آراء

هكذا يجب أن تكون «صفقة القرن»

إذا كانت التصريحات الأخيرة لجاريد كوشنر حول موعد نشر صفقة القرن جدية أكثر من سابقاتها، فيتوقع أن نطلع على الخطة في حزيران. التسريبات والنفي بخصوص ما تشمله الصفقة، يتركز على تفاصيل ثانوية وليس الجوهر والافتراضات التي في أساسها: هل الخطة سترتكز إلى تاريخ النزاع؟ أم على قرارات المجتمع الدولي؟ هل ستواصل النقاش من النقطة التي وصل إليها الطرفان في السابق؟ أو ستكون برميلاً مدهوناً باللون الأزرق والأبيض فقط، التي ستصب البنزين على الجمر المشتعل لمشاعر عدم الثقة المتزايد في أوساط الفلسطينيين والعرب، وتشعل مجدداً المعارضة ونشاطات الإرهاب في أوساط الفلسطينيين وتدفعهم هم وإسرائيل إلى جولة أخرى من المواجهات العنيفة؟ هل سنجر إلى كل ذلك من أجل العودة وتبني التفاهمات الأساسية لحل الصراع ـ بالعدل نصل إليه، مثلما قال حاييم وايزمن للجنة الانجلوأمريكية في 1946 والذي تم تبنيه في قرار التقسيم في 1947. المطالبات بفلسطين هي للعرب واليهود، لها مصداقية ولا يمكن تحقيقهما معاً. «من بين كل الاقتراحات التي طرحت، التقسيم هو الاقتراح العملي، وسيمكن من تحقيق جزء من المطالبات والطموحات القومية للطرفين».
الإجابة عن ذلك تكمن في فهم التوترات الأساسية التي عاشها الطرفان. سيكون للخطة احتمال بأن تقبل إذا أجابت عن هذه التوترات.
في اتفاق السلام بين إسرائيل ومصر كان التوتر الأساسي حول مسألة الأمن. وإسرائيل انقسمت بين الرغبة في إخراج مصر الأكبر والأهم من بين الدول العربية من دائرة الحرب وبين الخوف من نشر الجيش المصري على طول الحدود الغربية بسبب أنها عديمة العمق الاستراتيجي. المصريون من جهة أرادوا أن يعيدوا سيناء حتى ذرة التراب الأخيرة، ومن جهة أخرى خافوا من المس بسيادتهم عليها. مثلاً، إذا ما بقيت فيها منشآت إسرائيلية استخبارية. الحل وجد في تطبيق المادة في قرار 242 لمجلس الأمن التي نصت على أنه سيتم استخدام «وسائل منها خلق مناطق منزوعة السلاح». نزع السلاح من شبه جزيرة سيناء أجاب عن الحاجة المصرية لإظهار السيادة وكذلك الحاجة الأمنية لإسرائيل. هكذا أيضاً بخصوص اتفاق السلام بين إسرائيل والأردن الذي وقع في 1994. الطرفان أرادا اتفاق سلام، ولكن إسرائيل التي سحبت مياهاً من الأراضي الأردنية وسيطرت على أراضي في حدودها ـ أرادت الامتناع عن المس بصورة كبيرة بالمستوطنات الإسرائيلية التي قامت بفلاحة هذه الأراضي.
وفي المقابل، الأردن لم يرغب في التنازل عن الأراضي التي تقع تحت سيادته. الحل وجد على صيغة تبادل مناطق بحجم 16.5 كم مربع وتحويل مياه من إسرائيل إلى الأردن.
في السياق الفلسطيني، التوتر الرئيسي الذي تعيشه إسرائيل هو بين الرغبة في أن تكون دولة ديمقراطية، ذات أكثرية يهودية ومجتمع في أسرة الشعوب، الأمر الذي يقتضي انفصالاً سياسياً عن الفلسطينيين على أساس خطوط 1967، وبين المصالح الثلاثة التي تمس بالمناطق التي تقع خلف هذه الخطوط: الأمن، والأماكن المقدسة في القدس، والتحدي الذي يكمن في إخلاء مئات آلاف الإسرائيليين. في المقابل، الفلسطينيون تحت قيادة م.ت.ف يعيشون بتوتر بين الرغبة في دولة مستقلة على كل أراضي 1967 وبدون مستوطنات والتي عاصمتها في شرقي القدس، وفي حل مشكلة اللاجئين وبين المصالح والواقع الديمغرافي والجغرافي الذي أوجدته إسرائيل في الضفة.
مسألة الحدود هي التحدي الأكبر من بين المسائل الأربع الأساسية. الفلسطينيون يعتبرون مطالبتهم بحدود 1967 التنازل الأكبر الذي تم من قبلهم. أي أنهم قد تنازلوا عن 78 في المئة من أرض فلسطين الانتدابية (إسرائيل في حدود الخط الأخضر)، مقابل إقامة دولة على 22 في المئة من الأرض المتبقية، الضفة الغربية، بما في ذلك شرقي القدس وقطاع غزة. ويطالبون بصورة مبدئية أن تكون الحدود الدائمة حسب قرارات الأمم المتحدة. هذا ما كتبته مؤخراً لجنة الحوار مع المجتمع الإسرائيلي التي تم تشكيلها داخل م.ت.ف بتعليمات من الرئيس محمود عباس: «قرار الأمم المتحدة 242 من 1967 نص على عدم جواز احتلال أراض بطرق حربية، وقرار 19/67 من العام 2012 اعترف بالدولة الفلسطينية في حدود الرابع من حزيران 1967. وقرار 2334 من العام 2016 نص على أن كل الخطوات التي اتخذتها إسرائيل في المناطق المحتلة منذ حرب الأيام الستة تعدّ لاغية وغير قانونية»
في منطقة يهودا والسامرة يعيش 425 ألف إسرائيلي، وفي لواء القدس يعيش 222 ألف إسرائيلي، لا يمكن لإسرائيل مواجهة إخلاء بهذا الحجم. الصيغة التي وجدت لهذا التوتر هي المعيار المعروف «خطوط 1967 كقاعدة لتبادل أراض متفق عليه بنسبة 1: 1»، «حوالي 80 في المئة من المستوطنين في الضفة الغربية يعيشون في مستوطنات قرب الخط الأخضر، أي في مناطق يتوقع أن تكون مشمولة في تبادل الأراضي». على ذلك أضيف أن الحديث يدور حول 4 في المئة من أراضي الضفة، التي مقابلها إسرائيل يمكنها أن تحول منطقة غير مأهولة بمساحة مشابهة إلى السيادة الفلسطينية. هذه المساحة من تبادل الأراضي ستشكل نقطة التوازن للطرفين.
ثنائي مسألة الحدود، هو مسألة الأمن. عدم الاستقرار في المنطقة وصعود قوة جهات إسلامية راديكالية برعاية إيران، إلى جانب السيطرة الطبوغرافية التي تمكنها الضفة الغربية على السهل الساحلي في إسرائيل، لم يسمح لإسرائيل بالانسحاب إلى الحدود التي أساسها الخط الأخضر بدون ترتيبات أمنية واسعة. من ناحية الفلسطينيين، كل تقليص في أراضي الدولة الفلسطينية أو الإضرار غير المعقول بسيادتها غير مقبول. الرد على ذلك أعطي على يد نزع سلاح الدولة الفلسطينية من الجيش والسلاح الثقيل، واعتمادها على قوات أمن هدفها تطبيق القانون والنظام ومكافحة الإرهاب. كذلك، كما جاء في الكراسة: «القيادة الفلسطينية أعلنت أنها لن تدخل في أي تحالف عسكري يضعضع الاستقرار والسلام في المنطقة». بكلمات أدق، حسب مسودة المفاوضات في أنابوليس 2008، «يسري حظر على فلسطين بالتوقيع على تحالفات عسكرية مع دول ومنظمات معادية لإسرائيل. يحظر عليها التمكين من انتقال قوات عبر أراضيها أو المكوث فيها». هذا البند إضافة إلى بند مشابه وقع في اتفاق السلام مع الأردن، يمنح إسرائيل «عمقاً استراتيجياً مشروطاً» حتى الحدود الشرقية للأردن. بعد ذلك كتب في الكراسة الفلسطينية: «كذلك، أظهرت القيادة الفلسطينية الاستعداد للموافقة على الترتيبات الأمنية التي تستجيب للاحتياجات الأمنية للفلسطينيين والإسرائيليين».
من السهل أن نفهم بأن الأمر يتعلق بعلاقة «خذ وأعط» بين الطرفين لهذين الموضوعين. في حين أن إسرائيل مطلوب منها الموافقة على أن تكون مساحة الدولة الفلسطينية بعد تبادل الأراضي بمساحة الضفة الغربية والقطاع التي تم احتلالها في 1967 (6205 كيلومترات). مثلما تم الاتفاق في أنابوليس في 2008 بوساطة وزيرة الخارجية الأمريكية كونداليزا رايس، فإن الفلسطينيين مجبرون على نزع سلاح دولتهم بالإضافة إلى ترتيبات أمنية واسعة أخرى. الآن، في حين أن الفلسطينيين يتمسكون بهذه الموافقة فنتنياهو تراجع عنها، وهو يطالب بضم جميع المستوطنات دون تبادل للأراضي، وحق التدخل الأمني في الدولة الفلسطينية.
مسألة القدس هي في المقام الأول مسألة الحوض التاريخي والأماكن المقدسة فيه، التي جميعها خلف خطوط 1967. الفلسطينيون يحرصون على الإشارة إلى قرار مجلس الأمن رقم 252 من العام 1968 الذي ينص على أن كل الخطوات التي اتخذتها إسرائيل لمكانة القدس تعدّ لاغية، قرار 474 من العام 1980 الذي كرر سابقه، قرار 252، وحتى قرار 2334 من العام 2016 الذي يتطرق إلى الأحياء اليهودية كمستوطنات غير قانونية. رغم ذلك، الطرفان وافقا على تقسيم شرقي القدس (الذي تم ضمه لإسرائيل في 1967) بواسطة حدود تمر بين الأحياء اليهودية والأحياء العربية، في إطار تبادل أراض، أي العاصمة الفلسطينية ستكون في شرقي المدينة والأحياء اليهودية سيتم ضمها لغربي القدس.
الفلسطينيون أضافوا في الكراسة بأن «الموقف الفلسطيني الرسمي لا يعارض أن تبقى مدينة القدس مفتوحة أمام المؤمنين بالديانات الثلاث، بحيث يكون لكل منها حرية العبادة الدينية في أماكنها المقدسة». وحول الحوض التاريخي هناك احتمالان. الأول، التقسيم على أساس ديمغرافي، حائط المبكى وجبل صهيون والحي اليهودي ونصف حي الأرمن تبقى تحت سيادة إسرائيل. الثاني، إدارة مشتركة أو إدارة بواسطة طرف ثالث للحوض التاريخي كله مع الحفاظ على الوضع الراهن الإداري للأماكن المقدسة.
مشكلة اللاجئين تضم في ثناياها توتراً هو نتاج من جهة المطالبة الفلسطينية بتطبيق ما جاء في المادة 11 في القرار 194 للأمم المتحدة في العام 1948 والذي حسبه «اللاجئون الذين يريدون العودة إلى بيوتهم وأن يعيشوا بسلام مع جيرانهم يجب تمكينهم من فعل ذلك في أقرب وقت ممكن». ومن جهة أخرى تهديد الهوية اليهودية لدولة إسرائيل بسبب عودة ملايين اللاجئين الفلسطينيين. الرد الذي وجد لهذا التوتر يكمن في نهاية هذا البند: «تعويض يدفع مقابل الأملاك للذين يختارون عدم العودة ومقابل خسارة أو ضرر تم التسبب به لتلك الأملاك». أي أن اللاجئين الذين يريدون ذلك يمكن استيعابهم في الدولة الفلسطينية في أراضي الضفة الغربية والقطاع التي فيها يعيش أصلاً 40 في المئة منهم. الآخرون يمكنهم اختيار البقاء في الدول المستضيفة أو الهجرة إلى دولة ثالثة والحصول على التعويض. عدد اللاجئين الذين سيعودون إلى إسرائيل قليل. الطلب الفلسطيني الأقصى لم يتجاوز في أي يوم 100 ألف شخص، في حين أن عرض إسرائيل بلغ 5 آلاف شخص على الأكثر.
هنا يمكن بسهولة تشخيص العلاقة المتبادلة بين الموضوعين ـ موضوع القدس وموضوع اللاجئين. إسرائيل مطلوب منها الاعتراف بعاصمة فلسطينية في شرقي المدينة (مع ضم الأحياء اليهودية وتطبيق ترتيبات خاصة في الأماكن المقدسة)، وفي المقابل، على الفلسطينيين التنازل عن أن يطبقوا فعلياً ما يسمونه «حق العودة» إلى إسرائيل.
في هذه الصفقة الفرعية تحظى إسرائيل بتحسين الميزان الديمغرافي لصالح اليهود مقابل استيعاب لاجئين (التقدير هو أنه سيتم استيعاب بضعة عشرات آلاف اللاجئين) وذلك بفضل سحب مكانة الإقامة من 350 ألف فلسطيني الذين يعيشون في شرقي القدس، مقابل أن يحصلوا على الجنسية الفلسطينية. والفلسطينيون الآن في هذا السياق يتمسكون بهذه الصفقة المذكورة أعلاه، في حين أن نتنياهو يرفض بشدة أن يخضع القدس للمفاوضات.
إذا كان الأمر كذلك فيجب على دونالد ترامب أن يوفر عليه مخططاته الاقتصادية والاجتماعية وعدم عرض خطط لاتفاقات انتقالية. الفلسطينيون شبعوا من استمرارية «الفترة الانتقالية» التي ارتفع فيها عدد الإسرائيليين في الضفة الغربية من 225 ألف شخص إلى 645 ألف شخص. ترامب لا يمكنه قبول موقف نتنياهو بشكل كامل ـ ولا حتى جزئياً ـ بخصوص الحدود والقدس. إذا وافق عليه فكأنما يقول إنه لا يوجد أي وزن للقرارات الدولية والقانون الدولي التي هي المعايير الحصرية للاتفاقات العادلة.
يجدر أن يعرض ترامب على الطرفين صيغة تشمل المعايير التي تم الاتفاق عليها بشأن القضايا الأربع الأساسية، وهي حدود 1967 كأساس وتبادل أراض متفق عليه بنسبة 1: 1 ودولة فلسطينية منزوعة السلاح وترتيبات أمنية أخرى، وعاصمتان في القدس وترتيبات خاصة للأماكن المقدسة، واستيعاب معظم اللاجئين في الدولة الفلسطينية ومنح التعويضات.
اتفاق على تفاصيل هذه المسائل في مفاوضات تسمح بأن تحدد أن الاتفاق يشير إلى نهاية النزاع ويضع حداً للطلبات والدعاوى، وأن إسرائيل وفلسطين هما دولتا القومية اليهودية والفلسطينية على التوالي، مع الحفاظ على المساواة في الحقوق الكاملة لجميع مواطنيهما. من أجل ذلك، مطلوب من ترامب تجنيد دعم العالم العربي لهذه العملية ثم التطبيع مع إسرائيل، والتزام المجتمع الدولي والولايات المتحدة على رأسه، بوساطة نزيهة ودعم عسكري واقتصادي لإسرائيل وفلسطين. كل خطة أخرى احتمال فشلها عال جداً. والأخطر من ذلك سيكون من شأنها أن تخرج المارد من القمقم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى