ثقافة وفنون

مكتباتهم.. من القراءة إلي الاقتناء

كتب.. محمد سيد بركة

تبدأ الحكاية بالقراءة وتنتهي إلى الاقتناء، وما بينهما جهد ومثابرة ومصابرة على تحصيل فكر وعلم، تلك رحلة طويلة وشاقة يحاول “محمد آيت حنا” توثيق مراحل مكابدتها بين دفتي منشوره “مكتباتهم” الصادر عن دار توبقال للنشر ضمن سلسلة المعرفة الفلسفية، محتويا في طبعته الأولى (2016م) على 144 صفحة.

يستدرجنا حنا من خلال عنونة مقالات كتابه بمكتبات 31 مفكرا وأديبا وفيلسوفا وكاتبا من الشرق والغرب، متخذا من مواقفهم منطلقا للتدوين عن فكرة أو هَمِّ قرائي في الحاضر أو المستقبل. ينطلق حنا من سيرته مع تشكيل الهيكل الهلامي للمكتبة حين جمعها قطعة قطعة من الكتب المخزنة مع المتلاشيات لدى أقاربه، يسطو عليها ويصطادها في سياحاته بين منازلهم، وكان بذلك منقذا لكتب كان مصيرها العيش بين الظلمة والرطوبة وخيوط العنكبوت، فالفلاحون كما يُعنْوِن لا يضعون الكتب في المكتبات. ويرى حنا أن على الدارسين الاعتناء بمسألة جرد الكتب التي جمعها المفكر قيد حياته ودراستها دراسة خارجية محض وصفية غير مغرقة في التفكير وفك أسرار جمعه وتصنيفه ورسم الطرق السرية للحدائق المتشعبة الداخلية للمكتبة، فذلك لا يقل فائدة عن تتبع سير المؤلفين والكتابة عن مستغلقات فكرهم. ويذهب حنا بعيدا في استنطاق مستقبل القراءة في زمن يتضاءل فيه عدد القراء ويزداد الكتَّاب، فلم تعد تجدي الإهداءات ولا توقيعات الكتب فتنشط سوق ووكالات تتوسط بينهم وتروج لقراء متمرسين ثم يتطور الأمر إلى دفع النقود للحصول على قراء، ومع التضاؤل المريع لعدد القراء في العالم يهربون كالبوهيميين من ملاحقة الكتّاب لهم فتنشط عصابات دولية تختطفهم وتجبرهم على قراءة من يدفع أكثر كما تمتلئ المعاقل بقراء ما يزالون يملكون ضميرا متمترسين خلف مبدأ قديم يسمى الذائقة الأدبية. ويحدد صياد الكتب الفارق بين القارئ ومقتني الكتب من خلال استحضار الكتب كأفكار ومضامين بينما المقتني لا يعني له الكتاب أكثر من مادة محسوسة وشيء له وجود فيزيائي ويشغل حيزا خارج الذهن.

ويعقد حنا مقارنة في مقام الاقتناء بين حالة البوتلاش لدى الهنود الحمر التي تقوم على إفناء الممتلكات لامتلاكها، فمن يمتلك الشيء هو من يتخلص منه بحيث يتخفف من كل ثقل يمارسه عليه امتلاكه، فيتخلص منها عبر طرق واعية كالإهداء أو الحرق مثلا، فيما يرى أن التخلص الأمثل من سطوة الكتب هو التخلص العشوائي في إفراغ المكتبة كما يعرضه أورهان باموك في كتابه ألوان أخرى.

وتستوقف حنا تجربة «أبي العبر» الذي عاش في زمن الخليفة العباسي المتوكل، حين كان يجلس على الجسر يدون ما يتناهى إلى سمعه من كلام الذاهبين والعائدين حتى تمتلئ صحيفته ثم يعمد إلى تمزيقها أربع قطع ثم يرصف القطع بترتيب مخالف لينتج كلاما ليس في الدنيا أحمق منه، مشيرا إلى أنه يعد من أكثر التجارب الكتابية سريالية في التاريخ حيث يسعى الكتاب إلى إحداث منطق عبر اللا منطق، كما سعى لتأسيس المكتبة الحية التي يكتبها بنفسه مع القراء الذين استقطبهم ليشكلوا الفضاء العام وسياق الكتابة.

ويرى حنا أن ما يجري اليوم في الشرق الأوسط يعبر عن مسار التاريخ الجمعي لبني البشر الذي يفرض عند كل مرحلة حاسمة محو ألواحه وإعادة الكتابة من جديد عقب كل كارثة لا تنطفئ شهوتها إلا بالمحو الكامل لما كتب مثل الطوفان والغزو المغولي لبغداد وتسوير الصين.

يتطلب تعلم القراءة ابتكار أسلوب شخصي فريد لنظام التعلم نفسه كما يقول حنا، فيما يكمن التحول إلى قارئ في الغالب الأعم ضدا على السياق الاجتماعي لا مسايرة له، ويجيب حنا عن السبيل إلى إكساب عادة القراءة قائلا: أنثر الكتب كالحب في كل مكان وأنتظر أن يقع عليها القارئ بنفسه، أكتفي بنصب الفخاخ بعناية في كل مكان، وأنتظر أن ينادي الفخ الطريدة.

ويستعرض حنا بجمال مدى توسع مفهوم القراءة وحيويتها حين يفترض إمكانية امتلاك ميزة البحث بخدمة قوقل في القرن الثامن للميلاد كما فعل المأمون في مجالسته للمؤلفين والعلماء والأدباء والشعراء، وكما تتحول الكتابة عن الكتب إلى إصدار آخر، وكما سعت إحدى الدول الأوروبية إلى تجربة المكتبة الحية عبر مرافقة شخص خبير في مجال من مجالات الحياة وكونه بمثابة كتاب تنهل من تجربته ما لا تنهله من بعض الكتب.

يسجل حنا في مقاله مكتبة باييخو تأثير الكتب والمكتبات كنماذج متخيلة وأخرى واقعية كما تحدث الترجمات انقلابات في ثقافات بأكملها كما حدث مع ألف ليلة وليلة، بل إن من القراء من قادتهم الصدفة إلى قراءة جورج بوليتزر أو سيد قطب فألفوا أنفسهم فجأة في غياهب السجون أو في مواجهة المقصلة.

القراءة نمط وجود كما يقول حنا، نحن لا نقرأ عادة أمام الكتب وإنما نحلم.. كلما اشتد التركيز على الكتاب ضاع مفهوم القراءة حسب تعبيره، ويرى أن في الانفلاتات وحدها نحقق فرادتنا ونلقى نصنا الخاص المتميز.

يبدأ الكتاب في قسمه الأول بالتمهيد لعمل المترجم المغربي عبر تقديم، يحمل طابع السيرة الذاتية، عن علاقته مع فكرة ، فيروي فيه جزءاً من علاقة أجداده لأبيه وأمه مع المكتبة، وكيف تقاسم الورثة المقتنيات كما تقاسموا الأشواك والسكاكين، وكيف سعى الكاتب إلى لمّ شظايا تلك المكتبة التي جمعها فلاحون لا يضعون الكتب في المكتبات.

البعد الذاتي السابق، قاد الباحث المغربي إلى كتابة مكتباتهم، والذي يشغل القسم الثاني الأكبر في الكتاب، وفيه يبني مكتبة مفهرسة، على حد تعبيره، لتشمل مكتبات تواطأ مع أصحابها على بنائها أو إبرازها أو حتى نقضها أو هدمها.

عملية البناء السابقة تتشكل دعائمها من أعمال وكتابات وأفكار عديد من الفلاسفة والكتاب والعلماء، سواء من تحدثوا بشكل مباشر في أعمالهم عن أفكار المكتبة والقارئ والكاتب، أو من لم يشيروا لذلك. نجد عناوين القسم الثاني الأساسي في الكتاب، عناوين لتأملات في مكتبات: والجاحظ وكيليطو وإيكو وأفلاطون وابن سينا ويوسا وباموق وبنعبد العالي… وغيرهم.

عند محاولته تشييد أي مكتبة من مكتبة الأعلام الذين خصهم حنا في كتابه، نجد أمانة وبحثاً حراً في تقديم أفكار وتصورات كل منهم، مستعيناً في الوقت ذاته بمقالات وأفلام وكتب ناقشت الفكرة ذاتها، دون أن يخفي آراءه وتصوراته حول أي منهم.

يستحضر في السياق السابق رائعة أجنحة الرغبة للسينمائي الألماني فيم فيندر، ووصف أفلاطون لأرسطو بأنه قرّاء جيد، ليحط من شأنه لأن القارئ في الثقافة اليونانية ينظر إليه كتابع. يذكر كذلك التوحيدي الذي كان يسعى إلى محو كل ما يدل على اسمه، عبر الحديث بلسان أساتذته وأعلام عصره، أو الجاحظ في مكان آخر الذي وصفه ابن قُتيبة بالكاذب، لأنه تجاوز مرحلة اختراع الكلام إلى اختراع المتكلّمين ليقول ما يريد قوله، وهذا ما يجده آيت حنا مصدراً للسحر في اشتغالات صاحب الحيوان.

يحتوي القسم الثالث والأخير على قصة المكتبة لأحمد بوزفور، حيث يعيش البطل فيها توتراً بين عالمين: مكتبته ومكتبة العالم المعقدة. ليقدم حنا من خلال تضمين القصة ما أراد قوله في إحدى صفحات الكتاب جميع القراء يعيشون هذا التوتر، بعضهم يغرق في عالم الكتب المضلل، وبعضهم الآخر يستفيق.

وكأن آيت حنا أراد أن ينقل لقارئه جزءاً من التوتر الذي كان يؤرقه كقارئ، فكان يطل كل حين على العالم الخارجي أثناء تأمله لمكتباتهم، وهو ما يكون إما باقتباسٍ من حكايته الخاصة، أو بعرض النقاشات بينه وبين الكتّاب الذين عرف مكتباتهم في حياته.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى