تقارير وتحليلات

كيف علق لبنان بين “ربيع كورونا” وأزمة اقتصادية تهدد وجوده؟

القنابل الحارقة التي ألقاها مئات المتظاهرين على المكاتب الحكومية والبنوك في بيروت وطرابلس، والإطارات المشتعلة وقوات الشرطة التي أطلقت الغاز المسيل للدموع، وقوات الجيش اللبناني التي استخدمت القوة الزائدة.. لا تقتصر على تذكير بالاحتجاج الكبير الذي اندلع في لبنان قبل أزمة كورونا، بل هي قلب الاحتجاج الذي انتظر رغماً عنه ثلاثة أشهر، ولم يعد يتوقف الآن.

لا يزال لبنان مصاباً بكورونا، لكن الأزمة الاقتصادية هي التهديد الوجودي الحقيقي. والجمعة الماضي، عقد رئيس الحكومة حسان دياب، جلسة طارئة للحكومة من أجل اتخاذ قرارات تتعلق بخطوات اقتصادية جديدة كي تخفف الغضب وتقدم حلاً على المدى القصير على الأقل. وسمعت في الشارع دعوات لإقالة الحكومة ومحافظ البنك المركزي رياض سلامة، الذي يعتبره الجمهور عدواً للشعب والشخص الذي تسبب بالأضرار الاقتصادية التي استمرت لسنوات، وفقا لصحيفة “هآرتس” العبرية”.

ولكن لم يتحقق شيء من هذه الأمور، فقد بقي المحافظ في مكانه، والحكومة أيضاً. خطوات اقتصادية؟ لقد تقرر ضخ المزيد من الدولارات إلى السوق لخفض سعر الدولار الذي قفز مؤخراً إلى سعر 7 آلاف ليرة لبنانية، مقابل السعر الرسمي الذي تم تحديده في التسعينيات، وهو 1507 ليرة للدولار. انخفض السعر قليلاً بعد جلسة الحكومة، لكن ليس من الواضح كم من الدولارات يستطيع البنك المركزي ضخها في الوقت الذي فيه الخزينة فارغة. الدين الوطني يعادل نحو 170 في المئة من الناتج الوطني الخام الإجمالي. التجارة الدولية، لا سيما التصدير إلى الدول العربية الذي يمر عبر سوريا، في حالة تجميد عميق. أما صندوق النقد الدولي الذي توجه لبنان إليه لقرض فيجري بتكاسل نقاشات مع الممثلين اللبنانيين. “نحن في أزمة اقتصادية، لكن لبنان لا يعتبر دولة مفلسة”، أعلن دياب، الأسبوع الماضي. وظهرت أقواله جوفاء إزاء البطالة التي بلغت 40 في المئة تقريباً، والخوف الآن هو من عدم قدرة الحكومة على دفع الرواتب لموظفيها.

العمل كان على رأس طلبات المئات ممن يركبون الدراجات والذين ملأوا ميدان النور في طرابلس. أما الحديث عن شد الأحزمة وكبح الاستيراد وتقليص النفقات الحكومية لا تدخل قلوب الذين لم يحصلوا على الراتب من مكان عمل منظم لأشهر أو سنوات. “لم يعد لدينا ما نخسره، من الأفضل الموت بكورونا بدل الموت جوعاً”، قالت فتاة من بيروت لمراسل قناة تلفزيون محلية، وأضافت: “لقد درست مهنة في الجامعة وعملت في التسويق في شركة للدعاية إلى حين تمت إقالتي. لي عائلة، لكن ليس لي حياة أو مستقبل. وأن أكون اليوم لبنانية يعني الاحتضار رويداً رويداً”.

مع فرض متوقع للعقوبات الأمريكية الجديدة، هذا الشهر، على سوريا في إطار “قانون قيصر” الذي سنه الكونغرس، فقد يتلقى لبنان أيضاً ضربة أخرى. حسب القانون، ستشمل هذه العقوبات أيضاً كل المتاجرين مع النظام السوري أو يساعدونه بأي طريقة. أي أن بنوك لبنان ورجال الأعمال في الدولة ربما يعاقبون. وكل ذلك في الوقت الذي يستضيف فيه لبنان على أراضيه نحو نصف مليون لاجئ سوري.

وليس واضحاً ما سيكون مصير طلب القرض من صندوق النقد الدولي، الذي تتعلق المصادقة عليه بموافقة أمريكا. ومشاركة حزب الله في الحكومة قد تستخدم كذريعة لمنع هذا القرض الحيوي. وفي المقابل، يعارض حزب الله، الذي يسيطر على الحكومة، استقالتها واستقالة محافظ البنك المركزي. ومن يريد الآن استقراراً سياسياً في لبنان قد يمكّن قيادة الدولة من الخروج من الأزمة وسيضطر إلى ابتلاع وجود حزب الله في الحكم. وإن حكومة فاعلة تعدّ أيضاً شرطاً أساسياً لضخ المساعدات التي تعهدت الدول المانحة بتقديمها لها قبل سنتين بمبلغ 11 مليار دولار. ولكن حتى لو صودق على القرض، فسيكون هذا مقروناً بشروط قد لا تستطيع الحكومة الوفاء بها.

الإصلاحات الاقتصادية ليست الجانب البارز في حكومات لبنان على مر أجيالها، لأنها بحاجة إلى تشريع ينظم العلاقة بين البنك المركزي والحكومة ومكانة البنوك ورقابة شاملة على الطريقة التي سيتم إعطاء القرض بحسبها، وعلى نقل أصول الدولة إلى القطاع الخاص بصورة شفافة وعادلة. باختصار، هذه الإصلاحات بحاجة إلى سحق العرف الاقتصادي السياسي الذي يتم توزيع الموارد حسب اعتبارات طائفية ودينية يتحكم بها أرباب المال والحكم. هذه الهزة الأرضية التي هي حلم اللبنانيين ليست في متناول اليد ولا تلوح في الأفق.

لبنان عالق الآن بين إدراك ما يجب فعله من ناحية اقتصادية، وبين عدم القدرة السياسية على تنفيذه. المتظاهرون والمعارضة وحركات الاحتجاج يدركون هذا الواقع جيداً، وإذا نجحوا في إسقاط الحكومة أو إقالة محافظ البنك المركزي، فمن المتوقع أن يضعوا النظام السياسي في فترة تجميد أخرى لإجراء انتخابات وتعيين حكومة جديدة. وحسب التجربة اللبنانية، ستمر بضعة أشهر إلى حين التوصل إلى اتفاق حول ذلك، وحتى هذا لا يمكنه ضمان إجراء تغييرات حقيقية في البنية الاقتصادية، لأن هذا الاتفاق سيقتضي تنازلات من النخب السياسية والطائفية التي تدير الدولة الآن.

لبنان ليس ظاهرة فريدة في الشرق الأوسط، بحيث يضع فيه “ربيع كورونا” الأنظمة مرة أخرى أمام جمهور فقير وعاطل عن العمل وعاجز، يخرج بسبب اليأس إلى الشوارع ويهدد استقرارها. هذه الأزمة مضاعفة إزاء الوضع الاقتصادي الصعب في الدول الغنية التي أنقذت في السابق أنظمة حاكمة فقيرة من الأزمات. “يمكن لـ”ربيع كورونا” أن يظهر كتهديد إستراتيجي أكثر خطورة من ثورة “الربيع العربي”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى