من التاريخ

في البحث عن الحقيقة الكردية (الحلقة التاسعة)

إعادة تدوين التاريخ من جديد تُعتبر من المهام الضرورية التي ينبغي القيام بها أو يمكن القول تجديد الخطاب التاريخي بشكل سليم سيفضي معه معرقة الحقيقة التي نبحث عنها في راهننا. إذ، لا يمكن التوصل إلى الحقيقة المجتمعية لأي مجتمع أو طرف بالاعتماد على تفاسير مغلوطة للمراحل التاريخية التي تم عيشها والنظر إليها على أنها جزء من الماضي.
المغالاة والتطرف في تحديد المسار التاريخي من قبل بعض المؤرخين الذين كتبوا التاريخ وفق أهواء المنتصر لم يجلب معه سوى الابتعاد عن حقيقة الذات الانسانية التي هي أساس التطور الثقافي والمجتمعي للتاريخ. لا يمكن الاعتماد على نظرية نشوء الدول أو الأمم فقط في رسم خارطة تطور المجتمع التاريخية، إذ ثمة مجتمعات بشرية كثيرة تعيش الظاهرة الثقافية حتى راهننا بالرغم من كافة الإجراءات القاسية التي تم تطبيقها عليهم بحجة الحفاظ على الأمن الداخلي للدولة.
كل شيء يتغير بشكل نسبي ومختلف ولا يمكن الحديث عن أمور ثابتة بشكل مطلق. بينما أطلَّت علينا الليبرالية بعلومها الوضعية وارادت أن توهمنا أنه لا شيء ثابت وكل شيئ متغير وبسرعة ولذلك ليس هناك من داعٍ للتمسك بالموروث الثقافي وإلا أُعتُبِرَ تخلف وجهل. يوضح أوجلان في مجلده الخامس “مانيفستو الحضارة الديمقراطية – القضية الكردية وحل الأمة الديمقراطية”، هذه القضية بشكل جيد ويقول: “عدمُ إنكارِ التغيرِ في علمِ التاريخِ والمجتمع، وعدمُ المغالاةِ فيه أيضاً يُعَدُّ شأناً عاليَ الأهمية. فالمجتمعُ الثقافيُّ أكثرُ رسوخاً ودائميةً من مجتمعِ المدنية، ويُشَكِّلُ أصلَ المجتمعِ ووجودَه، ووجودُ المجتمعِ المتكونِ بمتانةٍ على الصعيدِ الثقافيّ، هو مجتمع محظوظٌ في تأمينِ سيرورتِه. وبينما يطرأُ التغيرُ بسرعةٍ وكثرةٍ على المدنياتِ والدول، فإنّ الثقافاتِ تتيحُ المجالَ أمام تغيرٍ جدِّ محدود.

من الخطأِ القولُ بعدمِ حصولِ أيِّ تغيرٍ فيها. لكنّ الحديثَ عن الثقافاتِ المتغيرةِ دوماً وعن القيمِ الثقافيةِ المتغيرةِ بسرعة، هو أيضاً خاطئٌ بقدرِ الأول، أي بقدرِ المفاهيمِ القائلةِ بعدمِ حصولِ التغير. في حين أنّ وتيرةَ التغيرِ المذهلةَ التي تَعتقدُ الحداثةُ بانبثاقِها من حصرِ كلِّ شيءٍ في “لحظة”، تُعَبِّرُ في مضمونِها عن اللاتغير. ذلك أنّ التغيراتِ السريعةَ إلى أبعدِ حدٍّ في الحَيَواتِ التي تُكَرِّرُ ذاتَها لحظياً، هي في الحقيقةِ غيرُ واردة. لقد أُنشِئَت هنا أيديولوجيةٌ تضليلية. هذه المخادَعاتُ التضليليةُ الأيديولوجيةُ الممهورةُ بمُهرِ الليبرالية، ترمي إلى تحريفِ وعيِ وإدراكِ التاريخِ والمجتمع”.
لذلك ينبغي توخي الحيطة حينما يتم البحث في تاريخ الكرد بشكل خاص لأنهم لم يستسيغوا حتى راهننا فكرة بناء دولة خاصة بهم، بالرغم من دغدغة عواطف بناء الدولة ما زالت مستمرة من قبل القوى الغربية الرأسمالية بغية تحقيق أطماعها في السيطرة على المجتمعات والدول.
إذ أنه لا يمكن تعريف المنطقة التي نعيش عليها وفيها على أنها مجموعة من الدول المجاورة لبعضها البعض، هذا التعريف بحد ذاته يُعتبر انتقاص لحقيقة المنطقة المعمرة آلاف السنين. الأجدر بعلماء التاريخ وبعلم الاجتماع أن يُعرفوا المنطقة على أنها مجموعة من الثقافات المتعايشة مع بعضها البعض منذ آلاف السنين والمتداخلة فيما بينها حتى أنه يَصعب التفريق بينها بشكل مطلق، مع تواجد بعض الاختلافات البينية بينها إلا أنها متممة لبعضها البعض ولا يمكن لثقافة أن تعيش منفردة أو طاغية على ثقافة أخرى. بهذا التقرب التعريفي للمنطقة بمقدورنا احياء المنطقة من جديد وحينها سوف يجد الكل ذاتهم وثقافتهم وأن يعيشوا نفسهم ويعيدوا نشر الحضارة من جديد.
التعريف القوموي والديني الذي تتأسس عليه الدول في منطقتنا باتت وباءاً يجتاح الكل ويقضي على الكل بنفس الوقت. فترى العرب أصابتهم داء العصبية وكذلك الكردي يبحث عن العيش في قوقعته منزوياً على ذاته بعيداً عن أخيه العربي، وأيضاً بمقدورنا القياس على ذلك كافة الطوائف والقوميات والأثنيات والمذاهب، من تركمان وشيشان وآشور وأمازيغ وغيرهم، تبحث عن مخرج لها من خلال تقسيم المنطقة على أساس عرقي ومذهبي كما تريده القوى الغربية كي تبسط نفوذها وتسرق ما يحلوا لها من خيرات هذه الشعوب.
لذا، البحث عن أساليب أخرى في معرفة الثقافات المتواجدة في المنطقة يُعتبر مفتاح الحل الرئيس للعيش المشترك وكذلك معرفة التاريخ الحقيقي لشعوب وثقافات المجتمعات. إذ يوضح أوجلان في مجلده الخامس “مانيفستو الحضارة الديمقراطية – القضية الكردية وحل الأمة الديمقراطية”، هذه القضية بشكل جيد ويقول: “يتوجبُ وضعُ هذه المواقفِ الأسلوبيةِ نُصبَ العين، لدى التعمقِ في الظاهرةِ الكرديةِ وتاريخِها. بينما العملُ على فهمِ الحقيقةِ الكرديةِ عبر التواريخِ القوميةِ والدولتية، يعني تحميلَها عبئاً مفرطاً في الثقل. والتجاربُ المُخاضةُ في هذا المنحى تواريخٌ قسريةٌ لا علاقة لها كثيراً بالمستجداتِ الظواهرية. بل ولا تَعكسُ الحقائقَ حتى بقدرِ الميثولوجيا والأساطير. أما أسلوبُ التاريخِ الثقافيّ، فهو أدنى إلى الواقعِ الظواهريّ، حيث يستوعبُ المدنيةَ والحداثةَ أيضاً بين طواياه. بينما ثقافةُ المدنيةِ والحداثةِ لا تشتملُ على التاريخِ العالَميِّ للثقافة. ذلك أنّ الأمةَ والدولة، واللتان تُعتَبَران عامِلَين أوليَّين لعهدِ المدنيةِ والحداثة، لا يُمكنُ إلا أنْ تَكُونا جزءاً من التاريخِ الثقافيّ؛ حيث تفتقران إلى القدرةِ على استيعابِ الكونيةِ الثقافيةِ واحتوائِها”.
فعدم امتلاك الكرد لدولة خاصة بهم هذا يعني البتة أنهم بلا تاريخ أو ثقافة أو لغة تجمعهم، بل على العكس من ذلك تماماً فعوامل تشكل الشعوب متواجدة عند الكل بشكل صارخ، حيث أن التاريخ الموغل في الزمن الذي ما زالوا يعيشونه هو بحد ذاته على أن هذا الشعب ما زال متمسك بالحياة بالرغم من المظالم التي واجهوها والتي ستواجههم. والمنطقة التي يعيشون فيها تُعتبر من أخصب الأراضي في المنطقة والتي كانت يوماً ما مهد الحضارة البشرية ولا يمكن لأحد أبداً أن يُنكر ما لعتبه أرض مابين النهرين أو ميزوبوتاميا أو أرض الرافدين من دوراً مهماً في نشر العلوم والثقافة نحو الأطراف.
الكثير من المدنيات التي انبثقت تغذت بشكل مباشر وتأثرت وأثرت بحضارة ميزوبوتاميا أو الهلال الخصيب وأن هذا التأثير ما زال موجوداً من خلال التشابك الثقافي لهذه المنطقة. الحقبة النيولوتية التي تم عيشها في ميزوبوتاميا منذ عشرون ألف سنة تُعتبر مرحلة مهمة في تاريخ التطور البشري. وما زالت البحوث الأركولوجية والأثرية تُخبرنا بالمزيد يومياً عن هذه المنطقة المنسية من التاريخ. إذ يوضح أوجلان في مجلده الخامس “مانيفستو الحضارة الديمقراطية – القضية الكردية وحل الأمة الديمقراطية”، هذه القضية بشكل جيد ويقول: “من هنا، فعدمُ احتلالِ الكردِ مكانَهم كثيراً في تواريخِ المدنيةِ والأمة، لا يَعني أنهم بلا تاريخ. فإذ ما تناوَلنا الموضوعَ تأسيساً على التاريخِ الثقافي، فسنُلاحِظُ أنهم أصحابُ تاريخٍ مِحوريٍّ يمتدُّ لآلافِ السنين. والميزةُ الأساسيةُ لهذه الثقافة، هي عيشُها الشكلَين العشائريَّ والقبائليَّ بنحوٍ وطيد، وأداؤُها دوراً ثورياً في اقتصادِ الزراعةِ والمواشي. لذا، فدورُ الكردِ في التاريخِ الثقافيِّ للشعوبِ يماثِلُ ويساوي ما لعبَته ثقافةُ الهلالِ الخصيبِ من دورٍ في تاريخِ البشرية. فهي ثقافةٌ محوريةٌ تاريخياً خلال الحقبتَين الميزوليتيةِ والنيوليتية (15000 – 3000 ق.م)، تَغذّت عليها جميعُ ثقافاتِ المجتمعاتِ النيوليتيةِ الممتدةِ من الصينِ والهندِ إلى أوروبا. هذا وبمستطاعِنا تشخيصُ آثارِ الانتشارِ والتوسعِ الثقافيِّ في هذه الأصقاع، سواءً بالأساليبِ الجينيةِ أم الأتيمولوجية. موضوعُ الحديثِ هنا هو ريادةٌ ثقافيةٌ مِحورُها الهلالُ الخصيب، عمرُها يقاربُ الاثنَي عشر ألفِ عام على وجهِ التخمينِ وحسبما شُخَّص. إننا لَم نَعثرْ في تاريخِ البشريةِ على أيةِ ثقافةٍ أخرى طويلةِ الأَجَلِ وشاملةٍ بهذا القدر، ومنورةٍ ومُدَفِّئةٍ ومُغذّيةٍ كالشمس. وحتى لو وُجِدَت، فأدوارُها محدودةٌ وسطحية”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى