الفناء والبعث.

*من أعمال بسام كيرلس

إن الرابط بين بسام كيرلس وجبران هو رابط وجودي لفكرة البناء والهدم بين الروح والمادة بين الخلق والتكوين والفناء والبعث والخلود بين الصور وما بعدها بين الرؤية والفعل من خلال مجازات التصور القداسي للفكرة، لفك ألغاز الجسد والروح في تفاعلاتها مع الطبيعة والانسان كقدرة خارقة على التجلي في الفعل الفني من خلال الميثيولوجيا المنطقية التي تتسرب في الإنجاز بين التبشير والبشارة في اللغة التشكيلية في البصيرة التي تصور واليد التي تعمل بين تفاعلات القراءة الرمزية والتحولات الحسية تلك التي أثارها جبران في أعماله واعتمدها كيرلس في النحت والتصوير.

*من أعمال بسام كيرلس

فلا أحد يمكنه أن ينكر تلك الحساسية الذهنية المفرطة التي عالج بها جبران أعماله سواء الأدبية أو التشكيلية التي وصلت ذروة التفاؤل رغم كل الآلام فقد تمكن كيرلس من إدراك فلسفة جبران  التي أسست التوازن بين الجسد والروح والطبيعة ووحدت العناصر الحسية والذهنية فقد حرّر تلك العناصر وخلق لها أجنحة لتحلق في الكون وهو ما أثر في تعامل كيرلس مع الفكر الطبيعي والأسطوري والديني في صورة الطائر ورمزية “الفينيق” فقد وحّد كلاهما العناصر المتفاعلة في الطبيعة لخدمة الفكرة التشكيلية التي تعاملا معها برمزية فلسفية الأبعاد والمنطق التصويري وهو ما حرر تلك الفكرة من نمطيتها ومنحها التحول التعبيري العميق.

إن السمات المميزة لفن جبران التشكيلي وتجربته مع النحت والفكرة المصورة كما يقول الأستاذ الفنان والباحث غازي انعيم في كتابه “ثريات اللون: دراسات في الفن التشكيلي العربي” عن تجربة جبران “كان جبران وهجا متألقا استطاع أن يجمع بين الفكر والعاطفة فكان ناعم الأسلوب ساحر الموسيقى..يصوغ طريقته الخاصة الأسلوب الجبراني.”

إن الخصوصية والميزة التي يتفاعل من خلالها الفنانان هي تلك التوليفة التي تشكل الانسان والتي تجمع المادة مع الروح وهي محملة بالمشاعر والأفكار بتعقيدات تبحث عن الترتيب بفوضى تفجر الكيان وتستعيده بكل تفاصيله الحسية والذهنية.

فقد احتوى كيرلس كل ذاكرته اللبنانية وفجر مشاعره من خلالها وحملها بكل تلوناتها المعتمة بحثا عن النور الباقي في خلود الأسطورة ومرونة التحرر من القوالب أما جبران فقد حمل لبنان في طيات الحنين وانطلق نحو الفلسفة الوجدانية التي تفسر الحياة فقد كان أشبه بنبيه الذي رمّم تلك الأجنحة المتكسرة ليسمو بالروح من تمردها ويصل إلى مراتب البساطة الجمالية.

تلعب الطبيعة دورا فاعلا ورئيسيا في منح أعمال جبران وكيرلس قوة روحانية وعمقا إنساني التبادل بين المشاعر والذهن بين الحضور الاستيتيقي والميثيولوجي بين فكرة الخلود الأسطورية والعراقة خاصة فيما جسده كيرلس مع طائر الفينيق والصليب من خلال الحجر والطين والتراب الأوراق الأغصان في جدلية الموت والحياة البقاء والفناء الأرض والسماء وتلك الرمزيات الوجودية التي تعني التحرر والانعتاق والذي بلور فلسفة جبران.

لكيرلس حضور مثير في التعامل مع المادة والخامة عند النحت والتشكيل فهو ينطلق من هذا الاشباع الروحاني الإنسانية الغارق في تفاصيل الأرض والذاكرة والانسان مشاعرا وأفكارا فمن الكلاسيكي يجدد فكرته المعاصرة مع الواقع بالأبعاد والهندسة بتقمص الكتل وتحريرها لتحلق بروح المحبة والعطاء مكثف التعابير.

استطاع جبران السيطرة على أحاسيسنا من خلال  فلسفته وخاماته التي شكل بها فكرته فقد روّض الفكرة في مشاهدها التي تتماشى مع نسق الفلسفة المطروحة في كتاباته فلا يمكن التفريق بين ما يكتبه أدبا وشعرا وما يسرده صورا وتشكيلا فهو يجيد التركيز على الملامح والوجوه على الحركة بتصورات انجيلية تصوغ دلالات الحياة، وهو ما مزج أسلوبه بأناقة التوازن بين العناصر التعبيرية بين الانفعال والحركة بين رومنسية التجاوب والعواطف فبين طفولة التجسيد ونضج الفكرة تتجسد المهارة والابتكار في قدرة جبران على أن يسرد البصري ويحقق بصمة إنسانية في الفضاءات التشكيلية العربية والعالمية.

الأعمال المرفقة:

*متحف فرحات الفن من أجل الانسانية

Farhat Art Museum Collections

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى